06-مايو-2017

مسرح مدينة وهران الجزائرية (Getty)

لم تتعامل الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ الاستقلال الوطني عام 1962، مع الثقافة بصفتها نمط عيش وتفكير وسلوك فتوكلها لمبادرات المجتمع المدني المعني بها مباشرة، مثلما هو حاصل في معظم الدول المتقدّمة؛ وإنما بصفتها قطاعًا من القطاعات التابعة لها، مثل الفلاحة والسّياحة والدّفاع والصّيد البحري، فخصّصت لها وزارة وصية عليها، تتبعها مؤسسات وهيئات تشرف على تسيير نشاطاتها، والتكفّل برواتب العاملين فيها، ذلك أن هذا المفهوم السّلطوي يرى الثقافة نشاطًا يخلق الفرجة، لا فعلًا يخلق الوعي.

أصبحت الثقافة في الجزائر من الروافد التي تخدم استمرار النظام في الحكم

فكان من ثمار ذلك، أن أصبحت الثقافة رافدًا من الروافد التي تخدم النظام، واستمراره في الحكم، وشرح سياساته ومقولاته الأيديولوجية، وتبرير مواقفه وقراراته وقوانينه، ومنه يُصنّف المثقفين على أساس الولاء لا العطاء، فيعيش المثقف الموالي في بحبوحة من العيش، والمعارض محاصرًا وربما مسجونًا أو منفيًا. ويتجلى هذا التمييز أكثر ما يتجلّى في الجنائز، إذ تقام جنازة رسمية للأوّل، مع احتفاء الإعلام الرّسمي بها، فيما يدفن الثاني في صمت صارخ، ولعلّ موت المفكر محمّد أركون في عام 2010 أفضل ما يؤكد هذا.

اقرأ/ي أيضًا: الثقافة في الفضائيات الجزائرية.. "وجبة بايتة"

ولا تنسب المؤسسة الجامعية أو التربوية أو الثقافية في الجزائر إلى المدينة التي تقع فيها، كأن يقال جامعة قسنطينة أو مسرح قسنطينة، بل إلى أشخاص راحلين، تقوم الحكومة بانتقاء أسمائهم، لا على أساس مضمونهم العلمي أو الفني أو الثقافي، انسجامًا مع طبيعة المؤسسة التي يطلق عليها الاسم، وإنما على أساس مضمونهم السّياسي أو الأيديولوجي، وحتى إن كان مضمونًا مشرّفًا في سياقه، فهو ليس منسجمًا مع طبيعة المؤسسة التي ستنسب إليه، ما عدا أن ذلك يؤكد أن الشرعية الثقافية والأدبية والفكرية والفنية، لم تستطع أن تفرض نفسها في الجزائر، بعد ثلاث وستين سنة من الاستقلال أمام الشرعية الثورية.

فأية رسالة توجهها الحكومة لطالب جامعي، يدرس في جامعة تحمل اسم رجل ثوري لم يكن يعرف كيف يكتب اسمه، ولفنان ينشط في مؤسسة فنية تحمل اسم ثوري، لم يُعرف عنه أنه استهلك فنًّا أو أنتجه؟ لماذا لا تطلق، في المقابل، اسم فنان على ثكنة عسكرية أو فضاء بعيد عن الفن؟ علمًا أن هذا الخلط يشوّه الاسم الثوري أكثر ممّا يشوّه المؤسسة الثقافية، وهو الجدير بالاحترام، لأنه ساهم في تحرير المكان والإنسان.

نظرة النظام للمؤسسة الثقافية، جعلت منها معزولة عن الحياة العامة

وكان هذا التوجّه سيصبح مهضومًا، لو كانت هذه المؤسّسات الثقافية تقدّم برامج عصرية تنسجم مع التحوّلات التي عرفها الشارع الجزائري، وتواكب الفتوحات المختلفة التي يعرفها العالم، إذ كنّا سنقول حينها إن الأسماء الثورية التي تحملها تحيل على الذاكرة التاريخية، التي هي شطر من هوّيتنا الوطنية، فيما تحيل البرامج المقدّمة على الحاضر والمستقبل بصفتهما زمنين علينا أن نعيشهما بكلّ أعماقنا.

اقرأ/ي أيضًا: الجزائر.. إقامات إبداعية في المحبة

إنّ هذه النظرة الرسمية المتكلّسة للمؤسسة الثقافية، جعلت هذه الأخيرة معزولة عن الحياة العامّة، فهي تبدو في نظر الناس، خاصّة الشباب، أبراجًا عاجية تختصّ بنخب معيّنة، ولا يمكنهم دخولها.

وقد حدث أن كُنت واقفًا أمام عدة مسارح ومتاحف وقاعات ثقافة، فسألني أكثر من شاب: "نقدر ندخل؟"، وهو سؤال يدلّ على عمق هذه العزلة غير المبرّرة إلا من زاوية أن النظام السياسي القائم ظلّ يقتات على القطائع السّلبية بين الأجيال والمؤسسات والأفكار والنخب والأرصدة الحضارية المختلفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الآداب والعلوم الإنسانية في الجزائر.. إلى أين؟

"الفنون الجميلة" غير معترف بها في الجزائر!