26-نوفمبر-2022
ساحة البريد المركزي (الصورة: Getty)

ساحة البريد المركزي (الصورة: Getty)

أُنشئت بناية البريد المركزي عام 1913، بملامح معماريّة إسلاميّة، في إطار محاولة الإدارة الفرنسيّة في الجزائر بقيادة الحاكم العامّ شارل جونار، في ظلّ اقتراب مئويّة الدّخول الفرنسيّ إلى الجزائر، إعطاءَ الانطباع للجزائريين بأنّ الفرنسيّين مستعدون لتجاوز سياسة طمس هوّيتهم الحضاريّة. 

لقد أصبح ليل ساحة البريد المركزي مؤنسًا بعد أن كان مثيرًا للخوف خلال السّنوات العشر السّابقة

وتحوّلت ساحتها التّي تتوسّط أشهر شارعين عاصميّين هما ديدوش ومراد والعربي بن مهيدي، وحديقتين هما حديقة صوفيا وحديقة قصر الحكومة، خلال العشريات الثّلاث التّي سبقت الاستقلال الوطنيّ، والعشريّات السّتّ التّي تلته، إلى واحدة من الفضاءات الشّعبيّة للعاصمة، بالإضافة إلى ساحات أخرى، مثل ساحة الشّهداء وساحة أوّل ماي.

وقد تجلى ذلك خلال تجمّعات واعتصامات الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ قبل حلّها عام 1992، ومسيرات وتجمّعات حراك 22 شباط/ فبراير 2019، حيث تحوّلت سلالم بناية البريد المركزيّ إلى منصّة لخطباء الحراك، خلال جمعاته العشر الأولى، قبل أن تشرع الحكومة في التّضييق عليهم، بتسييج السّاحة وتدجيجها بالآليات العسكريّة، وشروع المنابر الإعلاميّة الموالية لها بإدراج مصطلح "جماعة البريد المركزيّ"، ضمن أدبياتها، في مسعاها إلى إلى إظهار أنّ الحراك العاصميّ بات نخبويًّا ومعزولًا. 

قصدنا، الجمعة، السّاحة التّاريخية التّي يفصلها طريق أحادي عن بناية البريد المركزي التّي صمّمها المعماريان جون فوانو وماريوس تودوار ، نهارًا وليلًا، بعد سنتين وتسعة أشهر من انطلاق الحراك الشّعبي والسلميّ، مع إضافة صفة "الأصيل"، في نظر الرئيس عبد المجيد تبّون، للدّلالة على أنّ المسعى انحرف، بعد الانتخابات الرّئاسيّة نهاية عام 2019، فوجدناها غارقةً في هدوء يؤثّثه البشر والأضواء والحمائم، وقد انضافت لها بضعة أكشاك، ونوافير ماء ومقاعد أنيقة وتمثال برونزي لشابٍّ يضع كرةً تحت قدمه. 

لقد أصبح ليل السّاحة مؤنسًا، بعد أن كان مثيرًا للخوف، خلال السّنوات العشر السّابقة، إذ كانت تُشكّل خطرًا على من يعبرها لقلّة الإنارة العموميّة والتّغطية الأمنيّة. 

يقول العمّ إسماعيل، (62 سنة) إنّه بات يفضّل أن يجلس في ساحة البريد المركزي، بعد أن يتعشّى في مطعم قريب، إلى غاية العاشرة ليلًا، في انتظار الطّائرة المتوجّهة إلى تمنراست في الواحدة صباحًا، "هذا لم يكن متاحًا في السّابق، إذ كنت أضطرّ إمّا إلى دخول المطار قبل المغرب أو حجز ليلة لن تتمّ في الفندق، بكل ما يترتّب عن ذلك من مصاريف مرهقة". 

لم تكن حالة العمّ إسماعيل معزولةً، فقد وقفنا على شباب قادمين من مدن داخليّة أو ذاهبين إليها، من خلال محطةّ خرّوبة للحفلات أو محطّة آغا للقطار، فاتّخذوا من ساحة البريد المركزي محطة استراحة مؤقّة، مستفيدين من تزويدها بالمقاعد والأكشاك، ومن خدمات شباب صحراويّين يبيعون الشّاي والمكسّرات.  

يقول جمال، 23 عامًا، إنّه قدم من تيميمون قبل سبعة أشهر، "وأنا أبيع الشّاي نهارًا، في سوق النّساء بائعات الذّهب في ضاحية حسين داي، فإذا تفرّق السّوق مغربًا، قصدت ساحة البريد المركزيّ لأجد كثيرًا من الزّبائن من المقيمين في العاصمة، ومن زوّارها مؤقّتًا، حتّى أنّ بعضهم يقضي ليلته فيها، لندرة ما يزعجه أو يهدّد أمنه".

يضيف: "أنا نفسي أبقى في السّاحة إلى وقت متأخر، إلّا إذا أمطرت السّماء، فإنها ستصبح خاليةً إلا من بعض المجانين الذّين لم يعودوا يقصدونها، بعد أن أصبحت مأهولةً بالأفراد والعائلات".

