لم يكن تيدي وشريكة حياته دلفين، يعرفان شيئًا عن الجزائر، قبل أن تطأ دراجتهما النارية أرضها، قادمين عبر معبر أم الطبول بين طبرقة التونسية و الطارف الجزائرية، لكن إغراءات التنوّع الطبيعي الجزائري، وثراء الثقافات المحلية أجبرتهما على قضاء شهر كامل.
دلفين و تيدي لـ"الترا جزائر": شعرنا بالأمان والحماية طيلة شهر كما لو أننا في بيتنا العائلي
تنقلا بين جسور قسنطينة، ومضائق غوفي، وصخور تاسيلي المغروسة في الرمل، وواحات تاغيت ورمال تيميمون، ورأس كاربون ببجاية، وفي ختام هذه السفرية الماتعة يجزمان معًا لـ "الترا جزائر" مبتسمين: "حقًا إن الجزائر هو البلد الذي تغادره ببدنك تاركًا فيه روحك التي سرعان ما تود العودة إليها، ولذلك حتمًا سنعود لهذه القارة متنوعة الألوان".
حُبٌ فوق درّاجة
كانت دلفين، ساعية البريد، مغامرة تهوى التخييم والتجوال لا تغادرها حقيبتها الظهرية، أما تيدي، الاستشفائي، فقد كان جوالًا محبًا للدراجات النارية، ومنذ أول لقاء جمعهما، العام 2018، عرف كل واحد منهما بأن موعد الأرواح سيقرّر اندماجهما الحياتي معًا، وأنهما خلقا ليعيشا سويًا كي يتقاسما اللحظات التعيسة والسعيدة.
هكذا سيقرران، أولًا، عقد القران بين هوايتهما، بممارسة التخييم والتجوال بواسطة الدرّاجة نارية، فحمل حسابهما الانستغرامي إسميين في هوية واحدة ومشتركة هي " دلفيتاد".
قبل عام ونصف آواهما سقف واحد أو بالأحرى ضمتهما دراجة واحدة، بعدما أعلنا زفافهما، كما لو أنهما أيقنا أخيرًا بأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، تقول ديلفي لـ "الترا جزائر" بحساسية مفرطة: "نحن متواطئان جدًا لدرجة أننا نحس جراء الشعور المتبادل بالأمان المطلق، وبألا شيء يقدر على هزيمتنا".
نحن نتواصل كشريكين حقيقين بشكل كبير، حيث نتفاهم بمجرد نظرة، أو يعرف أحدنا ما يريده الآخر بإشارة، وعليه فدائمًا ما يكون سفرنا سهلًا ومريحًا لكلينا ".
يعقب تيدي: "هذا هو المثير في السفر الزوجي الثنائي، فحينما يكون الحب حاضرًا تتولد الثقة بين الطرفين، فيعثر كل واحد منا في شريكه على كل تلك الأشياء التي يفتقدها خلال رحلته، ولا غرو فالحب هو اللحظة الأكثر كثافة في الحياة".
على هذا النحو، مارس الزوجان الفرنسيان هوايتهما المشتركة في موطنهما فرنسا، بدء من العام 2019، ثم شرعا سنة 2020 في زيارة دول البلقان، المتشعبة جغرافيا وتاريخيا وعرقيا، قاطعين ستة آلاف كيلومتر، قبل أن يعيدا الكرة صوب روسيا ومنغوليا وأوزبكستان، العام 2023 ودامت تلك السفرية خمسة أشهر كاملة، وطبعا فهما يراكمان عملًا مضاعفًا كي يتسنى لهم السفر لمدد طويلة بجمع العطل المتخلفة.
نَقضُ الأَحكَام
الحياة، يقول ليون الأفريقي"هي أقل الرحلات توقعًا" لذا يؤمن المغامران، بأن أجمل الأسفار هي الأسفار غير المتوقعة على الإطلاق، والطريق هو أهم تلك الرحلات، ما بين نقطة البدايات والنهايات، يشرح تيدي فلسفته مفسرًا لـ" الترا جزائر" ضاحكًا: "قد لا تصدق لو أخبرتك بأننا لا نتابع وسائل الإعلام ووسائل التواصل والميديا على الإطلاق، كي لا تتلوث أفكارنا بالأحكام المسبقة قبل سفرنا، والدافع في ذلك هو أننا نبحث عن الحقيقة بالمعاينة.
