02-مايو-2024
حسنة البشارية

الراحلة حسنة البشارية (الصورة: فيسبوك)

ترجّلت جوهرة الجزائر الفنانة الجزائرية حسنة حسنيات الملقبة بـ"حسنة البشارية" (1950) عن ركب الحياة، بعد أن أقعدها المرض في المستشفى خلال جولة فنية بين بعض مدن الجزائر.

حسنة البشارية فنانة اقتحمت وأبدعت في فنّ رجالي صحراوي، ما جعل منها فنانة "فردانية" قادت النساء نحو تحدّي الأعراف الثقافية في بيئتهن

وخلّفت الراحلة (74 سنة) بيننا ذكرى سيدة قوية، وفنانة مثابرة وهادئة، مكافحة وثورية، سواءً في مشوار حياتها الخاصة، أو في عالم الموسيقى الجزائرية، خاصة في الطابع القناوي أو الديوان الذي أحدثت فيه ثورة "نَسَوية" تحدّت بها كل الأعراف التي فُرِضَت على النساء في بيئتها لعدة عقود.

حسنة الثائرة على القناوي الذكوري

تُعتبر حسنة أو حسنية، أوّل امرأة تقتحم عالم الديوان لتصبح "معلمة" أو شيخة وسط "المعلمين" الرجال في هذا الطابع الذي بقي، حكرًا عليهم لوقت طويل. فخرجت عليهم هذه السيدة التي كانت تبتغي تحقيق شغفِها الموروث من والدها، وجلست في مجالسهم، وغنّت في الحفلات والأعراس حتى تسُدّ حاجتها وحاجة عائلتها بعد رحيل الوالد.

وقد برعت "البشارية" -كما تُلقّب- كثيرًا في هذا الفن، حيث استمرت فيه لتُبقي على علاقتها الحميمة بالموسيقى، كما كان مصدر اللقمة أيضا لها ولمن أعالتهم من العائلة والمقربين.

حسنة

نشأت حسنة إذن في تلك الأجواء المشحونة بالغناء الشعبي والمتصوف في مسقط رأسها بمدينة بشار، جنوب غرب العاصمة الجزائرية، وخلال سنة 1972، كوّنت فرقتها النسائية الموسيقية مع صديقتيها خيرة وزهرة ونساء أخريات تداولن على هذه الفرقة، حيث نشّطن عدة حفلات وأعراس.

وانتقلت حسنة من العزف على "القيثار العادي" إلى "القيثار الكهربائي"، الذي كان خيارها الأفضل لتستطيع مواكبة ذلك الحماس، الذي كانت تنشره بين الحاضرين في كل مرة. ومن هنا اشتهرت مع فرقتها في مختلف أنحاء الجنوب الجزائري، وسافرت إلى معظم مناطقه لإحياء العديد من الأفراح التي كان يتم طلبها فيها بكثرة.

فنانة نسوية بالفِطرة

خلال سنة 1976، عزفت حسنة مع فرقتها في بشار بحضور أعضاء الاتحاد النسائي الجزائري، وعرفت آنذاك نجاحًا منقطع النظير، مع ذلك، بقي هدفها منصبًا على عزف المزيد من الموسيقى والتحرّر من قيود المجتمع من حولها، إضافة إلى جمع المال لإعالة ذويها كما كانت تصرّح دائمًا.

ولأنها مع الوقت، صارت تقوم بدور "رجل" العائلة لتعويض غياب والدها الراحل، فأصبحت تلك المرأة القوية الصامتة التي لا تتحدث كثيرًا، لكنها كانت تُعيل الجميع. كما استمرت في جهودها للدفاع عن المحتاجين وعن النساء المقهورات والمعنّفات أيضا، لأنها كانت نسوية بالفطرة دون أن تعلم ذلك.

حسنة

بلغت حسنة سن الخمسين وهي تحمل "القيثار الكهربائي" وتعزف وتغني هذا الطابع متحدية كل الأعراف المجتمعية والتقاليد التي فرضتها البيئة الصحراوية التي نشأت فيها، وقد كانت فنانة عصامية بحق، لأنها تحدت رغبة ولدها وأهلها وخرجت عن أعراف سكان منطقتها.

