26-أبريل-2019

رحل عباسي مدني عن عمر يناهز 88 عامًا (أ.ف.ب)

في لحظةٍ ما، من مطلع تسعينات القرن العشرين، يعتقد البعض أنها عفوية، فيما يعتقد البعض الآخر أنها مفتعلة من أحد أطراف النظام الجزائري لتجديد نفسه من جديد؛ اختطف الناشط الدعوي والجامعي عباسي مدني، العائد من بريطانيا بشهادة دكتوراه في علوم التربية، الأضواء من رئيس الجمهورية يومها الشاذلي بن جديد، ومن كل نجوم المشهد الجزائري بكل أجنحته. وفرض نفسه كنجم أول يسير قطاعًا كبيرًا من الشارع الجزائري بإشارة منه.

في مطلع التسعينات باتت جبهة عباسي مدني الحزب الحاكم في الميادين والصناديق بحكم الأمر الواقع، ما أقلق مؤسسات النظام

فعل ذلك من خلال تأسيسه حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، التي سرقت الأضواء بدورها من الحزب الحاكم نفسه، الذي كان مناضلًا ضمن صفوفه من قبل، حيث لم يحصل معها في الانتخابات البلدية والبرلمانية عامي 1990 و1991، إلا كما يحصل عصفور من وليمة الأسد، في سابقة من نوعها لم يشهدها الجزائريون، منذ مطلع الاستقلال الوطني عام 1962.

اقرأ/ي أيضًا: الإخفاء القسري في الجزائر.. إرث العشرية السوداء المبهم

من ضوء الشارع إلى ظلام السجن

لقد باتت جبهة عباسي مدني الحزب الحاكم، في الميادين وفي الصناديق، بحكم الأمر الواقع، عوضًا عن حزب جبهة التحرير الوطني، الذي استقى شرعيته بشكل أو بآخر من ثورة التحرير.

نفوذ عباسي مدني وجبهته أقلق مؤسسات النظام الحاكم، وعلى رأسها مؤسسة الجيش التي فرضت على الرئيس الشاذلي بن جديد الاستقالة عام 1992، وألغت المسار الانتخابي، وحكمت على عباسي مدني ورفيقه علي بلحاج بالسجن 12 عامًا، وأعلنت حالة الطوارئ، وجاءت بمحمد بوضياف، الذي كان منفيًا في المغرب، ليكون على رأس المجلس الأعلى للدولة، كبداية لمرحلة انتقالية.

عباسي مدني
مطلع التسعينات، تحولت جبهة عباسي مدني إلى حزب حاكم في الميادين والصناديق

أدى هذا الخيار إلى اندلاع موجة العنف المسلح، بين الجيش الجزائري والجيش الإسلامي للإنقاذ في البداية، ثم انبثقت جماعات مسلحة أخرى، ما أدخل البلاد فيما عرف بـ"العشرية السوداء"، تسببت في سقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين والنازحين. ولم تتوقف إلا بمشروع المصالحة الوطنية، الذي استلهمه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بعد مجيئه عام 1999 من "قانون الرحمة"، الذي اقترحه من قبل الرئيس اليمين زروال.

مع استفاء سنوات عقوبة السجن، تم إطلاق سراح عباسي مدني وعلي بلحاج عام 2004، مع تجريدهما من أي حق في الممارسة السياسية، ففضل الأول الإقامة في الخارج، فيما فضل الأول البقاء داخل الجزائر.

ملاك وشيطان

وقبل يومين رحل عباسي مدني في منفاه، عن عمر يناهز 88 سنة، في أوج اشتعال الحراك الشعبي، لينقسم حوله الجزائريون، بين من اعتبره مناضلًا وشخصية وطنية جديرة بالترحم والاحترام، حتى من غير الإسلاميين، ومن رأى أنه كان سببًا في حريق وطني راحت ضحيته أرواح وفرص وأملاك، من غير أن يبدر منه اعتذار للشعب الجزائري.

وكتب الناشط والمدون حسام الدين سنوسي، في إشارة منه إلى الذين تشفوا في موت مدني: "لحظات الموت لها هيبة لا تليق بها الجدالات العقيمة؛ فكيف إذا كان الميت المنفي الغريب أحد أعضاء المنظمة السرية وأبطال ثورة التحرير ومِن أوائل من فجر الثورة بالعاصمة ليُحكم عليه بالسجن فرنسيا بتوقيع فرنسي".

في المقابل كتب الإعلامي أنيس بن هدوقة: "عندما أرى البعض يُشيد بالإرهابي عباسي مدني، أفهم لماذا بقيت فرنسا 132 سنة. وكأن الإسلاميين لم يكونوا إرهابيين. وكأن الفيس (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) لم يُقتل أبدًا"، ثم يخلص إلى القول: "عباسي المدني وأمثاله ليسوا إلا إرهابيين، ولن أترحم أبدًا على أمثاله".

وفيما شرع العشرات من رواد موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، يستهجنون الترحم على عباسي مدني، ويذكرون ما حدث لهم ولأسرهم خلال تسعينات القرن العشرين، تحت شعار "حتى لا ننسى"، رأى آخرون أن روح التشفي تتنافى مع الروح الإنسانية، ومع روح الحراك الشعبي نفسه.

أثار موت عباسي مدني، كما حياته، جدلًا واسعًا في الجزائر بين مترحم متعاطف معه، ومهاجم يصفه بـ"الإرهابي"

يتبقى أن عباسي مدني، وباختلافه مع وجوه النظام خطابًا وسلوكًا ومسؤولية، اشترك معهم في عادة الرحيل من غير أن يكتبوا مذكراتهم، أو يدلوا بشهاداتهم، بصفتهم كانوا فاعلين في أحداث مفصلية تبقى ملفوفة بكثير من الغموض نتيجة تحفظهم على سردها للأجيال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التلفزيون الحكومي يُرعب الجزائريين.. قد تعود العشرية السوداء!

عن سنوات المصالحة العشر في الجزائر