10-يناير-2024
444

(الصورة: فيسبوك)

"444".. رقم ليس عاديًا، رمزيته تاريخية ومرتبطة بالدبلوماسية الجزائرية التي فكّت قبل أربعة عقود شيفرة قضية معقّدة كادت أن تدخل العالم في حرب عالمية ثالثة.. أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران ودور الوساطة الجزائرية في حلّها.

المخرج مراد أوعباس لـ"الترا جزائر": الوثائقي إقرار بدور شهداء الدبلوماسية الجزائرية في إنهاء الأزمة الأميركية-الإيرانية وتجنيب الشرق الأوسط حربًا مفتوحة في تلك الفترة

"444" عنوان وثائقي أخرجه الجزائري، مراد أوعباس، الذي يكشف في حوار مع "الترا جزائر" كيف كانت الجزائر حاسمة في القضية؟، ولماذا عالج هذا الموضوع بالتحديد؟، كما يرصد تفاصيل مثيرة عبر تقديم شهادات حصرية على لسان "أبطال" عايشوا هذه الأزمة. وفي شق آخر  من الحوار يتحدث عن فيلمه الجديد حول المجاهد والمناضل الراحل محمد بلوزداد.

أنهيت مؤخرًا تصوير فيلم وثائقي بعنوان "444.. الوساطة الجزائرية"، يحكي عن نهاية أزمة الرهائن الأميركيين في طهران ودور الجزائر فيها.. حدثنا أكثر عن اختيارك لهذا الموضوع.. لماذا؟

خلال تتبّعِي لمختلف الأعمال الوثائقية، التي تناولت موضوع أزمة الرهائن الأميركيين المحتجزين في السفارة الأميركية بطهران (إيران)، يوم الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1979، تبيّن لي أنّ هؤلاء المنتجين قفزوا - سهوًا أو عمدًا - على الدور المفصلي والهام الذي أنجزته الوساطة الجزائرية، ثم كان الفيديو الخطابي السنوي لـ "جون لميبرت" الذي نشره على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ويشكر من خلاله الجزائر ودبلوماسييها على تحريره وزملائه الرهائن من الحجز، فضلًا عن فيديوهات لعدد من الدبلوماسيين الأمريكيين في السفارة الأمريكية بالجزائر.

هذه الأمور وغيرها، شكلت لديّ وعيًا بالمسؤولية وحافزًا قويًا بضرورة تجسيد هذا المشروع الاستراتيجي على أرض الواقع.

كانطلاقة أولى لتجسيد مشروعك وتحقيق هذا الوثائقي "الحلم"، بماذا بدأت؟

باشرت على الفور في تعميق البحث حول حيثيات هذه القضية وعلى مختلف المستويات، وركزت بالتفصيل على "دور الوساطة الجزائرية"، وبالمناسبة هذا العمل المتواضع هو إقرار بالدور الفريد من نوعه الذي قام به شهداء الدبلوماسية الجزائرية، الذين قضوا فيما بعد مع المرحوم محمد الصديق بن يحي، رحمهم الله جميعًا، في محاولة لإنهاء الحرب العراقية الإيرانية.

73 دقيقة، هي مدة الفيلم الوثائقي، نتحدّث فيها عن وقائع كثيرة معروفة ونزيح الستار لأول مرة عن بعض التفاصيل الهامة، منها الدور الحاسم والموفق للوساطة الجزائرية، في فكّ تلك الأزمة المستعصية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، وكادت أن تُدخل المنطقة في حرب مفتوحة بين أمريكا وإيران، لا أحد كان يعرف نهايتها، خاصة بعدما خسرت أمريكا نفوذها هناك اثر سقوط الشاه بهلوي، وانتصار الثورة الخمينية، بالإضافة إلى أجواء الحرب الباردة التي كانت سائدة آنذاك بين المعسكرين الشرقي والغربي، لذلك مثلت تلك "الخسارة" تحدٍ جديد بالنسبة للإدارة الأمريكية، في معركة الصراع المتواصل حول مناطق النفوذ خاصة في ساحات الشرق الأوسط.