كما تعلمت خفية العزف على آلة "الڨمبري" الرجالية، ومارست شيئًا فشيئًا اللعب على "القيثار العادي" و"القيثاري الكهربائي"، إضافة إلى "البانجو". وقد نجحت في خلق طابع لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا بالجنس، حيث تقاطعت في فنها عدة طبوع جمعت ألوانًا موسيقية مختلفة تأرجحت بين التراث والحداثة، وأضفت عليها لمسة أنثوية خاصة لم تستغني فيها عن جذورها، لتصنع لها مكانًا فريدًا كامرأة متحررة لغتها الموسيقى التي لا تتنكر لأصولها.

حسنة.. الثورة الناعمة

بعد إعلان خبر وفاة حسنة البشارية، نشر الكاتب سعيد خطيبي نصًا يرثيها فيه على حسابه الشخصي في فيسبوك، حيث قال أن "حسنة قضت أكثر من ثلاثين عاماً، وهي تجوب بلاد الرّمال، كما فعلت قبلها إيزابيل إيبرهارت، تقطع الوديان والواحات والبلدات المنسيّة، تغني في خيّام الوبر، أو على الإسمنت البارد، وتحثّ بنات جيلها على الاستمساك بعروة الفرح وكسر عصا الرّجل."

"ثم راحت تطوف بين مدن أوربية، في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال، كي تعلّم النّاس، وساكنة الشّمال، موسيقى الدّيوان، التي حملها المستعبَدون الزّنج، في طريقهم من الصّحراء الكبرى إلى شمال أفريقيا، وأرادوها نشيداً لثورتهم الخامدة"، يكمل خطيبي.

الكاتب سعيد خطيبي: حسنة البشارية قطعت الوديان والواحات حاثّة بنات جيلها على الاستمساك بعروة الفرح وكسر عصا الرّجل

أضاف الكاتب في نصه أن حسنة من بشّار، المدينة التي يختلط فيها العابرون بالسّماسرة والدّراويش، لم تلج الحريم، الذي هيأه لها أجدادها. "أبي كان يرفض أن اختلط بالرّجال" تقول. لكنها ستنقلب على وصيّة والدها، تخرج سالمة من مستنقع العار، تحمل القمبري، مثلما كان يفعل والدها وتزيل الجدار بين الجنسين، وتصير، بصبرها، وليّة صالحة، رغم أنّه لا قبّة لها في صحراء لطالما خذلتها وتنكّرت لها. "أنا زهْرية" تردف. أي صاحبة بركات وشفاعات الأجداد.

اعتبر الكاتب أن حسنة هي شيخة الدّيوان الأولى، رمز من رموز تحرّر المرأة من عنق الزّجاجة الذّكورية. حيث أعادت  تأنيث موسيقى الدّيوان، بعدما ارتبطت، لقرون، باسم "المْعلّم"، أو المقدّم، وهي كلمة تُطلق على عازف القمبري، وقائد الفرقة، وكان لا بدّ أن يكون رجلاً، وأوجدت لها نظيراً: المعلمة، أضافت لغة أنثوية، على موسيقى ذكورية خشنة، وأزالت عنها قوقعة الصّلابة، والعتوّ، والضوضاء، التي غالباً ما خيّمت عليها.

يردف سعيد خطيبي أن تلك هي الثّورة النّاعمة، التي قادتها في نوع موسيقي شعبي، له مئات الآلاف من المحبين والمتابعين، ومن المجانين، في الجزائر والمغرب وتونس، وله جذور تمتدّ إلى أكثر من 12 بلدا فريقيا، بقيت حسنة وفية لروحها الأصلية، زاهدة في الحديث عن نفسها، لا تُبالغ في الثّناء عما فعلت."

