تَعُود جُذور بعض الأزمات السياسية الحالية إلى السياق التاريخي والنسق السياسي اللذان شكلا ميلاد الدول الوطنية، الجزائر من بين الدول التي نشأ كيانها في ظروف خاصّة، بعد تفككت كل المؤسسات التقليدية نتيجة الاستعمار الفرنسي.
أثار الشعار السياسي "دولة مدنية ماشي عسكرية" تجاذبات على الساحتين السياسية والأكاديمية
في المقابل، مَكنت الثورة التحريرية من وُجود مُؤسسات ثَورية، ساهمت منذ البداية على تَأطير المجتمع الجزائري سياسيًاوعسكريًا واجتماعيًا، وكانت مؤسسات الثورة والمتمثلة في حزب جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني الإطار الشرعي والممثل الوحيد للشعب، خاصّة بعد الإعلان عن القطيعة النهائية مع الكيان الكولونيالي المدني والعسكري.
وعلى ضوء ذلك، جاء ميلاد الدولة الوطنية وفق اتجاهات متعارضة، وتجاذب بين الجهاز السياسي المتمثل في الحكومة المؤقتة والمؤسسة العسكرية المشكلة من قيادة الأركان، وإن تأرجحت موازين القوى بفعل ضعف المكون السياسي والاختلافات الايديولوجية على حساب انضباط العنصر العسكري وقوته الميدانية.
مدنية ماشي عسكرية
في السياق الموضوع، أثار الشعار السياسي "دولة مدنية ماشي عسكرية" تجاذبات على الساحتين السياسية والأكاديمية، بين مناصري تمدين الدولة الجزائرية، وطرف يرفض الشعار، كونه يحمل مغالطات واسقاطات تاريخية خاطئة، وبين تيار وسطي يُراعي فيه السياقات التاريخية والمحطات السياسية التي جعلت من المكون العسكري جزءًا من منظومة الحكم، إذ تدرج الدور المكون العسكري سياسيًا ضمن سياق تطور الدولة الوطنية، ومحطات سياسية شهدتها البلد، حيث يفضي الفهم الصحيح إلى المعالجة السليمة.
فما حقيقة أولوية المدني على العسكري، وما هي السياقات التاريخية التي ساهمت تَحول الجيش التحرير الوطني يتحول إلى الجيش الشعبي الوطني؟
أولوية المدني على العسكري
في سياق متصل، يَستند دعاة تمدين الدولة إلى قرارات مؤتمر الصومام، من ضمنها أولوية العمل السياسي على العمل العسكري، غير أن هذه القراءة يراها مؤرخون أنها تستند إلى قراءة سياسية وأيدولوجية أخرجت المعنى من سياقه التاريخي، وتم إسقاط هذا البند على ظروف سياسية مغايرة تمامًا، وبالتالي لا يمكن الاستناد إلى وثيقة تاريخية كمرجعية في تحديد العلاقة بين المدني والعسكري.
في السياق، أشار المرحوم لخضر بن طوبال في مذكراته أن نقطة التي أدرجت في مؤتمر الصومام المتمثلة في أولوية العمل السياسي على العسكري حملات مغالطات كثيرة تم تداركها في مؤتمر القاهرة سنة 1957 وألغيت، متسائلًا في سياق تبرير تعديل البند وتغيير أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ التي انعقدت في القاهرة سنة 1957، من هو العسكري ومن هو السياسي حينها؟
وقال بن طوبال في مذكراته، إن أغلب قادة الثورة التحريرية من خريجي مدرسة الحركة الوطنية، وحزب الشعب الجزائري وبالتالي هم أصحاب تكوين سياسي بالدرجة الأولى، مشيرًا أن عبد الحفيظ بوصوف على سبيل الذكر كان صاحب تكوين سياسي أكثر منه عسكري.