في البداية صوّرت جزء من العمل بطهران وواشنطن..، حدّثنا أكثر عن هذه التجربة وظروف التصوير بالبلدين؟

قبل بدء التصوير، شرعت خلال سنة 2021 في عملية طويلة وعريضة من البحث والإعداد لهذا العمل الضخم، بداية بمشاهدة وتحليل أغلب الأعمال الوثائقية الغربية والعربية التي تناولت أعمالها هذه القضية، ثم انتقلت إلى بعض المصادر الأميركية وكذا الإيرانية ثم الجزائرية، وفي مرحلة ثانية تحولت إلى تحديد الضيوف المُحتملين لتسجيل شهاداتهم والتقصّي حول معلومات جديدة في العواصم الثلاث -واشنطن وطهران والجزائر-، ثم جهزت خطّة عمل محكمة وواضحة مع فريق الإنتاج الذي ساندني بقوة لتنفيذ هذا العمل المميز.

في البداية، وفي أي مشروع بهذه الضخامة والأهمية، واجهتنا صعوبة في تمويل شقه الأول، ولا تكفي عبارات الشكر والامتنان التي أقدمها لشركة "سوناطراك"، مفخرة الجزائر، حيث قدمت لنا تمويلًا للانتقال بالمشروع من مرحلة البحث إلى مستوى التنفيذ، فكانت محطتنا الأولى الولايات المتحدة الأميركية، وبالمناسبة أوجه كذلك الشكر والتقدير للسفارة الأميركية بالجزائر التي سلمتنا التأشيرات في ظرف قياسي جدًا.

محطتنا الثانية كانت إيران حيث تعاون معنا السفير الإيراني في الجزائر، وسهّل لنا كل الأمور المتعلقة بالزيارة، بالإضافة إلى فريق السفارة الجزائرية بطهران، الذي رافقنا طيلة فترة تواجدنا هناك، وهنا أنوه بمرافقة الخارجية الجزائرية لنا، في مختلف مراحل الإنجاز.

ظروف التصوير في الجزائر كيف كانت؟

الحمد لله، تيسّرت أمامنا كل ظروف الإنتاج في الجزائر والعمل في بلادنا كان ختامه مسك، حيث تمكّنا بعد بحث طويل من العثور على أحد عناصر الوفد الطبي الجزائري المخول آنذاك بفحص جميع الرهائن والتأكد من سلامتهم الصحية، وقد تم إنجاز هذا العمل الجبّار والحساس في وقت قياسي، إلى جانب شهادة المصور الوحيد من التلفزيون الجزائري الذي انتقل حينها رفقة وفد إعلامي لتغطية لحظة تحرير الرهائن الأمريكيين في طهران، وعاد بصور حصرية عن تلك اللحظات التاريخية، كما نقلنا من الأرشيف شهادة رضا مالك سفير الجزائر في واشنطن عن مساعي السلطات الجزائرية وفكها خيوط هذه الأزمة المعقدة.

العمل يتضمن شهادات حيّة لشخصيات عايشت تلك الأزمة..من هي؟ وكيف رحبّت بالفكرة؟، فكرة العودة للحدث عن هذه القضية والظهور في وثائقي؟

حقيقة وجدت كل الدعم والمساندة من أغلب الضيوف الذين سجلت معهم، إلى درجة أن أحدهم تأسّف بحسرة عن تأخر الإعلام الجزائري في إنتاج عمل وثائقي يليق بمستوى الجزائر وعظمة رجالها الذين خطُّوا اسمها بماء من ذهب بين الأمم، بمواقفهم ومبادئهم واحترافيتهم وسلوكهم الإنساني.

في محطتنا الأميركية صورنا شهادات حصرية مع عدد من كبار الموظفين في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، على رأسهم "غاري سيك" آخر أعضاء مجلس الأمن القومي، و"جون ليمبرت" الرهينة الأميركي، إلى جانب أحد المفاوضين الأميركيين، بعدها انتقلنا إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لتصوير بقية الشهادات الحصرية ولعلّ أهمها شهادة المهندس "بهزاد نبوي" نائب رئيس مجلس الوزراء والوزير المفاوض آنذاك.

