07-أبريل-2019

غلاف رواية "الحي السفلي"

تدور أحداث رواية "الحي السفلي" للروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور، في أحد أحياء الصفيح، في مدينة من مدن الغرب الجزائري، وزمنيًا بعد 20 سنة من استقلال الجزائر.

تقدم رواية "الحي السفلي" لعبد الوهاب بن منصور  سردية تخيلية عن مرحلة تاريخية مفصلية في تاريخ جزائر ما بعد الاستقلال

بطل الرواية شاب يُدعى أحمد القط، وسبب تسميته بالقط هو ولعه بالقطط. يروي القط قصته مع وباء الكوليرا، و مع رجال المكتب الثاني الذين اتهموه بالتآمر على أمن الدولة، بسبب محاولته الانتحار في يوم صادف احتفال الجزائر بعيدها الـ20 لاستقلالها.

اقرأ/ي أيضًا: "الديوان الإسبرطي".. أسئلة واحدة أزمنة مختلفة

إنّ حياة الشظف واليأس والحزن التي لازمته بعد وفاة والدته بوباء الكوليرا، والحصار الذي أقامته السلطات العمومية حول الحي بسبب الوباء؛ كانت من الأسباب التي دفعت بأحمد القط إلى محاولة الانتحار. ليس فقط كردة فعل على الوضع البائس الذي يعيش فيه، بل لأنّه وجد في الموت خيارًا فرديًا، لا دخل فيه لأحد. إلاّ أنّه تبيّن له بأنّ الموت، في ظل دولة استبدادية، هو فعل سياسي، وهو أيضا انتهاك لقوانين الدولة.

انبنت الرواية على مشهدين محوريين: مشهد ما قبل محاولة الانتحار، ومشهد ما بعد محاولة الانتحار؛ وبين المشهدين، وزّعت الرواية أحداثها على شكل تقطيعات سردية. ومن خلال هذا الشكل الفني، تبني الرواية شخصيتها الأساسية.

سيكتشف القارئ بأنّ والد أحمد القط قد تخلى عن أسرته، وتركه مع والدته وجدّته لقمةً سائغة للفقر. ثمّ يكتشف بأنّ والدته تعرّضت للإصابة للوباء، وقضت نحبها بسبب غياب الرعاية الصحية، وبسبب الحجر الصحي الذي فرضه المكتب الثاني على سكان الحي. أما جدته فكانت سنده الوحيد في هذه الحياة التعيسة.

تعرّض القط لأعراض الوباء، فكان لزامًا عليه المكوث في البيت. كان يزوره طبيب هندي لمعاينته. وعلى الرغم من توسلات جدته المجاهدة لأعوان المكتب الثاني، لمنح حفيدها فرصة الخروج من البيت، بسبب أنّ الأعراض التي يعاني منها بدأت تخفّ، إلا أن توسلاتها لا تلقى آذانًا صاغية .

وفي اليوم الذي منح له الترخيص للخروج، بعد ثبوت شفائه من المرض، ألقى عليه القبض خارج الحي، ليرسل إلى مستشفى المدينة، وهناك تمكن من الفرار، فيتخذ مقبرة المدينة ملجأ له. ويأوي داخل ضريح نُسجت حوله خرافات كثيرة، عن لعنة تصيب كلّ من ولج إليه.

بؤس الواقع

رواية "الحي السفلي" لعبد الوهاب بن منصور تقدم لنا سردية تخيلية عن مرحلة تاريخية مفصلية في تاريخ جزائر ما بعد الاستقلال، وهي فترة حكم الرئيس الراحل هواري بومدين. لقد بدأت المرحلة كانقلاب على وضع سياسي، وفي رواية أخرى كتصحيح لانحراف مسار الدولة الوطنية الحديثة التي قادها بن بلة. تقترب الرواية من التخييل السياسي لذاكرة مرحلة تاريخية، والمصطلح للناقدة المغربية زهور كروم.