عبان كان رجلا عسكريًا
بدروه، وعلى عكس ما هو متداول، كشف أحمد بن بلة في حوار إعلامي أن عبان رمضان كان رجلًا عسكريًا من طراز عال، وأن آفاقه السياسية والأيديولوجية لم تمكنه من فهم ما كان يجري حوله.وقال إن مؤتمر الصومام حمل جهازًا بيروقراطيًا عمل شيئًا فشيئًا على فصل المناضلين عن واقهم الثوري، ويقصد هنا التمييز بين السياسي والعسكري.
أول تحالف مدني-عسكري
إلى هنا، يرى بن بلة أن إدراج أولوية المدني على العسكري تمت عبر زرع عناصر كانت تعارض الانتقال إلى العمل المسلح، في إشارة إلى جمعية العلماء المسلمين والمركزيين وجماعة عباس فرحات، وعلى ضوء قراءة أحمد بن بلة فإن أولوية العمل السياسي على العسكري ما هي إلا نتيجة إدراج عناصر سياسية محسوبة على التيار الاندماجي والاصلاحي وليس التيار الاستقلالي الذي قرر الانتقال من العمل السياسي إلى العمل المسلح.
بعد استفتاء وأعلن استقلال الجزائر عام 1962، حُسم الصراع الذي اشتعل بين الولايات التاريخية، فقد برزت صراعات بين الولايات الرابعة والثالثة والثانية ضد الولايات الأولى والخامسة والسادسة، وأمام حالة الانسداد تَشكلت تَحالفات وروابط بين كُل من قيادة الأركان تحت قيادة هواري بومدين، وأحمد بن بلة وأطراف أُطلق عليها تسمية “جماعة وجدة".
جماعة وجدة
"جماعة وجدة" مُصطلح أُطلق على مجموعة من الضباط العسكريين والمدنيين السياسيين، تَمكن هذا التحالف من تشكيل قطب سياسي وعسكري، استطاعا من فك الخلافات بين قادة الولايات التاريخية والحكومة المؤقتة والسيطرة على الحكم بفضل القوة والشرعية الثورية.
يقول عبد العزيز بوباكير في كتابه" 19 جوان 1965... انقلاب أم تصحيح ثوري" واصفًا العلاقة بين أحمد بن بلة وهواري بومدين: "عندما يلتقي سياسي يهوى الانفراد بالسلطة ويحب الزعامة حتى النخاع مع عسكري شاب تنقصه الشعبية والشهرة ويحب السلطة".
يُشار أن أحمد بن بلة في أواخر سنة 64-65 عمل على فك التحالف، وعزل بعض القيادات المدنية المحسوبة على "جماعة وجدة" على غرار عبد العزيز بوتفليقة وشريف بلقاسم، كما حاول إضعاف هواري بومدين وزير الدفاع عبر تنصيب الطاهر الزبيري قائدًا للاركان الجيش في المقابل دعم المليشيات المسلحة وسط المدنيين.
عسكرة الحكم أو شمولية السلطة؟
بعد انقلاب 19 جوان/ حزيران 1965 تمكن هواري بومدين من السيطرة الكاملة على مقاليد الحكم، فتم إبعاد الجهاز السياسي المتمثل في حزب الجبهة التحرير الوطني، وعُين على رأسه رجل مقرب من "جماعة وجدة" هو شريف بلقاسم، وكان الهواري بومدين وزير الدفاع الوطني ورئيس الحكومة ورئيس المجلس الثوري، الذي كان يضم شخصيتين مدنيتين هما بشير بومعزة وأحمد محساس من بين 26 عضوًا.
أما أعضاء الحكومة فقد سيطرت "جماعة وجدة" على الحقائب الوزارية على غرار عبد العزيز بوتفليقة وأحمد مدغري، قايد أحمد، والشريف بلقاسم. ويرى مؤرخون أن تمكّن هواري بومدين من إحكام القبضة على كامل المؤسسات الجمهورية هي نتيجة أخطاء ارتكبها الطرف المدني في الحكم السابق (أحمد بن بلة) الذي أقدم على إعدام العقيد شعباني، وقد كانت مبرّر الانقلاب هي حماية الشرعية الثورية وليس شرعية القوات المسلحة، فالعلاقة السياسية بين المدني والعسكري لم تكن لتطرح آنذاك في ظل وجود واستمرار توازن بين المكون المدني والعنصر العسكري.