وللأسف محطة الجزائر كانت صعبة بالنسبة لنا، ذلك أن أغلب شهود تلك المرحلة الهامة في تاريخ الجزائر ما بعد الاستقلال قد انتقلوا إلى رحمة الله.

في غياب شهادات حيّة لجزائريين عن تلك المرحلة، كيف عالجتم هذه القضية؟

عثرنا خلال بحثنا في أرشيف التلفزيون الجزائري، عن شهادة مهمة للمرحوم رضا مالك سفير الجزائر في واشنطن حينها، عن مساعي السلطات الجزائرية وفكّها خيوط هذه الأزمة المعقدة.

لحد الآن، ورغم أنّ الفيلم في مرحلة التركيب -مازلنا نطمع في أخذ شهادة مهمة لسعادة السفير السابق في طهران عبد الكريم غريب، نتواصل معه حاليًا لعلّنا نظفر بشهادته في الموضوع، كما تمكّنا بعد جُهدٍ جَهِيد من العثور على أحد الأطباء الجزائريين الذين انتقلوا خصيصًا إلى طهران لمعاينة الوضع الصحي للرهائن قبل نقلهم إلى الجزائر.

مخرج "444": كُلفة الأرشيف الباهضة زادت من أثقال ميزانية العمل الذي يعدُّ الأوّل من نوعه، خاصة وأننا حاولنا تنويع المصادر الأرشيفية لإخراج يليق بصورة الجزائر الدبلوماسية

وصوّرنا أيضًا شهادة نادرة لأحد المصورين من فريق التلفزيون الجزائري، الوحيد من بقي على قيد الحياة، انتقل هو الآخر خصيصًا لتغطية عملية تحرير الدبلوماسيين الأميركيين المحتجزين، وعاد بمادة نادرة عن لحظات التحرير.

وهنا إذا سمحت لي، أن أفتح قوسًا، لأتحدث عن الأرشيف وكُلفتِه المالية الباهظة، التي زادت من أثقال ميزانية هذا العمل الذي يُعدّ الأول من نوعه، وحاولنا تنويع مصادر الأرشيف لإخراج هذا العمل في الصورة التي تليق بالجزائر ودبلوماسيتها.

قبل فترة، السفارة الأميركية بالجزائر أشادت عبر صفحتها بفيسبوك بدور الوساطة الجزائرية في حلّ أزمة الرهائن..ما تعليقك؟

الأميركيون كما الإيرانيون، على الصعيد الرسمي وحتى الشعبي، ممتنون للدور الجزائري الحاسم في فك شيفرة تلك الأزمة التي استمرت 444 يومًا، ومنه كان اختيارنا لهذا العنوان وعلى غرار أغلب من أنتجوا هكذا أفلام حول هذا الملف.

لماذا الجزائر مُغيّبة في هذه القضية سينمائيًا وتلفزيونيًا سواءً داخل أو خارج البلاد؟

سينمائيًا كل مؤسسة تعمل وفق أجندتها الخاصة، ولا أستبعد أنّ تغييب الدور الجزائري كان مقصودًا على مستوى بعض الدوائر الإعلامية، سواءً كقنوات أو شركات الإنتاج المختلفة.

وهنا إسمح لي أن أُشير، أننا كإعلام وطني نعاني من معضلة "الانغلاق على أنفسنا" أو "مونولوج" ننتج لأنفسنا، ونتحدث مع بعضنا البعض في عهد السماء المفتوحة، وهذه هي مشكلة الإعلام الجزائري، الذي كان وما يزال غارقًا في وحل "المحلية"، ولا يرى الجزائر في عهد السماء المفتوحة إلاّ من زاوية ضيقة وسلبية، ولم ينتقل بعد إلى المشهد العالمي حيث للجزائر حضور وتقدير كبيرين، وتمتلك رصيدا هائلا من الانجازات عالية المستوى.

