مثلما لا يُمكن فصل الصّحراء عن النخيل، لا يمكن فصل منطقة القبائل في الشّمال الجزائري عن شجرة الزّيتون، فهي تتجاوز كونها معطًى فلاحيًّا واقتصاديًّا إلى كونها معطًى ثقافيًّا وحضاريًّا، إذ ترقى مكانة شجرة الزّيتون، في المخيال الأمازيغي، من حيث القداسة وارتباطها بالشّرف، إلى مكانة المرأة.
النّاشط آكلي منقوشة من جمعية "ثدوكلي" يقول إنّ امتلاك الرّجل الأمازيغي لعدد من أشجار الزّيتون مؤشّر على رجولته
من هنا، أقرّت "وثيقة كوكو" نسبةً إلى إمارة كوكو الأمازيغيّة عام 1749 حرمانَ النّساء من أن يرثن الأرض، حتى لا يؤول نصيبهنّ منها إلى أولادهنّ وأزواجهنّ الأجانب. وهم في تلك الحقبة العثمانيّون الأتراك الذّين كانوا يتحايلون على أخذ الأرض، من خلال الاقتران بنساء جزائريّات.
يقول النّاشط آكلي منقوشة من جمعية "ثدوكلي" إنّ امتلاك الرّجل الأمازيغي لعدد من أشجار الزّيتون مؤشّر على رجولته، وعلى ارتباطه بالأرض، "ولن تكتمل هذه الرّمزيّة إلّا بالحرص على خدمتها. فمن دواعي العار السّالب للرّجولة والمخلّ بالانتماء للأرض والعائلة والقرية أن يُهمل زيتوناته، فلا ينقّيها ولا يجني زيتونها. ولا أقول يحرسها، لأنّ المنطق السّائد هو ألا أحد يجرؤ على انتهاك حرمة شجرة الزّيتون بالرّعي والاحتطاب، وإلا تعرّض لعقوبة جماعيّة".
يواصل محدّث "الترا جزائر": "لقد حدثت تحوّلات وقطائع كثيرة بين الأجيال في منطقة القبائل، إلّا أن تقديس الزّيتونة وخدمتها امتدّا إلى الجيل الجديد، فلا فرق بين بين جيل وآخر في هذا الباب".
ما إن يحلّ موسم جني الزّيتون، وهو في العادة ما بين 29 تشرين الأول/نوفمبر و25 كانون الأول/ديسمبر، حتّى تتجنّد الأسرة كلّها للانخراط في مسعى الجني، بمن في ذلك الأطفال الصّغار، إذ يُصطحبون إلى غابات الزّيتون التّي تصبح بيوتًا بديلة للأسرة الأمازيغيّة، من شروق الشّمس إلى غروبها.
يقول النّاشط الثّقافيّ عدلان عرقوب، إنّه يغيب عن مناسبات كثيرة في الأسرة والقرية بحجّة أنّه مرتبط بالعمل، لكنّه لا يستطيع أن يتغيّب عن جني الزّيتون؛ "لا أفكّر في ذلك أصلًا، لأنّه يُفهم تخلّيًا عن الواجب وتفضيلًا منّي لعمل بسيط على عمل مقدّس، فيُنظر إليّ نظرةً مخلّة برجولتي وانتمائي، فأسرتي رغم أنّها غادرت القرية إلى المدينة، منذ نهاية ستّينيات القرن العشرين، إلّا أنّها لم تترك جني ما تملك من زيتون؛ فنحن ننتقل يوميًّا مسافة 60 كيلومترًا لنفعل ذلك".
إنّني لا أفضّل قهوةً ولا أكلةً، يواصل محدّث "الترا جزائر"، على القهوة والأكل اللّذين يُعدّان في غابة الزّيتون، على أغصان الأشجار المسنّة، فنحن نخضع لإكراهات العمل وما يفرضه من تباعد أسري، خلال الأشهر الإحدى عشر، لكنّنا نلتقي ونتواصل ونتحاور يوميًّا، خلال شهر جني الزّيتون. فشجرة الزّيتون تحافظ على تماسك شجرة العائلة".