إنّ رهان أي روائي، أمام موضوع في حجم نقد فترة سياسية وتاريخية هو: ما هو الشكل الفني الذي يناسب الكتابة عن هذه المراحل؟

 تقول زهور كروم، في كتاب "نحو الوعي بتحولات السرد الروائي العربي": '' يتخذ شكل تفكيرنا/ قراءتنا لعلاقة الرواية بالتاريخ والذاكرة طابعًا ثقافيًا ومعرفيًا مختلفًا، تتحدد مكوناته من تطور نظرية الرواية، إضافة إلى أسئلة اللحظة التاريخية التي يعيشها الفرد العربي راهنًا، والتي تؤسس بدورها لحالة ثقافية مختلفة وجديد".

تمتلك الرواية كعمل فني وتخييلي القدرة على المساءلة النقدية، التي تهدف إلى الكشف عن الأعطاب التاريخية والسياسية للدولة الوطنية الحديثة، دولة ما بعد الاستقلال، في علاقتها بقضايا الإنسان الذي خرج من أتون حرب تحريرية قاسية.

عبد الوهاب بن منصور
التجأ بن منصور في روايته إلى أسلوب كافكاوي

التجأ بن منصور في روايته إلى أسلوب كافكاوي في بناء أحداث روايته، حيث عمد إلى وضع شخصيته المركزية أمام واقع كابوسي، وفي حالة دفاع عن النفس من جرائم لم تقترفها. أمام هذا الوضع اللاإنساني، تتعرّض الشخصية إلى تحوّل داخلي عنيف، إذ أصبحت تشعر بأنّها تحوّلت إلى قط.

يحيل حضور كافكا إلى الطبيعة الشكلية لرواية "الحي السفلي"؛ فهي اعتمدت على أسلوب تيار الوعي، وحديث النفس التي تحفر عميقًا في دهاليزها المظلمة الشخصية النفسي، لتكشف عن مشاعر الخوف، والقلق، والتشاؤم، والسوداوية.

 لا نكاد نسمع في الرواية إلا لصوت الشخصية – البطل أحمد القط، وهو صوت ممهور بمعاناة الفرد الذي يجد نفسه في مواجهة جهاز كبير و خطير وهو الدولة.

لكن، استرجاع هذه اللحظة التاريخية، فرضتها أسئلة الراهن الجزائري اليوم، فالرواية معنية برهانات الواقع الجديد في الجزائر، والذي يبدو أنّه، رغم تحولاته الشكلية، محتفظ بجوهره؛ حيث نتساءل: ما الذي تغير من واقعنا؟ ما الذي تغير من علاقة الفرد بالدولة؟

 ستجرفنا مشاعر أحمد القط  بفيضان من الأحاسيس السوداوية الممزوجة بالريبة من كل شيء يحيط بها، فأقسى ما يمكن أن يمر بها أن ترتاب من كل شيء.

الأحلام القاسية

تبدأ الرواية بهذه الجملة: "منذ وعيتُ وأنا أحلم". ثمّة إعلان مُبكّر عن "الأنا"، لا بوصفها فحسب أنا ساردة، بل بوصفها أنا حالمة. فالحلم، يتحوّل إلى شكل من أشكال الخلاص من واقع بائس عاشه السارد/الشخصية أحمد القط، وهو أيضًا يمثّل فعلًا وجوديًا، الغاية منه الإعلان الصريح عن إمكانية الوجود بالحلم.

لا يعني هذا أننا بصدد شخصية حالمة؛ فأحمد القط، طيلة الرواية، هو بطل مضاد لذلك النوع من الشخصيات الحالمة، بل ارتباطه بالحلم هو الغاية منه البقاء على قيد الحياة. الحلم هو تجسيد لذلك الوعي المأساوي الذي وصم حياة أحمد، فحين تغلق أبواب الواقع، تفتح نوافذ الحلم، بحثًا عن الخلاص.

كان أكبر ما يحلم به أحمد القط هو الانتحار، وحينما فشل، صار حلمه أن يتحول إلى قط. يزداد توهج الأحلام في واقع موغل في قيم الخواء والعماء. وفي الرواية، يتجلى هذا الواقع في صورة حيّ فقير، معزول، ومحاصر، يقع عند أطراف المدينة، يحاصره مرض الكوليرا، فيتحول إلى واقع مغلق. فأحمد القط ينتمي إلى هذا الفضاء الذي ينتمي إلى الهامش الاجتماعي، المحاذي لحدود المدينة، المقذوف خارج حدود التاريخ. لقد عاش أحمد القط في هذا الفضاء الفقير، الذي يضم عائلات حاصرها الجوع والوباء وظلم السلطة لها.