زيادة على ذلك، لقد شكلت التركيبة البشرية للقوات العسكرية، المنحدرة من الأوساط الشعبية الفقيرة والريفية، سواءً في الداخل أو بالخارج في تونس والمتمثلة في قيادة الأركان قبولًا في الإطاحة بأحمد بن بلة.
تجدر الإشارة أن كثيرًا من المجندين في جيش التحرير الوطني وعناصر الشابة التي تكونت في تونس والمغرب تحت قيادة الأركان أو جهاز المخابرات (المالغ) شكلت بدورها مخزون النخبة الإدارية والمدنية وحتى السياسية ما بعد الاستقلال.
وعلى ضوء ذلك، ساهمت المؤسسة العسكرية في الخيارات السياسية والاقتصادية والتنموية، وشاركت في النسيج الصناعي والقاعدي وتأميم المحروقات، وهذا نظرًا إلى التداخل بين الحكم المدني والحكم العسكري خلال فترة إدارة هواري بومدين.
لقد تَشكل المجلس الوطني الثوري كإطار متوازن يجمع بين القادة العسكريين والسياسيين، لكن الخلافات الأيديولوجية والجهوية والحسابات السياسية فجرت هذا المجلس، فاستقال كل من أحمد محساس وبشير بومعزة من المجلس الثوري، وعَلق هواري بومدين اجتماعات المجلس، كما حاول العقيد الطاهر الزبيري الإطاحة بهواري بومدين عبر انقلاب عسكري فاشل في 1967، الأمر الذي عزز من السلطة التفردية التي كانت بيد هواري بومدين إلى غاية وفاته.
شاذلي بن جديد والعد التنازلي
في سياق متصل، أورد الجنرال السابق خالد نزار في مذكراته، أن تَعيين شاذلي بن جديد رئيسًا للجمهورية بعد وفاة هواري بومدين، لم يعكس إرادة المؤسسة العسكرية، بل حسابات بعض الضباط الساميين في أعلى هرم السلطة، وهما قاصدي مرباح مدير المخابرات، وقائد الأركان عبد الله بلهوشات ومحمد عطايلية.
ويؤكّد خالد نزار أن الثلاثي العسكري رفقة بعض الضباط اختاروا شاذلي بن جديد بناءً على معايير تتعلق بشخصية شاذلي، ومكانته في المؤسسة العسكرية، وقبوله من طرف الجهة الغربية رغم انحداره من الجهة الشرقية.
هنا، ورغم أن شاذلي بن جديد الذي كان وراء ترقية خالد نزار إلى أعلى هرم المؤسسة العسكرية، غير أن وبحسب متتبعين فإن رؤية خالد نزار تعكس انتقاداته إلى خطوات باشرها شاذلي بن جديد من أجل إعادة التوازن بين العسكري والمدني، وهو العسكري الانتماء والتكوين، فقد سعى الرئيس شاذلي بن جديد إلى إعادة موازين القوى بين المؤسسات المدنية والمؤسسة العسكرية.
لماذا أعادت أحداث أكتوبر 1988 الجيش إلى المربع الأول والتدخل في الشأن السياسي؟
وعلى العموم، يدفعنا الواقع الحالي إلى التساؤل عن مصير تلك الخطوات؟ وهل نجح في تجسيدها وهل أخفق؟ وكيف ولماذا أعادت أحداث أكتوبر 1988 الجيش إلى المربع الأول والتدخل في الشأن السياسي، بينما دستور 1989 يَنص على نهاية الدور السياسي للمؤسسة الجيش.