وتكثر العطل المرضيّة في هذه الأيّام، بحسب محدّثنا، حتّى لا يتخلّف العامل المرتبط بإدارة معينة عن المشاركة في جني الزّيتون. كما يؤجّل البعض عطلهم السّنويّة لهذا الغرض. يتساءل: "هل يستطيع شخص أن يضحّي بعطلته الصّيفيّة، حيث البحر والأعراس، لأجل التقاط الزّيتون لو لم يرتبط لديه ذلك بالشّغف والقداسة؟".
ويشير النّاشط أيّوب عليات إلى أنّ العادة المعمول بها هي أنّ انطلاق موسم الجني يكون بإشارة من كبير القرية الذّي يسمّى بالأمازيغيّة "أمقران ن تدارث". ولا أحد يمكنه أن يخالف ذلك، فهو يعتبر عصيانًا تترتّب عنه عقوبة تسمّى "الخطيّة"، "غير أنّ هذا الأمر بدأ يختفي في بعض المداشر، بسبب أن كثيرين باتوا يربطون الشّروع في الجني بعطلة الشّتاء، حيث يصبح متاحًا لأطفالهم المتمدرسين أن يشاركوا".
من هنا، يقترح عليات على الحكومة أن تراعي هذا المعطى، وتجعل عطلة الشّتاء متزامنةً مع موسم جني الزّيتون، حتّى تبقى المناطق المعروفة به، سواء منطقة القبائل أو أي منطقة أخرى من الجزائر، محافظةً على العادات والتّقاليد والطّقوس المرتبطة بالعمليّة، بصفتها إرثًا ثقافيًّا مرتبطًا بالهوّيّة الوطنيّة.
وتذكر لنا الخالة مباركة سعدون، 75 عامًا، بعض العادات والطّقوس المرافقة لموسم جني الزّيتون، منها "ثيويزي" أو التويزة، حيث تدعو الأسرة قليلة العدد أسرًا أخرى لمساعدتها، على أن تساعدها هي الأخرى لاحقًا، "فتحصل البركة بتكاتف الجهود وتبادل اللّقمة، حيث نداوم على "ثرموشث" وهي مرق يعدّ في المنزل بالبطاطا والفلفل الأحمر الحارّ المجفّف.. ومعه "أغروم أقوران" أو الكسرة، ويُسخّن في غابات الزّيتون على الحطب اليابس، متبوعًا بقهوة الغلّاية".
وتضيف: "نفضّل ترك الزّيتون الذّي جمعناه في البيت لمدّة طويلة، حيث يوضع في سقف خشبيّ يكون عرضة للمطر وللثّلوج لأنّ الغلّة تزيد كلّما زادت مدّة تعريضه لماء المطر والثلج. لذلك لا تفتح المعاصر التّقليديّة إلّا أواخر شهر فيفري وبداية شهر آذار/مارس، فتستقبل النّسوة الزّيت الجديد بالزّغاريد، وبقدور طينيّة كبيرة".
وما إن يدخل الزّيت الجديد البيتَ، تختم الخالة مباركة، حتّى يستعمل في أكلات تقليديّة لتحصل البركة، مثل "ثيغريفين" أو البغرير، و"وبركوكس" و"الكسكسيّ" و"رفيس تونسي".
ظل موسم جني الزّيتون يكتنز عاداتٍ وتقاليدَ وطقوسًا تشكّل تراثًا ثقافيًّا وحضاريًّا جديرًا بتصنيفه من طرف الحكومة
لم تعد شجرة الزّيتون، في الآونة الأخيرة، مرتبطةً بمنطقة القبائل وحدها، فقد صارت معمّمةً على المناطق الأربع للجزائر، بما فيها الصّحراء، وظل موسم جني الزّيتون يكتنز عاداتٍ وتقاليدَ وطقوسًا تشكّل تراثًا ثقافيًّا وحضاريًّا جديرًا بتصنيفه من طرف الحكومة وترشيحه، ضمن منظّمة اليونيسكو، ليكون تراثًا إنسانيًّا.