صوّر لنا السارد هذا الفضاء في صورة المكان الموبوء، الذي يشكل خطرا محدقا على المدينة، كما صورت ذلك الخطر في صورة الخطر السياسي كذلك. لهذا كان على السلطة أن توفد أعوانا من المكتب الثاني لمراقبة هذه الأحياء، بوضع علامات على الأبواب كدليل أنها أبواب لا يجب أن تفتح.

الهامش هو مكان مقرون بالوباء، بالخواء، بالموت، وبالخطر، والحصار. كما أنّ الموت هو الصورة الواقعية لهذا الواقع؛ موت الوالدة، وباء الكوليرا، محاولة الانتحار، فضاء المقبرة، التعذيب... إلخ

البعد السياسي للوباء

تحوّل وباء الكوليرا القاتل إلى موضوع سياسي في الرواية؛ كان مصير إمام الحي هو الاختفاء، لأنّ تفسيره للوباء حمل في ثناياه إدانة خفية للسلطة، فقد اعتبر الكوليرا عقابًا إلهيًا، بسبب غياب الأخلاق، وكثرة الآفات الاجتماعية في المجتمع. وإذا أردنا تفسير هذا الخلل الأخلاقي، نصل إلى إدانة السلطة التي عجزت عن توفير ظروف الحياة الكريمة لمواطنيها، وما الآفات الاجتماعية إلا نتيجة لاستقالة الدولة عن وظيفتها الاجتماعية.

جاء في الرواية: "أعوان الحزب، بأمر من المكتب الثاني، غزوا منابر مساجد المدينة وتحوّلوا إلى أئمة مختصين في الوعظ والإرشاد، كان عليهم إقناع الناس بالحجة والبرهان أنّ الكوليرا ليس عقابًا إلهيًا".

تتدخل السلطة كقوة تأويلية لإعادة تفسير ماهية الوباء، مستبعدة عن طريقها التفسيرات الدينية، التي من شأنها أن تحمّلها مسؤوليات الأوضاع. لكن أيضًا لأجل التحكم في مشاعر الناس، الذين يمكن لهم أن يتأثروا بوجهة نظر الإمام، فيولد في داخلهم حالة من التدمر، التي يمكن أن تتطور إلى شكل من العصيان.

انتحار الفرد بوصفه حدثًا سياسيًا

لم تبدأ مأساة أحمد القط من اليوم الذي فقد والدته بسبب وباء الكوليرا، ولا حتى بسبب المعاناة الاجتماعية التي يعاني منها، لكنها بدأت يوم قرّر الانتحار. بالنسبة له، فالموت هو خيار فردي، وهو مطلق الإحساس بالحرية الشخصية؛ إذ من حقّ الفرد أن يعبّر عن رفضه للحياة البائسة.

صحيح أنّ الانتحار هو تعبير عن عجز الفرد في مواجهة معضلاته الحياتية، لكنه أيضًا على صعيد وجودي، يعبّر عن رفض مطلق لفكرة الحياة خارج شروطها الاجتماعية الكريمة. لكن ما لم يخطر على بال أحمد، أنّ الانتحار قد يتحوّل إلى رسالة ذات شيفرات سياسية: "قضيتك مبنية على اختيارك لذلك اليوم بالذات فمحاولتك الفاشلة، قد أثارت ردودًا وتساؤلات لم تتوقعها، ولم يتوقعها غيرك. وربما لم تفكر فيها. لكنك فتحت بابًا لا يرغب أحد في دخوله. فإنّ الأمر، الآن، قد تعداك".

لقد صور بطل رواية "الحي السفلي" وساردها، أحمد القط، الموتَ في صورة الحدث السعيد الذي يجسد فكرة الخلاص

هذا كان استنتاج ذلك الرجل الذي كان معه في غرفة المشفى، والذي يبدو أنه فهِم طبيعة المشكلة التي يواجهها أحمد القط. هناك دائمًا أمورٌ لا يمكن توقعها، تتولد من الأحداث العادية، أو من تلك الأحداث التي تبدو أنها بريئة.

اقرأ/ي أيضًا: شجاعة النقد.. أمين الزاوي يضرم النيران في الجنّة!