قصدت مقعدًا كان يجلس عليه ثلاثة شباب يلعبون لعبة إلكترونية في هواتفهم النّقّالة. وظهر من خلال لهجتهم كونُهم عاصميّين، فقلت لهم إنّني صحفيّ وقد جئتهم بخبر هو أنّ الحراك سيعود يوم الجمعة القادمة. 

كان هدفي أن أعرف إن كانوا سيرحّبون بذلك، فأجابني أحدهم: "هذا مستبعد تمامًا". قلت: "لماذا تستبعد الأمر؟ أنا أعطيك معلومة مؤكدة". قال: "لو كانت مؤكدةً كما تقول لكنّا نحن أوّل من يسمع بها، لأنّنا كنا من منظمي المسيرات هنا. هل ترى تلك العمارة؟ (أشار إلى العمارات التّي عند مدخل حديقة قصر الحكومة)؛ هناك أسكن. وقد كنت أحضر الماء للمتظاهرين، والأكل لمن يبيت منهم في الشّارع. أستبعد أن يعود الحراك قريبًا، لأنّنا تعبنا ولسنا مستعدّين لأن نخسر أوقاتنا وأعصابنا من جديد، من أجل شعب لا يعرف ما يريد وكيف يريد. أقسم إنّني لن أمنح قطرةً أو لقمةً لأحد، في حالة عودة المظاهرات". 

قال آخر: "عن نفسي فقدت الثّقة في الحراك يوم تبنّى مقولة "يتنحّاو قاع"، ثم تبنّى رفض فكرة التّمثيل، فقد عرفت بأنه مسعى بلا مشروع وبلا رؤية. ثمّ لماذا عودة الحراك؟ نحن بخير رغم كلّ شيئ. ومن حقّ الرّئيس تبّون أن يكمل عهدته، ثمّ نلتقي في الانتخابات. كلّ تغيير خارج الصّندوق هو تخريب متعمّد للبلاد".

عاد الأوّل إلى القول: "قلت لك إنّني أسكن في تلك العمارة. وقد كنت أطلّ أحيانًا على ساحة البريد المركزيّ من شرفة شقّتنا، فتظهر لي أمواجُ بشرٍ من مختلف الشّرائح والولايات، فتسكنني ثقة عميقة في التّغيبر، لكن لاحقًا شرعت في فقدان تلك الثّقة، حين بدأت تطلع شعارات وتظهر سلوكات لا علاقة لها بالمنطق والانسجام اللّذين ينبغي لأيّ حراك مدروس أن يتحلّى بهما. أنا طالب جامعيّ. وبتّ مقتنعًا بأنّ الحراك الحقيقيّ هو حراك العلم والتّكنولوجيا. باعة الكتب المستعملة هنا في السّاحة، أنفع عندي من أيّ سياسيّ لا يعرف إلّا الثّرثرة".

عدت إلى السّاحة صباحًا، فكان باعة الكتب القديمة في طليعة من بعث الحياة فيها. إنّ بعضهم يفعل ذلك منذ عشرين عامًا، من غير أن يصاب باليأس والملل، رغم أنّ الجميع يتحدّث عن تراجع منسوب المقروئيّة. 

كان بعضهم يحضر كراتين الكتب من محالّ قريبة يبدو أن أصحابها قبلوا أن يتركوها عندهم ليلًا، بينما كان البعض يحضرها من البيوت. وقد سألت رضا: هل هي تجارة مربحة؟ فقال إنّ عائداتها متوقّفة على مدى توفّر من يبيع كتبه لا على من يشتري. لأنّ هذا الأخير متوفّر، رغم كثرة من ينكرون وجوده. السّاحة أصلًا قريبة من الجامعة المركزيّة. وهي تزوّدنا بزبائن دائمين".

ويشير محدّثنا إلى أن السّنوات الأخيرة بدأت تشهد ظاهرة بيع الأسر لكتبها القديمة، بسبب رحيل المسنّين الذّين اشتروها وكانوا يؤمنون بجدواها، عكس ورثتهم من الشّباب، وبسبب ضيق الشّقق بعد أن كبرت العائلات".

وأخرج رضا ورقة تتضمّن تصريحًا بمزاولة النّشاط في السّاحة، من طرف بلديّة الجزائر الوسطى وهو يقول: "لقد منحونا أخيرًا هذا التّصريح، بعد أن عانينا أعوامًا. وعلى الصّحافة أن تكتب عن هذا المكسب، حتى يمنحونا أكشاكًا تقينا مطر الشّتاء، فنحن لا نشتغل كثيرًا، خلال فصل الشّتاء وشطر من الرّبيع". 

ما قيمة الجزائر العاصمة من دون ساحة البريد المركزي وباعة الكتب القديمة؟

غادرت السّاحة إلى تمثال الأمير عبد القادر، في شارع العربي بن مهيدي، وأنا أتساءل: ما قيمة الجزائر العاصمة من دون ساحة البريد المركزيّ؟ وما قيمة السّاحة من دون باعة الكتب المستعملة؟