"كباري سوفاج"

بعد سنوات عديدة من الترحال هنا وهناك في الوطن، وخلال عام 1999، تم اكتشاف الفنانة حسنة البشارية في فرنسا.. أخيرًا، من خلال حفل قدمته في مسرح كباريه سوفاج الشهير في العاصمة باريس، حيث شاركت في تظاهرة احتفالية أطلق عليها اسم "نساء الجزائر"، وقد كانت بحق مفاجأة تلك التظاهرة، لأنها سافرت بفنها وبيئتها إلى هناك، ونقلت عبق الصحراء وفن الجنوب نحو فرنسا.

لقد سحرت حسنة الجمهور هناك بعزفها القوي والواثق وصوتها الغريب الساحر، إضافة إلى إحساسها الفطري بالموسيقى والإيقاعات الغناوية والصحراوية، حيث كانت تنتقل بخفة بين الديوان والفوندو البشاري، والتراث الهدوي الغني الذي كان يؤدى في المحافل الشعبية جنوب الجزائر.

شهدت حسنة هناك أيضا عزفها لأول مرة على آلة القمبري أمام الجمهور، بعدما كانت ممتنعة عنها، وقد صرحت مرارا أنها لم تفعل ذلك احتراما لذكرى أبيها الذي نهاها عن عزفها، لكنها قالت بعد ذلك أنها رأته أخيرا في المنام قبل الحفل، حيث منحها بركته للعزف على القمبري، وذلك ما فعلته في باريس خلال ذلك الحفل الذي بقي راسخا في ذاكرة كل من حضوره وأشرفوا عليه.

الجزائر جوهرة

انتظرت حسنة البشارية ما يُقارب الثلاثين سنة قبل أن تقرّر إصدار ألبومها الأول الشهير “الجزائر جوهرة” سنة 2001، حيث حاولت  فيه الجمع بين ألحانها وتراث أجدادها في موسيقى الغناوية والديوان، إضافة إلى التجديد الموسيقي الذي أدخلت به آلة "القيثار الكهربائي" وأسلوب "الروك" الغربي.

وبدا على طابعها التأثر الكبير بما تعلّمته خفية من والدها معلم الديوان، إذ روت كثيرًا أنها كانت تستمع إليه في السهرات والقعدات، وتقلّد ما تسمعه في مختلف المناسبات، وتُعيد المقاطع التي كانت تلتقطها أذناها الصغيرتان آنذاك، كما كانت تقلد التطبيل والعزف على أي أداة تقع في يدها.

مغنية روك الصحراء

يُذكر أن هنالك فيلم وثائقي يحمل عنوان  "La rockeuse du désert"  أو مغنية روك الصحراء، وهو من إخراج الجزائرية الكندية سارة ناصر، حيث تم عرضه الأول خلال سنة 2022 في كندا إبان فعاليات مهرجان "مناظر أفريقيا" ومهرجان "سينما العالم".

تم تصوير هذا العمل خلال الفترة الممتدة بين سنتي 2013 و2018، وقد استغرق التصوير حوالي عشر سنوات قص فيها جوانب خفية وظاهرة من حياة حسنة البشارية في الجزائر، وخاصة في مدينة بشار حيث ترعرعت، حيث تدور أحداثه التي تدوم ساعة و15 دقيقة حول حياتها وعلاقتها الحميمة بموسيقى الديوان والڨناوي، كما انتقل بين ثلاث قارات وعدة بلدان في تقفي أثر هذه المرأة المثابرة الحرة.

صرحت مخرجة الفيلم الوثائقي في لقاء صحفي سابق لها أن هذا العمل يمثل بورتريه عميق وحميمي لهذه الفنانة، كما اعتبرتها رائدة فناني الديوان، وأنها الموسيقية الأولى التي تمكنت من تخطّي الحدود المجتمعية في ثقافتها المحلية.

اعتبرت المخرجة أيضا أن حسناء البشارية هي مثال يحتذى به من طرف كل النساء، لأنها ألهمتهن لتقتحمن مجالًا موسيقيًا بقي طويلًا حكرًا على الرجال، كما أنها فنانة "فردانية" قادت النساء نحو التفكير في إعادة تعريف أدوارهن في المجتمع، وتحدّي الأعراف الثقافية في بيئتهن من خلال ما قدمته من فن وموسيقى خاصة بها.