لم يكن صدفة حين اختار أحمد الانتحار في يوم ذي دلالات رمزية، وهو يوم استقلال الجزائر، وبالنسبة له فإنّ الموت في هذا اليوم ينسجم مع مفهومه الذاتي للموت بوصفه حدثًا استثنائيًا يمنح له ذلك الإحساس بأنه فرد حر ومستقل، يحق له أن يتصرف في موته على النحو الذي يشاء.

حتى أحمد القط، كان واعيًا بهذا البعد الرمزي للانتحار في ذلك اليوم ، أي عيد الاستقلال، أراد أن يحرر نفسه من واقعه البائس. لقد صوّر أحمد القط، بوصفه ساردًا في الرواية، الموت في صورة الحدث السعيد، الذي يجسد فكرة الخلاص: "ماذا سيتغيّر أن نموت أو ننتحر في يوم يصادف تاريخه يوم عيد استقلال الوطن، وقد مرّ عليه 20 عامًا، أو في غيره؟ لم أعتقد أنّي الشخص الذي يهتم به الآخرون ليكون يوم انتحاري يومًا ذا شأن! أواجه الأمر بسخرية تامة بداخلي. السخرية من شيء لم أضعه في الحسبان. السخرية من تبرير ما لا يبرّر، تبريرًا مقنعًا".

هناك طابع ساخر يلف طريقة تعامل المكتب الثاني مع محاولة انتحار أحمد القط، ذات لذوعة خاصة، لأنّها تتجاوز قدرة المنطق على تفسير هذه العلاقة المتشابكة بين الانتحار والوطنية. لم تتدخل الصدفة في خيار كهذا، لكن لم يفكّر القط أنّه سيتحول إلى مشبوه بتهمة الإعتداء على رموز الوطنية، وهو عيد الاستقلال.

ينجو أحمد القط من محاولة الانتحار، لكنه لن ينجو من قبضة المكتب الثاني، فحين وجد نفسه في المستشفى، أدرك أنه لم يكن وحيدًا في القاعة، بل كان بالقرب منه رجلان غريبان، يتهامسان بصوت مسموع عن كتابة تقرير ما حول هذا الشاب الذي حاول الانتحار، قبل أن يتقدم أحدهما إليه، وبنبرة التهديد، أمره بأن يعترف بجريمته!

سيدرك القارئ أنّ التهم لا علاقة لها بفعل الانتحار نفسه، بل بالتآمر على رموز الدولة. فبين حالة التخدير واليقظة كان أحمد القط غارقًا في أسئلة حائرة، وهو يبحث في داخله عن إجابات ممكنة لسؤال ما فتئ الرجلان يطرحانه بتكرار ممل: "نريد الحقيقة".

الشخصية الكافكاوية

تتمتع شخصية أحمد القط بسمات كافكاوية؛ فقد وجد نفسه متهمًا بالتآمر ضد الدولة، في حين لم يكن في حياته قادرا على إيذاء حشرة. عن أي حقيقة يبحث المكتب الثاني؟ تظهر الدولة كجهاز لصناعة الأعداء الوهميين، وتلفيق التُهم الجاهزة على هؤلاء الأعداء. ما يقوّي الدولة هو حاجتها المستمرة إلى صناعة الأعداء، حتّى تكون دائمًا في موقع الضحية.

لقد عاش أحمد القط تجربة كافكاوية، بسبب اتهامه بتهم غامضة. فهم بأن إستراتيجية الدولة هي غرس بذرة الشك والقلق في نفوس ضحاياها، ليتحولوا من تلقاء أنفسهم إلى مجرمين، ويقتنعوا بجرائم لم يرتكبوها.

إن النسق الذي تضعه الرواية هو ثنائية البطل/العدو، والبطل/الخائن، فالدولة الوطنية الحديثة أطرت وجودها من خلال إبراز قيمة البطولة في النظام، وقيمة الخيانة والعداء في الذين ينتمون إلى الهامش.

إنّ ضحايا الدولة، أو ضحايا فشل مشاريع الدولة، ضروريون ليلعبوا دور الأعداء المحتملين. تخاف الدولة من هذه الطبقة المهمشة لأنها تشكل صوت الظلم الاجتماعي، والتي منها يمكن أن تخرج شرارة الثورات الاجتماعية التي تستطيع قلب النظام. فبدل التفكير في إصلاح الأوضاع، تكيل لهم تهم الخيانة.

