تتوفّر المدوّنة الشّعبية في الجزائر على رصيد ثري من المحكيات والحكم والأمثال والأساطير، التي تعتبر الشجرة كنزًا مقدّسًا، وتربط جذور الفرد والعائلة بجذورها. ومنها جاءت عبارة "شجرة العائلة"، "بل إن قيمة الرجل في الجنوب يُحدّدها، إلى جانب السّيرة الحميدة، عدد ما يملك من أشجار النخيل، وفي الشّمال عدد ما يملك من أشجار الزيتون، فهما مصدر رزق وزينة" يقول الحاجّ مكي شيهب (1928).
يتوفر الفضاء الجزائري على 30 مليون زيتونة تقريبًا وهي ثمرة لجهد شعبي ترجم علاقة الإنسان الجزائري بهذه الشّجرة
يُعطي محدّث "الترا صوت" أمثلة على تقديس الجزائريين للشجرة بالقول: "يتجنّب الرّعاة الأرض المشجّرة بينما يبتذلون الأرض العارية. ويتبرّكون بالشّجرة المغروسة عند ضريح الوليّ الصّالح ويعتبرونها ممثلته فوق الأرض، وقد بايع النّاس الأمير عبد القادر عام 1832 تحت الشّجرة. كما أن الجزائري قد يتسامح مع سارق أغراضه ما عدا من يسرق شجرته".
اقرأ/ي أيضًا: سوق حمّام الضّلعة في الجزائر.. طقوس الجماعة
إذا استثنينا عددًا بسيطًا من أشجار الزّيتون ساهمت الحكومة في غرسه على مدار سنوات الاستقلال الوطني، فإن 30 مليون زيتونة يتوفّر عليها الفضاء الجزائري، هي ثمرة لجهد شعبي ترجم علاقة الإنسان الجزائري بهذه الشّجرة. خاصّة في المناطق التي يُشكّل الأمازيغ أغلبية فيها. والدّليل أن نسبة الأشجار المغروسة حديثًا لا تمثّل سوى 17 %، بينما تمثّل الأشجار متوسّطة العمر 58 % والأشجار المعمّرة 25 %.
سمح هذا العدد من أشجار الزّيتون للجزائر، والذي يكاد يساوي عدد السكّان، بأن تكون رائدة متوسطيًا وعربيًا وأفريقيًا في مجال صناعة الزّيتون. إذ بلغت كمّية المحصول، حسب أرقام وزارة الفلاحة والتّنمية الرّيفية 4.5 مليون طن من الزّيتون، 33 % منها يُخصّص لزيتون المائدة فيما يتمّ عصر البقيّة. وهو بهذا يمثّل 15 % من المنتوج الفلاحي للبلاد.
مع بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر من كلّ عام، تتغيّر الحياة في المناطق التي تملك علاقة بأشجار الزّيتون. إذ تصبح مبرمجة على حركة خاصّة، تبدأ بإقدام أعيانها على جمع المال من السكّان، كلّ حسب قدرته، لشراء رؤوس من الماشية، عادةً ما تكون ثيرانًا، وتوزيع لحمها عليهم، في تظاهرة يحضرها حتى أبناء القرية المقيمون بعيدًا عنها، تسمّى بالأمازيغية "ثيمشراط"، "فيتساوى الفقير والغنّي، ليلتها، في أكل اللّحم وحمد الله على وفرة المحصول والدّعاء أن يحميه من النّوائب المحتملة"، بحسب النّاشط وليد بورزاح.
تغلب روح العائلة على النّاس، يضيف محدّث "الترا صوت"، فيخرجون إلى غابات الزّيتون مع الفجر الباكر، فلا يبقى في القرية إلا من تعذّر عليه ذلك من الموظّفين والمتمدرسين. أمّا المسنّون والأطفال الصّغار بما فيهم الرضّع، فإنّهم يرافقون الأسرة أيضًا. يشرح الوضع: "تصبح غابة الزّيتون لدى السكّان في الفترة التي ينضج فيها بديلًا للبيت طيلة النّهار، فالأكل يُطبخ أو يُسخّن فيها، والأمّ ترضع صغيرها فيها".