وطبعًا فالمتعة في هذا تتحقّق عبر الدهشة، ففي الجزائر فوجئت، لا بل ذهلت عندما شاهدت مدينة تيمقاد الرومانية في باتنة، فأنا لم أسمع عنها شيئًا رغم عمري الذي يناهز نصف القرن، كما أني لم أتخيّل ولو مرة في حياتي الطويلة أن أشاهد حاضرة رومانية بهذه الضخامة والاكتمال والإدهاش فوق أرض هذا البلد، و أن تكتشف مكانًا جميلًا لا تعرفه هو أفضل هدية يفاجئك بها السفر، تمامًا كما حدث قبل عامين، عندما عثرنا على مدينة أوزبكية بديعة تسمى خيوة في أقليم خوارزم".
عندما تعلم بأن الزوجين زارا معًا 27 بلدًا عبر العالم، جلها دول غير مقصودة سياحيًا، مثل لتونيا واستونيا ومنغوليا وأوزبكستان والبوسنة، ينتابك التساؤل عن هذا الخيار العكسي الذي لا يتماشى مع خيار الذهاب للأكثر البلدان جذبًا للسياح، غير أن تيدي يشرح الدوافع الشخصية العميقة شارحًا: "في واقع الحال نحن نقصد الدول الأقل جذبًا للسياح، بل ولنكن صرحاء، نسافر لتلك الدول المصنفة في خانة "المنصوح بعدم زيارتها"، وطبعًا كانت الجزائر بين هذه الدول، التي تلقينا نصائح لتجنب زيارتها، ثم حينما رأينا صورًا وفيديوهات أظهرها لنا صديق، وهو مراقب دراجات، عاشق للجزائر، أدركنا الفارق الشاسع بين ما يشاع وما هو على الواقع، فقررنا أن نكتشف الجزائر بأنفسنا، فلا أفضل من التجربة الشخصية هنا لتكسير المسلمات الخاطئة والأحكام الجاهزة".
فُسيفساء سِحرية
بدأت الرحلة من قسنطينة، وباتنة، وبسكرة، فورقلة، و جانت وإليزي وحاسي مسعود، وإن أمناس، ثم مرورًا بغرداية والمنيعة و تيميمون و تاغيت و بريزينة و الأغواط و انتهاء ببوسعادة، و بجاية وقسنطينة، وفي إبّان تلك الجولة ظّل الزوجان وفيّان لطريقتها غير المتوقعة في إدارة خريطة الطريق، وإلى هذا تشير دلفين: "عندما نسافر نكتشف الطريق، إذ لم يكن في مخططنا زيارة جانت، لكن أصدقاءً لنا من سائقي الدراجات بالجزائر نصحونا بذلك فأمضينا هناك ثلاثة ليال حالمة".
ويعقب تيدي: "نحب الاستكشاف الذي يكسر أفق التوقعات غير المنتظرة، مع أننا نراقب مثلًا المناخ وأحوال الطقس حتى تكون رحلتنا مبنية على قواعد متينة لا أثر فيها للصدفة بعدما نقرر الضغط على دواسة دراجتنا بي أم دبليو للانطلاق نحو المجهول".
ما لفت نظر ديلفيتاد على مدار شهر سيبقى عالقًا مدى الدهر، فقد اكتشفا سويًا ما يسميانه الثقافات المحلية الصغرى المندمجة في ثقافة وطنية كبرى، وهي مصدر الثراء المتعدد، فبين تقاليد عرب قسنطينة وشاوية الأوراس وطوارق التاسيلي وإباضية غرداية و شعانبة المنيعة، يتوزع الغنى ما بين مناطق تلية خضراء، ثم الخلاء الأجرد المسمى الحمادة، وهو الصحراء غير الرملية، ثم الكثبان الرملية للعرق الغربي، وأخيرًا قرى منطقة القبائل زاهية الألوان المثبتة مثل حلقات العقد في الجبال الخضراء الشاهقة الغارقة في لازورد البحر المتوسط.
يجمع الثنائي المحظوظ بهذه الفسيفساء العجيبة المتناسقة في لوحة الوطن الواحد، على أمر واحد:" لقد أدهشتنا الصحراء الجزائرية بمناظرها اللامتناهية، بالصمت الأبدي الذي تشعرك به، على هامش حياة عصرية صاخبة، تركنا فيها وسائل عيشنا الحديثة، من أنترنت وهواتف، تسرق من الناس جل الوقت، لننقطع عن العالم، وحقًا كانت تلك المشاهد السريالية للمواقع والمناظر كما بثثنا ذلك في فيديوهاتنا القصيرة، أشد وقعا من حيث الجمال السحري على النفس، علاوة على أنها تجبرك على التوحد معها عبر الصمت، وتعرف أن الصمت عبارة عن حوار تحدث به نفسك، وفقط الأشياء المسكرة، مثل الصحراء، من تملك القدرة على فعل ذلك".