صوّرت الرواية احتجاج شخصيتها في شكل هروب دائم من الواقع، ومن قبضة رجال المكتب الثاني، والهروب إما إلى المقبرة، أو إلى الحلم أو في أقصى الأحوال إلى الموت.

لا نجد في رواية الحي السفلي المعنى الاجتماعي للاحتجاج، وإن كان واقع الحي السفلي، وما يعانيه من تهميش يشخّص البنية الهشة للدولة الحديثة الاستقلال، وهي "اختلالات هيكلية ترتبط بشقّ منها يكون أغلبها دولًا رضخت لحكم سلطوي في مرحلة ما بعد الاستقلال، بما عناه ذلك من غياب للتعددية السياسية والاجتماعية"، كما جاء في ورقة "الحركات الاحتجاجية في الجزائر: الحقائق والآفاق" للطفي بومغر ونوران سيد أحمد.

غياب تلك التعددية جسدتها هيمنة جهاز المكتب الثاني على الحي السفلي، ومحاصرته له، بوصفه مصدرًا للخطر الذي يهدد المدينة التي هي مركز السلطة. تريد الرواية أن تعرّف الاحتجاج كفعل فردي، يتجاوز المعطى الاجتماعي والسياسي إلى أفق وجودي، فمعضلة أحمد القط أصبحت تتعلق بحقه في الموت كفلسفة فردية. أن تصل الدولة إلى منع الفرد من الانتحار، فهذا في نظر الرواية أفظع أشكال التسلط الممكن. أصبح للدولة شرعية التصرف في حياة أو موت الأفراد.

رواية الحي السفلي
عبرت الرواية عن النظام السياسي بوباء الكوليرا

تدافع الدولة عن أيديولوجيتها من خلال تخوين الآخر، ودفعه إلى الاعتراف بأفعال لم يقم بها، وهذه الأيديولوجيا، كما يعرّفها بيير زيما في كتاب "النص والمجتمع.. آفاق علم الاجتماع والنقد"، هي "خطاب الوعي الزائف، وتعمل هذه الإيديلوجيا على تحقير الآخرين الذين يودون الخروج عنها".

يتحول الكوليرا إلى وباء ملازم للدولة، كأنّ النظام هو وباء سياسي لا يقل خطورة عن وباء الكوليرا الفتاك. هذا يذكرنا برواية الطاعون لكامو، والتي فسرها بعض النقاد بأنها نقد للأنظمة الفاشية التي وصفها كامو بطاعون الحضارة الأوروبية.

وما يجعلنا نميل إلى هذا الربط بين الكوليرا والنظام، هو طبيعة علاقة أحمد القط بالمرض، فهو لا يتحدث عن "الشفاء" من الوباء، بل عن "التحرّر" منه. وتحمل لفظة "التحرر" دلالات سياسية أساسية، فالشفاء من الوباء يعني التحرر من سلطة المكتب الثاني الذين حاصروا الحي. ومن جهة أخرى، نُدرك أن ما يحاصر الحي ليس الكوليرا، بل هو النظام.

"إمام الجامع، الذي اختفى بعد خطبته، قال ساخرًا، أنّ المرض الخطير يستطيع أن يميّز بين الناس. بين الغني والفقير، وبين المؤمن والكافر، وبين الساكن في حي الصفيح والأحياء الأخرى. وربما يريد، يقصد المرض، أن يمحو من المدينة حيًا عمّره اللاجئون والمهاجرون والهاربون من الحياة، والذين شوّهوا صورتها"، الرواية.

هل هذا يعني أنّ الوباء قد يكون مجرد خدعة؟ إنّ إفشاء جو من الرعب هو أحد أساليب الأنظمة السياسية لأحكام السيطرة على الأفراد، وبالنسبة لأحمد القط، ثمة احتمال بأنّ الوباء مجرد وسيلة لإزالة الحي السفلي، لأنّه أصبح يشوّه المدينة. ثمّ لا يجب أن ننسى أنّه في آخر الرواية، سنكتشف بأنّ الزعيم سيزور المدينة، ولن يكون من صالح السلطات المحلية بقاء ذلك الحي في مكانه.

