يمكن اعتبار الممثل سليمان بنواري (1983) ابنًا للمسرح بالدرجة الأولى، فقد وُلِدَ شغفه على الركح خلال مرحلة الطفولة، حين التحق خلال دراسته الابتدائية بجمعية نشاطات شباب البلاغ بقرية حمام قرقور بولاية سطيف، وهي قرية داخلية صغيرة شرق الجزائر، اشتعلت فيها رغبته الأولى في الفن، وعاد إليها وهو شاب محترف ليوقظ فيها مواهب فنية أخرى من خلال نشاطه الجمعوي والفني.
سليمان بنواري: الفن في النهاية خيار شخصي وعلى المرء أن يتحمل مسؤولية خياراته، لكن هذا لا يخفي كارثية حال الفنان في الجزائر
التحق سليمان بنواري خلال دراسته الجامعية بالمعهد العالي للفنون الدرامية، أو ما يسمى حاليًا بالمعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري، حيث كان ينتمي إلى دفعة (2004/2003) التي تخرج منها سنة 2007.
شارك هذا الفنان خلال سنة تخرجه في عدة أعمال بالمسرح الوطني، لكن انطلاقته الحقيقية في المسرح المحترف كانت سنة 2009، رفقة المخرج العراقي فاضل عباس في مسرحية "مسرى"، ثم لعب بعدها العديد من الأدوار، منها مسرحيتي "كلام"، "شخوص وأحداث"، واشتغل كمساعد مخرج في مسرحية "فوضى" مع المسرح الوطني دائمًا، لينتقل بعدها إلى بعض المسارح الجهوية مثل مسرح معسكر سنة 2012، من خلال مسرحية "مرآة"، ومسرح باتنة من خلال مسرحية "جرعة حقيقة"، إضافة إلى عروض أخرى في مسرحي سعيدة وسكيكدة الجهويين.
خلال سنة 2007، مثّل سليمان بنواري في فيلم "ڨابلة" للمخرج طارق تڨية، ثم عاد بعد انقطاع قصير في عدة أعمال ثورية مع المخرج أحمد راشدي، فلعب دورا في فيلم كريم بلقاسم، وأدى شخصية الشهيد العربي بن مهيدي في فيلم العقيد لطفي، كما اشتغل في فيلم "أسوار القلعة السبعة" لنفس المخرج.
كانت للفنان أيضًا تجربة في عدد من الأفلام القصيرة، أهمها الفيلم القصير "سيعود"" للمخرج يوسف محساس، وقد نجحت عروضه كثيرا، كما أشيد به في العديد من المهرجانات محليا ودولي، لكن أول دور أساسي له في السينما كان من خلال فيلم الفيلم الروائي الطويل "أبو ليلى"لأمين سيدي بومدين رفقة إلياس سالم، ويعد هذا الدور انطلاقته الحقيقية في احتراف التمثيل السينمائي.
____________
هل تظن أن دراسة الفنون الدرامية ضرورة للممثل أم أن الموهبة وحدها كافية لاحتراف التمثيل؟
أعتقد شخصيًا أن الموهبة وحدها غير كافية، إلا أنها ضرورية جدًا قبل أي تكوين، لأن غيابها لا يصنع ممثلًا من العدم، لكن وجب أن تصقل المواهب من خلال تكوين جاد واحترافي، لأن كل مجال في هذه الحياة قائم على علوم وجب تلقينها وتلقيها، كما أن الأداء التمثيلي يعد فنًّا قائما في حد ذاته، وعلمًا يحتوي على تقنيات معينة وقواعد وجب معرفتها، ما يجعل الممثل متمكنًا بأدائه، وبتحليله وتقمصه للشخصية التي يؤديها وللعمل الفني الذي يعمل عليه، لهذا لابد للفنان من التكوين، سواء كان ذلك عبر معاهد التمثيل أو التكوين الفني الخاص، شرط وجود مؤطرين محترفين يلقنونه ما يجهله من خبايا هذا المجال.
كيف ترى وضع الفن والفنانين في الجزائر ؟
دعيني أولًا أفصح بأنني أمقت في الحقيقة لقب "فنان" ولا أعتبر نفسي كذلك، لا أعلم السبب، لكن هذه الصفة لا تمثلني نظرًا لما نعيشه ونراه في هذا المجال.
إن وضع الفنان كارثي بكل المقاييس في بلد بحجم قارة، وطن له من التاريخ ما يجعله عظيمًا، حتى أن ثورته التي عرفها العالم أجمع عرفت أعمالا فنية كثيرة خلدتها، لكن منذ الاستقلال وإلى غاية اللحظة، لم تظهر بوادر قانون يحمي الفنان، ولا نقابة تدافع عن حقوقه، مع نكران كلي لهذه المهنة باعتبارها عملًا نبيلًا وجبت الإشادة به والالتفات إلى رواده.