متى وعلى أيّ قناة سيعرض الوثائقي؟

جاري التفاوض مع عدد من القنوات الوطنية، عامة وخاصة، التي أبدت اهتمامها بهذا العمل التاريخي الضخم، هنا أفتح قوس، لأشير أنّ ميزانية بعض القنوات الوطنية العامة أو الخاصة، منها من هو محكوم بقانون الصفقات العمومية ويتطلب إجراءات طويلة وعريضة، ومنها من لا ميزانية لها، ونعتقد أنّ هذا المشروع هو مشروع الدولة الجزائرية، ونأمل أنّ تدخل وزارة الثقافة والفنون، قد يكون حاسمًا في حل هذه المشكلة.

إضافة إلى وثائقي "الرهائن"، أنهيت كتابة سيناريو فيلم "بلوزداد".. ما تفاصيله؟

المخرج المبدع رشيد بن حاج، أنهى تصوير كل مشاهد الفيلم، العمل من إنتاج التلفزيون الجزائري، في إطار الاحتفالية بستينية الاستقلال.

الفيلم يتناول أحد أهم وأبرز رجالات الحركة الوطنية، وحياته النضالية من أجل انتزاع الاستقلال والتي لم يتم تناول هذه الحقبة من النضال السياسي على المستوى السينمائي، في حدود علمنا.

يعتبر "محمد بلوزداد" شخصية قيادية هامة سواءً في حزب الشعب الجزائري - حركة انتصار الحريات الديمقراطية - أو كقائد ملهم، خلال مساره النضالي الذي دشنه بقيادة "لجنة شبيبة بلكور" وعمره لم يتجاوز 18 سنة، ثم المنظمة الخاصة (عمره 23)، أقول ذلك حتى يتنبه شبابنا اليوم، ويتخذوا من هؤلاء الشباب، قدوة حسنة، لأن الفقيد توفي ولم يتجاوز عمره 28 سنة، ولكنه ترك إرثا عظيما في النضال وكوّن جيلا يؤمن بالعمل الثوري.

أوعباس: فيلم "بلوزداد" يتناول أحد أهم وأبرز رجالات الحركة الوطنية وحياته النضالية من أجل انتزاع الاستقلال وهي الحقبة التي لم يتم تناولها على المستوى السينمائي

ينقلنا السيناريو من (1942-1952) عبر مشاهد عالجنا من خلالها مختلف المحطات الهامة، بداية من نزول الحلفاء في الجزائر عام 1942، إلى المحطات التاريخية الأخرى، على سبيل الذكر لا الحصر، منظمة شبيبة بلكور، نضاله السياسي، ثم دخوله عالم السرية بسبب الأحداث التي شهدتها العاصمة في أول ماي 1945، والمجازر الوحشية التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي الغاشم وغيرها الكثير، فعودته للعاصمة، وإنشاء المنظمة الخاصة ثم العمل المضني في البحث عن السلاح، وغيرها.

ما رسالتك من خلال فيلم "بلوزداد"؟

لهذا نترك القارئ الكريم يكتشف هذه التفاصيل عند بث الفيلم حيث أنوه هنا أنه خلال هذه السنة 2024 باذن الله، سنحتفل كذلك إلى جانب سبعينية الثورة التحريرية العظمى، بمئوية المرحوم محمد بلوزداد، فلا شك عندي أن هذا الحدث سيأخذ حيزًا كبيرًا من الاحتفاء والتذكير بإنجازات ومناقب الرجل ومساره النضالي التحرري، وهي فرصة لمد الجسور بين شباب اليوم وشباب الأمس لإحداث ذلك التكامل والتواصل بين جيل النضال وجيل البناء، فالأمة التي تعرف تاريخ بلادها يمكنها بناء حاضرها واستشراف مستقبلها.

"يمضي الرجال ويبقى الأثر"، توفي بلوزداد ولكن ذكراه باقية نخلدها بكل فخر واعتزاز، توفي بلوزداد ولكن الثورة التحريرية اندلعت بعد عامين بسواعد الرجال الذين ناضلوا معه، والجزائر بعد 7 سنوات من الكفاح المسلح انتزعت استقلالها وحريتها، وهذا كله بالفكر الذي آمن به بلوزداد وإخوانه.