ومن جهة أخرى، تتجلى السمة الكافكاوية الأخرى في علاقة أحمد القط بالقطط؛ فهو كثيرا ما تراوده فكرة التحوّل إلى قط: "ماذا لو مُسختُ قطًا؟".

لماذا القط؟ هو نقد للشرط الإنساني في مجتمع قهري بالأساس، حيث أن التحول إلى حيوان يوفّر للفرد إمكانيات أكبر للحرية. أن يتحول إلى قط، يعني أن يخرج من حالة الحصار، ويقفز فوق سور الحي السفلي، ويذهب إلى حيث يشاء، دون أن يعترض طريقه أعوان المكتب الثاني.

يتنقّل السارد، أي أحمد القط إلى الزمن الذي سبق عملية انتحاره، ويستمر في هذه العودة على شكل تناوب زمني بين فترتين زمنيتين، محورهما الفاصل هو لحظة الانتحار.

العودة إلى الماضي، تضمنت أحداثًا أساسية: موت والدته بسبب الوباء، ثم إصابته بالمرض، وتحسن حالته، وتمكنه من الخروج خارج البيت، ثم إلقاء القبض عليه، بتهمة أنه مصاب بالوباء، ثم حجزه في المشفى، وهروبه منه تحت ملاحقات أعوان المكتب الثاني، ثم لجوئه إلى الضريح والاختباء هناك.

في هذه اللحظة بالذات، يعود السارد بالزمن إلى الوراء أيضًا، ليتحدث عن قصته بهذا الضريح، الذي اقترن بالخطيئة، وباللعنة. الأمر الذي جعل جدته تعرضه على فقيه لأجل تخليص جسد حفيدها من الأرواح الشريرة التي تلبست به، ولأجل غسل تلك الروح من الخطايا. سنكتشف قصة حب أحمد القط، وفي موازاة هذا الاستذكار الزمني، يعود السارد إلى مشاهد التعذيب التي تعرّض لها.

الدولة أو مختبر انتزاع الحقيقة

صوّرت الرواية، عبر صفحات طويلة مشاهد التعذيب النفسي والبدني الذي تعرّض له أحمد القط، بسبب رفضه المزعوم عن الكشف عن الحقيقة التي كان القط نفسه يجهلها، في حين أنّ المكتب الثاني كان مُصرًّا على أن يكشف عنها بأي ثمن.

في خضم جلسات التعذيب المريعة، طرح أحمد القط تساؤلات كثيرة، فقد اتبعت الرواية هنا أسلوب تيار الوعي، حيث تأخذنا الشخصية إلى اعماقها القصية، متنقلة بين ذكرياتها تارة، وبين تأملاتها في وضعها المأساوي؛ من بين الأسئلة التي طرحها احمد القط: "لماذا يحدث له كلّ هذا؟ هل يملك هؤلاء شيئًا من الرحمة، ومن الإنسانية؟".

يقول القط في الرواية: "إنّ نظامهم مبني على المثال، وقائم على أجساد المواطنين وآلامهم"، وفي موضع آخر: "الحقيقة التي تجعلهم أبطالًا. الحقيقة التي لا تُنتزع إلا في أقصى عتبات الألم".

إنهم يبحثون عن الحقيقة التي يريدون سماعها، لهذا أدرك أحمد القط أنّ الكلام مجرد عتبة للعبث وللعدمية، فماذا يمكن له أن يقول، في حين لا يصدقون غير ما هو مسجّل في تقاريرهم؟

تسعى السلطة دائما إلى السيطرة على الجسد وعلى الكلمة فالتحكم في الأجساد، بتقنيات التعذيب، تهدف لبلوغ منطقة اللغة للتحكم فيها

تسعى السلطة دائمًا إلى السيطرة على الجسد وعلى الكلمة، فالتحكم في الأجساد، من خلال تقنيات التعذيب، تهدف إلى بلوغ منطقة اللغة، لأجل التحكم فيها، فهي تعمل دائمًا على إنتاج صورة مقلوبة عن الحقيقة، ففي آخر المطاف تختفي الحقيقة نفسها، ويترك الفرد في فراغ تتقاذفه الأسئلة المؤلمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سعيد خطيبي.. خيوط الدم بين البوسنة والجزائر

الطاهر وطّار.. نحو قراءة أخرى لكاتبٍ اختلف عليه الجزائريون