بعد أيّام قليلة من تنصيب عبد المجيد تبون رئيسًا للجمهورية الجزائرية، يُغادر أقوى رجالات الجيش في مرحلة صعبة تمرّ بها البلاد، إثر سكتة قلبية ألمت به. وسط جدلٍ واسعٍ في الشارع عمّا ستؤول إليه العلاقة بين الرئيس تبون وقائد أركان الجيش في رسم المستقبل السياسي، ليضع خبر رحيله حدًّا لتلك القراءات، ويعيد صياغة السؤال عن مستقبل المؤسّسة العسكرية في المشهد السياسي القادم.
رابح لونيسي: لا ننس أن قايد صالح بخطاباته كان يقوّي الحراك دون أن يعلم
اقرأ/ي أيضًا: من ثورة التحرير إلى حراك 22 فيفري.. هذا هو قايد صالح
جيل الثورة
في هذا السياق، ذكر الخبير في العلاقات الدولية، رشيد كوّار، أن خبر موت قائد الأركان قايد صالح، جاء كحدث مفصلي في التاريخ السياسي الجزائري المعاصر، باعتبار القايد صالح كان الحاكم الفعلي للبلاد في الفترة الأخيرة بعد سقوط حكم عبد العزيز بوتفليقة.
وأفاد محدثنا، أن الحدث جاء ليعلن عن انتهاء حكم جيل الثورة الذي بقي متمسّكًا بالسلطة حتى فعلت الطبيعة فعلها. وبخصوص التغييرات في هرم القيادة العسكرية، ومدى تأثير الاشخاص في توجيه السياسة العامّة للبلد أو المؤسّسة التي يتحكمّون فيها، أبرز المحلّل السياسي ضرورة رصد نقاط الاختلاف والتشابه بين الطرفين، فنقاط التشابه كما يقول، تتمثّل في أنّ كلا القائدين جاءا من القوات البرّية وشاركا في حرب أكتوبر 1973 والحرب ضدّ الإرهاب في الجزائر خلال العشرية السوداء.
أمّا نقاط الاختلاف بحسب كوّار، فتتمثّل أساسًا في فرق التكوين بين الرجلين، وإن كان قايد صالح محدود التكوين، فإنّ القائد الجديد للأركان يُعتبر عسكريًا محترفًا في سلاح المدرّعات، تحصّل على العديد من الدورات التكوينية في الجزائر وروسيا.
وبخصوص انعكاسات هذه المعطيات على مستقبل الساحة السياسية الجزائرية، يرى كوار أن اللواء سعيد شنقريحة، يتمتّع بتعليم وثقافة لا بأس بهما، يؤثّران حتمًا على رؤيته الشخصية للأوضاع السياسية التي تمرّ بها البلاد، مضيفًا أن تعيينه يمكن أن يكون منطلقًا أيضًا للانسحاب الهادئ والمدروس للعسكر من السياسة.
ويستطرد المتحدّث أن المعطى الهيكلي للنظام الجزائري قائم على هيمنة العسكري على المدني، بسبب ضعف الساحة السياسية الذي ساهمت فيه المؤسّسة العسكرية بشكلٍ كبير،ٍ لضمان سلطتها على الدولة والمجتمع.
الوضع رهينة التوافقات
من جانبه شدّد الأستاذ في العلوم السياسية، عادل أورابح، أنّ العامل الشخصي كان له دورٌ في تسيير الأزمة بعد استقالة عبد العزيز بوتفليقة واستمرار الحراك الشعبي، مذكّرًا أن معظم القيادات العليا للجيش، تمّ تعيينها وفق منطق الولاء.
على هذا الأساس، يرى المحلّل السياسي أن موقف الجيش في المرحلة المقبلة يبقى غامضًا، موضّحًا أن كلّ شيء متعلّق الآن بطموح الجيش في مواصلة الحكم من خلف واجهة مدنية، فإذا حدث توافقٌ على مستوى القيادة العليا للجيش على ضرورة الانسحاب التدريجي من ممارسة السياسة، فيُمكن الحديث عن عهدة رئاسية انتقالية حتى لو كانت تحت قيادة رئيسٍ غير مرغوب به شعبيًا.
جيش بعيد عن السياسة
من جانبه، أوضح الكاتب والأكاديمي رابح لونيسي في حديث إلى "الترا جزائر"، أن كثيرين يتّفقون حول فكرة أنّ القايد صالح كان له دورٌ كبيرٌ في صعود الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، معتبرًا أن الرئيس الجديد قد يكون مكبّلا نوعًا ما في قراراته بسبب ردّ الجميل، لكن رحيل قايد صالح سيطلق نوعًا ما يد الرئيس تبون، يقول المتحدّث.
