09-أكتوبر-2022
حي القصبة بالعاصمة الجزائرية (الصورة: باتريك باز/أ.ف.ب)

حي القصبة بالعاصمة الجزائرية (الصورة: باتريك باز/أ.ف.ب)

أثار مقطع فيديو تعجب واستغراب رواد التواصل الاجتماعي والمهتمين، ظهر فيه شاب جزائري مهاجر غير نظامي بباريس يتحدث بلغة عامية غير مفهومة وهجينة وغريبة، جاء في تدخله عن الديار الغربة "هذي شربة ما شي غربة" "ما دورتش زربوطك ڨنكيليو تروا زيلو خباط الماء"، لغة وصفها رواد المواقع سوشيل الميديا "بلغة مخربقة" أقرب إلى لهجة مشفرة.

يرى شباب من الجيل الجديد أن لغة التواصل الجديدة فرضته اللغة الإلكترونية ومواقع الفضاء الافتراضي

باتت اللغة العامية أو الدارجة المتداولة سواءً في الفضاء الإعلامي والسينمائي، أو في التواصل اليومي بين الفئات المجتمعية محل اهتمام مختصين ومتتبعين في المجال، هذا الانشغال جاء نتيجة التحولات في اللغة الشارع المستعملة، والمصطلحات التي أدخلت على القاموس العامي.

زوال اللغة العامية الدارجة؟

في هذ السياق، تتباين الآراء والمواقف حول هذا "الانفلات اللغوي"، إذ يعتقد طرف من الجيل القديم أن الظاهرة تمثل تراجعًا كبيرًا في المخزون اللغوي المحلي، التي تزخر به اللغة العامية أو اللهجة الجزائرية بمختلف طبوعها المحلية، كالوهرانية أو التلمسانية أو الشاوية أو الميزابية أو الترقية أو العاصمية.

في المقابل، ترى فئة التي تنتمي إلى جيل الشباب أن لغة التواصل الجديدة جاءت وفق نمط الحياة الاستهلاكي السريع، وفرضته اللغة الإلكترونية ومواقع الفضاء الافتراضي.

ويعز الخبراء انتشار هذه اللغة وسط الشباب، إلى وجود مرجعية قاموسية، ونماذج فنية وغنائية تحاول التمرد على الطابع التقليدي في التعبير، من أجل التميز والانتماء إلى الموضة والعولمة، وإيجاد لغة مغايرة في صياغة المشاكل الحياتية، وعلى ضوئه تتم استخدام لغة مشفرة ومبهمة وغامضة.

علاوة على ذلك، تعمل الطبوع الموسيقية والغنائية الجديدة، على غرار أغاني "الزنقاوي" وأغاني الملاعب" وسهرات الملاهي، والتي تعرف صعودًا واسعًا على مواقع السوشيل ميديا، حيث أصبحت تلك الأغاني مرجعية وخلفية في استعمل القاموس اللغوي الهجين، وكنتيجة لتناوله لمشاكل اليومية للشباب كالبطالة والحرڨة والسجن والحرمان من الحب، إذ أمست تلك الأغاني تلامس واقع الشباب لم يعيشها الجيل القديم.

لغة خشنة وفجة

في هذا السياق، يَصف طاطا طاهر، وهو موسيقار هواي وكاتب أغاني الفن الشعبي، أن اللغة أو الهدرة المستخدمة اليوم من طرف الشباب في التواصل هي لغة هجينة، قبيحة، تعابيرها فارغة وغير منسجمة ـ

مستدل في هذا الإطار بكلمات متداولة على غرار "نافيكي" تعني العمل، "شريكتي" تعني الصديقة، "زيكلي" تعني أعطيني، "الشكارة،" و"العط" ويقصد بها المال.

 مضيفًا أن اللغة العامية سابقًا كان أكثر نضجًا وثراءً، فالجميع يقول " اتكل على ربي" بدل "نافيكي" أو عاوني بدل "زيكلي"، والفلوس عوض الشكارة أو العط.

 وأشار محدثنا أن اللهجة العامية سابقًا، كانت تحمل مخزن وتراث لغوي غني، منسجم مع الهوية والشخصية ومفهومة الدلالة، حتى عند الأوساط غير المتعلمة.

وتابع أن اللهجة التي باتت مستخدمة في حياتنا اليومية جافة وخشنة وقبيحة، فقَلً استخدام عبارات التسامح والترحيب كـ من فضلك، مسامح، تبارك الله عليك، شكرًا أو الدعاء بالتوفيق (دعاوي الخير) التي كان يتبادلها الجيران والأقارب معًا.

وأعاب طاطا على الأغاني المتداولة حاليا، والبرامج الاجتماعية في الفضاء الإعلامي، والبحث عن الإثارة والفضيحة، دون المرور على الرقابة.

وقال المتحدث أن الفن الشعبي يحمل تراثًا ثقافيًا وصوفيًا ورومنسيًا، يعتني بالكلمات والأشعار، في المقابل ما هو شائع وذائع اليوم على الشاشة والتيك توك، محتوى لغوي يتضمن مواضيع العنف والجريمة والعنصرية والكراهية تجاه الغير ومعاداة المرأة والعائلة. وكل هذا يحتاج إلى توظيف لغوي يستخدم بعدها في الفضاء العام من طرف الشباب.

ودعا المتحدث بالمناسبة إلى المحافظة على التراث اللغوي المحلي واللهجة العامية وتدرسيه في المدراس الابتدائية.