شخصيًا، لا أحب الشكوى كثيرًا من هذا الوضع المزري وأفضل الاتجاه أكثر إلى العمل، لأن الفن بالنهاية خيار شخصي، وعلى المرء أن يتحمل مسؤولية خياراته، لكن هذا لا يخفي كارثية حال الفنان في الجزائر.
يتأثر الفن كثيرًا بحال الفنان، كما أن هنالك انسلاخًا مجتمعيًا كبيرًا عن الهوية الحقيقية للجزائري، ويمتد هذا الانسلاخ إلى الفن أيضًا، وإن كان مفهوم الهوية نسبي ويختلف بين شخص وآخر، لكنني أجزم أن هذا الانسلاخ قد عظم، وامتد نحو ما نملكه كشعب من إرث كبير في الفن والموسيقى والتقاليد المجتمعية الجميلة.
مع الأسف، ينساق الكثير من الفنانين خلف النزعات العابرة المفرغة من كل عمق، ويبتعدون جدًا نحو أمور تجارية محضة، ما يجعل وضع الفن مزرياً، حاله حال الفنان في هذا البلد.
• هل استطعت التوفيق بين وظيفة المكتبة البلدية وبين التمثيل، وهل ساعدتك مهنتك على اكتشاف نصوص أو كتب ساعدتك في تطوير فنك ؟
لقد توظفت في الحقيقة لأسباب شخصية كثيرة، لكن السبب الأصلي يكمن في الظرف العام الذي يعيشه الفنان خلال مشواره الفني.
أظن أن اللجوء إلى الوظيفة كان بمثابة محاولة تأمين لحياتي الأسرية الخاصة، لأن الفنان الذي يقرر تكوين عائلة عليه يأخذ بالاعتبار مسؤولية الأبناء ومستقبلهم، فلا ذنب لهم في حبه الشخصي للفن وما يترتب عن خياره ذاك من عوز وبطالة ومشاكل تعرفها حياة الفنان، أظنّ أن الوظيفة في الحقيقة هي ضمان نسبي لعيش مستقر.
مع الأسف، لا تحتوي المكتبة حيث أشتغل عما قد نتصوره من نوعية الكتب التي قد تساهم في منح الالهام للفنان، لأن معظمها كتب مدرسية موجهة للتلاميذ، إضافة إلى طبعات تابعة لوزارة الثقافة، من مذكرات وكتب تاريخية مكررة المحتوى، لا أنكر فائدتها، لكنها للأسف لم تستوقفني ولم أجد فيها ما قد يكون نصًا للمسرح أو فكرة لفيلم سينمائي.
• هل تقل فرص الفنان في أعمال جيدة حينما يبتعد عن العاصمة؟ وهل من نشاط ثقافي محلي تحاولون من خلاله الخروج بالمنطقة من العزلة الثقافية التي تعاني منها كل المناطق الداخلية ؟
من المؤكّد أن مشكل المركزية يمس كل المجالات تقريبًا في بلادنا، ولن يكون الفن استثناء لها، نحن نعاني كثيرًا لأن كل الأعمال الكبيرة التي تستهلك ميزانيات ضخمة تدار من العاصمة، كما أن أغلب المنتجين يتمركزون هناك، وهو ما يؤثر سلبًا على الممثل القاطن بعيدًا عن العاصمة، بالرغم من وجود مسارح جهوية تمنح الفرصة للعديد من المواهب للظهور على الركح، لم نكن لنكتشفها في مجالات تمثيلية أخرى كالدراما والسينما لولاها، فعلى الأقل، تمثل هذه المسارح قواعد صلبة انطلق منها العديد من الفنانين وكانت بمثابة المشتلة التي رعت المواهب خلال نموها.
كنتُ مقيمًا في الجزائر العاصمة، وبعد عودتي لظروف شخصية إلى قرية حمام قرقور، رجعت إلى الجمعية التي كبرت وتربيت فيها.
أنا مدين دائمًا إلى ما قدمته لي جمعية "نشاطات شباب البلاغ"، لهذا حاولت أن أضع برنامجًا خاصًا هناك ننشط من خلاله، ونركز فيه على الجيل الجديد من أبنائنا، لأنهم سيكونون ركيزة المجتمع في المستقبل، وحينما تعرض أمامهم أعمالنا سيمنحهم ذلك أملًا كبيرًا في أن ينجحوا هم أيضًا يومًا ما.
قد لا نصنع منهم شخصيات عظيمة، لكننا نحاول على الأقل أن نحسن الذوق العام لدى هؤلاء الشباب والأطفال، وأن نعرفهم بأهمية وجود السينما في مجتمعنا، وأن هنالك فنانين جادين وجب أن نعرف ما يقدمونه في هذا المجال.