تنتمي الثقافة الأمازيغية إلى الثقافات التي تأخذ الأم هامشًا أكبر من الأب في القيام بشؤون البيت والتصرّف فيها وهذا ما يُفسّر سيطرة النساء على عملية جني الزيتون بكل تفاصيلها
هنا، تجدر الإشارة، يقول الفنّان والباحث علي عبدون لـ"الترا صوت"، إلى أن الثقافة الأمازيغية تنتمي إلى الثّقافات الأموسية. حيث تأخذ الأمّ هامشًا أكبر من الأب في القيام بشؤون البيت والتصرّف فيها. وهذا ما يُفسّر، بحسبه، كون النّساء مسيطرات على عملية جني الزّيتون بكلّ تفاصيلها ومراحلها.
وقف "الترا صوت" على هذا المعطى في القرى الشّرقية لمحافظة البويرة، إحدى المحافظات الأمازيغية الرّئيسية في الجزائر. إذ تصطحب كبيرة البيت زوجات أولادها وأحفادها إلى غابة الزّيتون مع شروق الشّمس. مثلما هو الحال مع الخالة سعدية، 72 عامًا.
اقرأ/ي أيضًا: أن تفقد جدتك الأمازيغية
كانت بفساتينها المزركشة على عادة الأمازيغيات الجبليات، تسبق الجميع على حمار لها، إذ ليس من عادة الأمازيغ أن يربّوا إناث الحمير. وكانت تحمل فوقه غطاء بلاستيكيًا كبيرًا لتسقط حبّات الزّيتون فوقه، وإبريقي حليب وقهوة وخبزًا معجونًا في البيت وأطباقًا أخرى. تقول: "نحرص على أن نأكل جيّدًا في البيت حتى لا نجوع باكرًا. وعلى إعداد ما نأكله في غابة الزّيتون حتى لا نضطر إلى العودة قبل ميلان الشّمس إلى المغيب. لا بدّ من استغلال هذه الأيّام المشمسة في جني أكبر كمّية من الزّيتون، فقد تداهمنا موجة مطر أو ثلج، ويبقى شطر من المحصول عالقًا".
ذكرت الخالة سعدية سببًا آخر للتّسريع من وتيرة الجني، وهو ضمان دور متقدّم في معصرة الزّيتون، "فأصحاب المعاصر صارمون في احترام الأدوار. وإذا حدث أن تأخّرنا، فسيكون الزّيت الجديد قد عمّ في السّوق، ونخسر الكثير بهبوط أسعاره". من هنا، تقول الخالة سعدية، نلجأ إلى "الثويزة" وهي أن تساعد الأسر بعضها في عملية الجني حتّى لا تطول مدّته. كما أنّنا نستعين على الأمر بالغناء. تسأل: "هل تدري من هو المحروم؟ هو من لم يتذوّق زيتًا لم يجنه الغناء".
نجني سنويًا ما يُقارب عشرة قناطير من الزّيت، تقول محدّثة "الترا صوت"، نحتفظ منها بقنطار واحد للاستهلاك الأسري، ونبيع البقية لصاحب المعصرة نفسه، وعلى جنبات الطريق السّيار. تضيف: "ما أجنيه من بيع الزّيت يفوق مرّتين ما يتقاضاه أبنائي الثّلاثة من وظائفهم عند الحكومة، وببركته استطعت أن أزوّجهم وأبني لهم بيوتًا".
تتحدّث الخالة سعدية عن شجرة الزّيتون كما لو كانت ابنتَها أو أمَّها. وعن زيت الزّيتون بصفته ذهبًا سائلًا، "وإن كان أحفادي سيذكرونني بالخير مستقبلًا، فلأنني جعلتهم يتعلّقون بالزّيتون ويحبّونه، ولا يجدون حرجًا في خدمته وجنيه وبيعه". تشرح: "معظم لباسهم وحليّهم وسيّاراتهم وأغراضهم منه. يا "مِّي"/ ولدي، ما أصيب بجوع أو عري من ملك الزّيتون".
اقرأ/ي أيضًا:
الجزائر تقر رأس السنة الأمازيغية عيدًا وطنيًا.. نهاية الجدل؟
شعر أمازيغ الجزائر.. ذاكرة الألم