 الدراجة في المدرسة

في سياق متصل، سبق وأن أثار إدماج اللغة العامية وتعابير اللهجة في المدرسة الابتدائية جدلًا واسعًا على المواقع الاجتماعية في الجزائر، بين مؤيد ومتحفظ، فالفرد الجزائري بات يعيش تناقضات لغوية بين البيت التي يتواصل بها بالعامية، والمدرسة أين يلقن العربية الفصحى والفرنسية والإنجليزية في المرحلة الابتدائي، ما يخلق حسب مختصين اضطربًا أو انفصامًا لغويًا.

وبعيدًا عن الجدل القائم حول إدراج العامية أو لغة الأم، كطريقة سَلسَلة في التعليم والتلقين بدل اللغة العربية الكلاسيكية، فإن إدراج الخطاب العامي التعليمي من شأنه استقامة اللسان وتطويره إلى تبني لغات عالمية، والقدرة على حسن الخطاب، وقد يعتبر سدا إلى التهجين اللغوي الذي نشهده اليوم.

ويرى المدافعون عن اللغة العامية، أنها كانت دائما حمالة للقيم التراثية والحضارية والروحية والمتسامحة ونمط العيش، علاوة على ذلك تحمل معاني رمزية وقيمية، وهي ليس منافسة للغة العربية، على العكس هي مشبعة بالمصطلحات العربية المُدَرَجَة.

 هنا، يستشهد مختصون بالأعمال السينمائية والمسرحية فترة السبعينيات والثمانيات والتي كانت تستخدم اللغة العامية في كتابة السيناريو وكيف استطاعت أن تتواصل مع المشاهد والجماهير عبر استخدام لهجة عامية راقية تعبر عن انتماء اجتماعي راقي، رغم الانتساب إلى الوسط الحضري المتوسط أو الريفي.

 أغاني الزنقاوي

من جانبه، انتشر في الساحة الفنية خلال الأعوام الأخيرة، طابع جديد من الأغاني يطلق عليه" الزنقاوي" وهي تسمية تستمد من اللغة العامية في إشارة إلى "الزنقة" التي تعني الشارع.

وقد تحمل كلمة "الزنقة" مفهومًا سلبيًا مقابل عبارة الحومة أو الكارتي "le quartier" اللذان يحملان معاني رمزية كالسكينة والاجتماع والانتماء، إذ يقال في العامية: "تروح تزنّق" أي الخروج إلى الشارع دون هدف أو غاية.

من جانبه، فإن انتشار الواسع لأغاني الزنقاوي اليوم يعود إلى القاموس الغنائي والكلمات التي تلامس وتعبر عن هموم فئات واسعة من الشباب، تحمل شعارات سياسية وهموم وطبوهات سوسيو-ثقافية، وهذا النوع من الغناء يقترن ويشترك مع الطباع "الراب" وراي الكباريهات في إيقاعه وطبوعه وخفته، ويتابعه جمهور يُعد بالملايين.

ولقد نشأ الطابع الغنائي "الزنقاوي" وسط مناصرين النوادي الرياضية ومدرجات الملاعب، إذ تشكلت في البداية مجموعات شبابية على غرار "أولاد البهجة"  تسجل أغاني تشجع النادي الكروي، وتحمل كلمات قاسية وصادمة تجاه المنافس، موازاة مع التطورات السياسية  تجاوزت تلك الفرق الغنائية مواضيع الكروية إلى الشعارات السياسية، والتعبير عن الأوضاع المعيشية وفق مصطلحات ومنطق "الألتراس"، قد يمليها شاب دون تكوين تعليمي، مقتبسة من لغات مختلفة إيطالية وفرنسية وإسبانية، وقد تحمل كلمات نابية وعنصرية شأن الأغنية المتداولة في ملعب وهران التي تحمل إساءة إلى "الشاوية".

وفي هذا الصدد، يرى مختصون أن طابع "الزنقاوي" ليس غناء الطبقات الفقيرة والمهمشة والهامشيةـ بل العكس يراه كثيرون من الخبراء أنه يحمل قالب غنائي فقير المحتوى، ضعيف الأداء الصوتي، عنيف وشاذ في العبارات، مضامينه لا ترتقي إلى التعبير عن الحب المجروح والمسكور، بل مجملها تحمل محتوى الانتقام والعداوة والكراهية ضد الآخر خاصة العنصر الأنثوي، وشرعنة استهلاك الممنوعات والتشجيع على الهجرة السرية.

في المقابل، هناك توجه جديد من مغني الطابع "الزنقاوي" يحاولون جعل الغناء الزنقاوي أكثر قبولًا اجتماعيًا ومضامينه اجتماعية ورومنسية لا تصطدم مع الوسط العائلي، على غرار المغني الجزائري "سولكينغ" أو جليل "باليرمو"، أو موح "ميلانو".

تعرف كل المجتمعات تحولات كبيرة في قاموسها العامي يوميًا وتعمل على ترقيته 

على العموم كل المجتمعات عرفت تحولات في قاموسها اللغوي الشارعي وكيفية التواصل اليومي بحكم تعدد اللهجات والثقافات، لكنها أدركت أن اللغة الشارعية أو العامية، تعد معيار الذوق العام وقيمة اجتماعية، لهذا تعمل على وضع آليات تعليمية وفنية وثقافية تُحسن من لغة التواصل المجتمع بعيدًا عن الاصطفاف الأيديولوجي.