وفرنا في دار الشباب الخاصّة بالقرية خشبة للتمثيل، كما حاولت أن أمنحها روح الركح المسرحي، لتشجيع المواهب التمثيلية لدى الشباب ومنحهم الإحساس بالوقوف على مسرح حقيقي، وأتمنى أن نواصل العمل على تشجيع الأعمال الفنية الهاوية من عروض وأفلام قصيرة تعرّف بالمنطقة وبطاقاتها الشابة، لكن الهدف الأسمى يكمن في الوقوف في وجه التدهور الكبير الذي يشهده الذوق الفني العام.
سليمان بنواري: أظن أن تجارب علولة وعز الدين مجوبي وامحمد بن قطاف وغيرهم، كان لها تأثير كبير على المجتمع بأكمله
• يعتبر جان جاك روسو أن دور المسرح يقتصر على تقديم نوع من المتعة واللذة الحسية فقط ولا يمكن له أن يكون جزءًا من حركية مجتمع ما. من خلال تجربتك المسرحية، هل تظن أن الفن السابع قد يسهم في حركية مجتمعية ثقافية و سياسية وحضارية؟
أختلف كثيرًا مع مقولة هذا الفيلسوف، وأظنها قد أثارت جدلًا كبيرًا أيضًا لدى فلاسفة آخرين، فقد لا نرى في الواقع أثرًا مباشرًا وسريعًا للمسرح في المجتمعات الإنسانية، لكن الفن باعتباره وسيلة مقاومة، له من السلطة البالغة ما يمنحه قدرة عظيمة وناعمة تؤثر إيجابًا على هذه المجتمعات، في المقابل هو أداة حرب استُغِلّت كثيرًا في الثورات، مثل ثورة الجزائر، فكان لدينا باليه جبهة التحرير الوطني مثلا والعديد من الفرق المسرحية التي نشطت بالتوازي مع الكفاح المسلح، كما أن العديد من الأعمال الفنية العالمية ساهمت في تغيير مجتمعات كاملة، وفتحت الأعين والأذهان على آفات كثيرة نهشتها، يمارس المسرح فن تشريح الذات البشرية فكيف لا يكون ذا أثر؟!
إن عدم تثميننا لتراثنا المادي وغير المادي، والعزوف عن تطوير ثرواتنا الفنية والموسيقية والتمثيلية قد يضعف هذا الدور كثيرًا، فتجربة بحجم ما قام به الفنان عبد القادر علولة، مثال حي لقدرات المسرح، حيث حول الركح والعرض إلى "حلقة" في محاولة منه لاستحضار أسلوب المداح، فكانت هنالك أشكال مبهرة من الفرجة التي تشبه تلك التي تقام في السوق، حيث يدخل الناس في "تسويقة" واثنتين وثلاث ليكملوا الاستماع إلى قصص المداح، وقد نقل علولة كل هذا إلى خشبة المسرح، في نوع من التّأصيل لما هو موجود في التراث، وهذا ما يقودني إلى القول بأننا نملك أشكالًا جميلة وعميقة وذات مغزى من المسرح، قد تختلف كثيرًا عما استوردناه من أوروبا مثلًا.
أظن أن تجارب علولة وعز الدين مجوبي وامحمد بن قطاف وغيرهم، كان لها تأثير كبير على المجتمع بأكمله، خاصة على الطبقة العمالية الكادحة التي تم تحفيزها من خلال تلك العروض الهادفة على التفكير في تكوينها وحقوقها المادية والمعنوية، للتمكن من الدفاع عن مقوماتها، إضافة إلى الأثر السياسي والحضاري البالغ لهذه الأعمال.
نحن نتعرف كبشر دائمًا على الحضارات السابقة من خلال مخلفاتها في الفن والشعر والنحت والموسيقى والمسرح، لهذا فإن المسرح عنصر هام في بناء الحضارة والمجتمعات.
• هل منحك المسرح أرضية صلبة لدخول الدراما والسينما بثقة أكبر؟
لقد درست التمثيل كتخصص، وركزت على الفنون المسرحية كثيرًا، لكن في تقنيات الأداء، لا يختلف الأمر كثيرًا بين السينما والمسرح، لأن تقنية « The Actor studio » لستانسلافسكي قد صدرت إلى أمريكا، واستُغِلّت في المجال السينمائي، لهذا لا يختلف التمثيل في المجالين كثيرًا، يبقى الأمر متعلقًا فقط بالأمور التقنية التي تفرق بين المجالين.