ولفت لونيسي الانتباه إلى أن قائد الأركان الجديد اللواء شنقريحة، هو معيّنٌ رسميًا من الرئيس، ولو أن تقاليد المؤسّسة العسكرية معروفة؛ حيث أنّ قائد القوّات البرّية هو الذي يخلف قائد الأركان دائمًا، على حدّ تعبيره.
وذكر المتحدّث أنّه بعد وفاة قايد صالح، ستعود قيادة الجيش مرّة أخرى كما كانت من قبل صانعًا للقرارات الكبرى لكن دون كشف وجهها، فقايد صالح بحسب محدثنا: "كسر هذه القاعدة، فأصبح يظهر بشكلٍ كبير حتّى قبل الحراك، وهذا ما لم تعرفه الجزائر حتى أثناء التسعينيات، ممّا جعل الحراك يطالب اليوم بـ "دولة مدنية وليست عسكرية".
وأضاف لونيسي، أنه بعد وفاة قايد صالح، ستعود المؤسسة العسكرية من جديد إلى "المؤسّسة الصامتة" كما كانت تلقب من قبل. وفي تقدير المحلّل السياسي، فإن رحيل قائد الأركان سيكون له دور إيجابي على المؤسّسة العسكرية، لأنّها ستكون في منأىً عن الانتقادات، وهو ما سيؤثّر سلبًا على وحدة وتماسك المؤسسة نفسها، على حدّ تعبيره.
أما عن انعكاسات رحيل قايد صالح عن مستقبل الحراك، فيرى أنه "يمكن أن تؤثّر وفاته سلبًا على الحراك الشعبي، بحكم العاطفة التي تغلب على الكثير من الجزائريين وتنتهي بالتعاطف مع رحيل قائد الأركان من جهة، وأيضًا لا ننس أن قايد صالح بخطاباته كان يقوّي الحراك دون أن يعلم، فابتعاد المؤسّسة العسكرية إلى الوراء سياسيًا، يمكن أن يساعد الرئيس تبون على احتواء الحراك الشعبي".
ويختم المتحدّث، أنه لا يستبعد أن تحدث إصلاحات عميقة في النظام السياسي تجنبًا لانهيار الدولة وتماشيًا مع تطوّرات المجتمع الجزائري، خاصّة، بعد بوفاة قايد صالح ثم ذهاب الكثير من القيادات الحالية في المؤسّسة العسكرية إلى التقاعد، وهو ما يسمح بصعود إطارات من جيل الاستقلال وغير مسيسين ولهم تكوين عالٍ على عكس قايد صالح وبعض المحيطين به، ممّا سيدفعهم إلى التركيز على احترافية الجيش دون أي تدخّل في الشؤون السياسية بشكلٍ كبير، باستثناء بعض القرارات الاستراتيجية والأمنية كما يحدث في كلّ دول العالم.
هل يتحرّر تبون؟
وفق المتغيرات الجديدة الطارئة على الساحة السياسية، يتوجّب طرح أسئلة من زاوية مغايرة، أوّلها هل سيتحرّر تبون من العبء الذي كان على عاتقه، بحكم أن قايد صالح كان متحكمًا في الحياة السياسية لأزيد من عشر أشهر؟ والسؤال الثاني هل سيكون خليفة قايد أقلّ تشدّدًا من سابقه اتجاه الحراك؟ والسؤال الأخير هل سيدوم التماسك الذي عرفته المؤسسة العسكرية في الفترة السابقة؟
الواقع يقول إن المؤسسة العسكرية أثبتت أنّها من المؤسّسات الأكثر تنظيمًا في الجزائر، وبشكلٍ خاصٍ في السنوات الأخيرة، بفعل الأطر الجديدة التي تكوّنها، خاصة في رسم معالم الاستخلاف في الجزائر بطريقة سلسة، إذ نجحت المؤسسة في تجاوز أزمة سياسية عاشتها الجزائر بعد استقالة الرئيس بوتفليقة.
إن الضامن الحقيقي والفعلي للوضع في الجزائر هو تماسك القيادة العسكرية
من هذا الباب نقول إن الضامن الحقيقي والفعلي للوضع في الجزائر هو تماسك القيادة العسكرية، لأنّ الرئيس لا يتمتع بشرعية واسعة في الشارع الجزائري، ويحتاج إلى وقت لإعادة بناء مؤسّسة الرئاسة. ويمكن القول إنّ فترة حكم عبد المجيد تبون هي مرحلة انتقالية لإعادة وضع توازنات جديدة.
اقرأ/ي أيضًا:
رحيل قايد صالح وتعيين سعيد شنقريحة قائدًا للأركان بالنيابة
رجل الظلّ في المؤسّسة العسكرية.. من هو اللواء سعيد شنقريحة؟