كرم وعِناية
صحيح، أن تيدي ودلفين جاءتا للجزائر عبر رحلة وجدا فيها سندًا من قبل فرق الدراجات النارية، أو " أصحاب الموطويات"، وهي "جالية رياضية" كبيرة جدًا في الجزائر، تقدم خدمة سياحية عظيمة للبلاد، مثلما وقع للرحالة البرتغالية باولا كوتا، أو الفرنسية موتو دوم، غير أن تيدي يلفت كما دلفين لأمر جوهري، فيقول الأول لـ" الترا جزائر": " الناس كرماء و لطفاء جدًا، لقد حظينا بعناية فائقة من طرف أصدقائنا، ومن الجزائريين البسطاء، فقد كانوا يعرضون علينا الطعام و المياه خلال عبورنا المناطق النائية،ويقدمون لنا التحيات، و طبعًا أشياء كهذه تشعرك بالإحاطة".
وتضيف دلفين متأثرة: " عندما يقول لك جزائريون أنتما في بيتكم فافعلوا كما لو أنكم مع أهلكم، فهذا تعبير بليغ لا نستطيع أن نفيه حقه بكلمة أخرى".
وكمن يتذكر معلومة شاردة يعقب تيدي: "طبعًا مررنا خلال تجوالنا على نقاط مراقبة كثيرة للشرطة والدرك الوطنيين، وحتما أمر كهذا أشعرنا بإخلاص هذه المصالح الأمنية في ضمان سلامتنا وحمايتنا، فقد كانوا يتصلون بنا لمعرفة أحوالنا وظروف إقامتنا، وهذا يعني أننا كنا طوال فترة أقامتنا محل عناية تشعرنا بالأمان وفي مواصلة طريقنا، ففي بعض مناطق الدول التي زرناها كنا نغادر باكرًا حينما نشعر بأن المناخ العام ليس مغريًا على البقاء، و بكل صدق هذا الأمر لم يحدث معنا مدة أربعة أسابيع هنا، و على ضوء ما رأيناه من مناظر مذهلة و كرم شعبي باذخ، يمكن الحسم بأن هذه الزيارة التي لن تكون الأولى و الأخيرة كانت ممتازة وإيجابية مثرية لذكرياتنا الجميلة التي تقاسمناها كزوجين شغوفين بالطريق والمغامرة، ونود مشاركتها مع الرفاق كي نسهم في تكسير الأحكام الجاهزة".
الشخشوخة والرّحَابة
من بين الأشياء التي علقت بذهن تيدي حسبما يعلق: "أحببت الفولكلور الشعبي في عيد التمور بمشونش، في ولاية بسكرة، لدرجة أني رقصت رقصة الرحابة الشاوية، ثم على أنغام المزود، مع صديقك زيزو، الدرّاج المقنع".
وبين الطبيخ الجزائري المتنوع، أجمع المتحدثان بأن الشخشوخة كانت الأشهى مع أن كل منطقة تختلف في طريقة الإعداد والتتبيل، ذلك أن الأكلات الجزائرية رغم اشتراكها في الاسم تختلف في الذوق من مدينة إلى أخرى، وتفتخر كل ولاية بأنها الأحسن في الطهي، بيد أن دلفين تؤكد: "كل الأطباق كانت لذيذة، ومن باب الانتخاب أعتقد أن وليمة ورقلة كانت الأشهى ذوقًا".
يشاطرها الزوج تيدي، قبل أن ينهي ضاحكا رفقة زوجته بالطرفة التي تخللت سفرهما الطويل قائلًا: " عندما كنا نتوقف عند حواجز الدرك أو الشرطة كانت الكلاب الضالة غير الشرسة طبعًا تحاول اللحاق بنا، فكان أعوان الأمن يضحكون وهم يطردونها بعيدًا عنا".
دلفين لـ "الترا جزائر": عندما يقول لك جزائريون أنتما في بيتكم فافعلوا كما لو أنكم مع أهلكم، فهذا تعبير بليغ لا نستطيع أن نفيه حقه بكلمة أخرى
تتويجًا لتلك التجارب الإنسانية ستصدر دار نشر بمدينة ليون الفرنسية مؤلفًا يقدم رحلتهم الأخيرة لمنغوليا بينها زيارتهما المثيرة لبخارى و تبريز و سمرقند.