زاد المسرح من ثقتي كثيرًا وصقل شخصيتي وموهبتي بعد التكوين، لكن السينما تفتح لنا بابًا آخر من خلال التعامل مع المخرجين وطاقم العمل الكبير، والعديد من الفنانين من مختلف الأجيال، نحن نتعلم من كل مجال وفي كل وقت من تجاربنا وأخطائنا، لهذا فإن المسرح كان وما يزال قاعدة صلبة ارتكزت عليها كثيرًا إلى غاية اللحظة.
• لماذا أقصيت عدة أعمال درامية من العرض خلال رمضان الفارط ؟ وما الذي تحتاجه الدراما الجزائرية الجادة للتخلص من استهتار القنوات العامة والخاصة؟
في الحقيقة، لا سبب واضح لإقصاء عدة أعمال درامية هامة خلال رمضان، فقد كان هنالك مسلسل جيد اسمه "ماينة" أظهر احترافية عالية من خلال الصورة والطاقم الغني بأسماء هامة من خيرة الممثلين، إضافة إلى مسلسل آخر شاركت فيه بعنوان "عين الجنة"، مع المخرج كريم موساوي، حيث أعتبره شخصيًا عملًا متفردًا ومختلفًا عما اعتدنا على رؤيته كل سنة، تعكس قصته واقع الفرد الجزائري وما يعيشه في حياته اليومية، دون التملص من الهوية ومن النمط المحلي المعاش.
يذهب بي الظن أحيانًا إلى أننا نعيش إقصاءً ممنهجًا لا ندرك سببه الحقيقي، ولا أظن أن حجة إنتاج الأعمال بشكل داخلي وذاتي لدى التلفزيون العمومي مثلًا، كانت كافية لتبرير إقصاء أعمال جادة مقابل أعمال كارثية بشهادة كل من تابعوها.
في غياب قانون يحمي حقوق الفنان ووضعه في الجزائر، ونقابة تدافع عنه في وجه هذا التهميش والإقصاء، لا يمكن توفير حلول جذرية لهذه الفوضى، نحن نعيش في وسط يشبه الغاب، مع تعاقب المسؤولين وتضارب القرارات وإلغاء الالتزامات مع تغيير المناصب، نبقى حبيسي عشوائية سياسية محضة لا تسمح بوجود مشروع ثقافي جليّ قد نلمس نتائجه على الأمد الطويل، لكن التخبط سيبقى قدر الفنان ما دام لا يملك قانونا يحميه.
• حدثنا عن تجربتك في فيلم أبو ليلى، وهل فتح لك دورك فيه الباب على خبرات وفرص تمثيلية جديدة؟
كان دوري في فيلم "أبو ليلى" تجربة خاصة جدًا عشتها بكل جوارحي، كنت أتخيل في كل مشهد مثلته أني عدت إلى خشبة المسرح، استمتعت كثيرا بأداء ذلك الدور، وذاك كان هدفي الأول من التمثيل في الحقيقة، قد يعتبره البعض نوعًا من الأنانية حينما أقول إن الجمهور في التمثيل لا يهمني بقدر ما تهمني المتعة التي أغنمها من أدواري، ذلك أنني أعتبر الأمر تطهيرًا لذاتي، ورغم مشاركتي في العديد من الأعمال السينمائية ، لم أكتسب قبلًا ذلك الإحساس.
مع أن السينما في رأيي بشكل عام قد تُفقِد الممثل روحه، لكن فيلم "أبو ليلى" غذاني روحيًا، خاصة وأن وقت تصويره جاء في فترة ابتعدت فيها كثيرًا عن المسرح، لكن المخرج كان متمكنًا من إدارة الممثلين بشكل رائع، إضافة إلى أن الفنان إلياس سالم الذي كان لي شرف مقاسمته البطولة وكنت من معجبيه قبل ذلك، قد ساعدني كثيرًا على الأداء بأريحية، وكل ذلك منحني متعة لذيذة أنستني إرهاق العمل وتعلمت منها الكثير.
فتح لي فيلم "أبو ليلى" الكثير من الأبواب، فلم أكن معروفًا تلفزيونيًا لأنني لا أحبذ العمل فيه كثيرًا، لكنه أعطاني فرصة الولوج من الباب الواسع للتعرف على صناع السينما والاحتكاك بالأسماء الكبيرة، والحصول على فرص عمل في أعمال أكثر أهمية.
سليمان بنواري: فتح لي فيلم "أبو ليلى" الكثير من الأبواب، فلم أكن معروفًا تلفزيونيًا لأنني لا أحبذ العمل فيه كثيرًا
• هل من أعمال جديدة؟
من الأعمال الجديدة التي شاركت بها، فيلم "آخر الملكات" للمخرج داميان أونوري، وهو في لمسات المونتاج الأخيرة، وقد يعرض قريبًا، إضافة إلى فيلم طويل آخر قيد التصوير حاليًا وسيعلن عنه في أوانه إن شاء الله.