في بحر الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1954 كان ستة رجال يلتحقون تِباعاً بمزرعة مُنزوية ضائعة بين حقول قرية أولاد فاضل، الواقعة على مسافة 50 كيلومتراً عن مدينة باتنة شرق الجزائر.
معركتنا ستكون معركة الضعيف ضد القوي والإيمان هو قوتنا
كانت المزرعة لصاحبها محمد بن مسعودة المكنّى لمزيطي وتقع في قرية لقرين، وأمّا الوافدون فكانوا مناضلين وهم عاجل عجول، وعباس لغرور، وشيحاني بشير، ومحمد خنطرة، ومصطفى حاجي، وغمراس طاهر المكنّى نويشي، وقد استجابوا لاستدعاء حضور عاجل أبرق به مصطفى بن بولعيد، تحت بند " الموعد الجلل"، ولهذا السبب لم يتخلّف منهم أحد عن القدوم رغم الجو الغائم والماطر.
القسم المقدّس
عندما دخل الستّة الغرفة المنزوية، فقد ألفوا بن بولعيد حاملاً معه طابعة من نوع رونيو، وخرائط، والمصحف الشريف الذي كان في السابق بحوزة الشيخ حب الدين سعد الذي ورثه عن والده الذي نسخه بخط يده، وقد كان الشيخ المكلف من قِبل بن بولعيد بتكوين مناضلي المنطقة.
وقبل أن يُفاجئهم بموضوع الاجتماع، طلب منهم القسم على القرآن والتعهّد بكتم السرّ العظيم، الذي يتعلق بتفجير الثّورة ليلة الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر 1954.
انتهى الاجتماع السرّي إلاّ فجر الليلة التالية، بعدما كشف آمره عن الموقف المستجدّ بناء على فلسفة الحركة الوطنية في تلك الفترة قائلا: " ستكون الثّورة المسلحة تحت لواء جيش التحرير الوطني، غايتها النهائية جمهورية جزائرية مستقلة، لغتها العربية ودينها الإسلام، لكن الثّورة لن تكون حربا دينية مقدسة على الإطلاق، ستطول لسنوات وستعرض علينا فرنسا الحكم الذاتي لكن الطرح سيكون مرفوضا".
وفي صفحات تاريخية دوّنها محمد الطاهر مداسي في كتابه التوثيقي "مغربلو الرمال ": تقرّر بعد استراحة وجيزة من الاجتماع البدء في تحضير الأفواج وتوزيع المهام وتحديد الأهداف العسكرية المعنية بالهجومات، في إطار وطني شامل تحدّد قبل أيام في اجتماع القادة الستة بالعاصمة في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1954.
استل بن بولعيد بيان أول نوفمبر، وطلب من عجول نسخه بالعربية، وأوصى في الأثناء عباس لغرور بتحريره بالفرنسية، قبل أن يعهد للأول تكليفاً خاصاً للتّنسيق مع رجل في قرية تيغزة كان اتفق معه على تخصيص منزله لاستقبال أفواج المجاهدين ليلة الفاتح نوفمبر.
حالة طوارئ
في غضون يومين كانت الكارثة تحلّ على رأس عجول الذي ابتلع لسانه لساعات، عندما أبلغه طاهر نويشي بأنّ رجل تيغزة أخلف وعده متراجعا عن قراره في لحظة خوف، ما وضع ترتيبات تفجير الثّورة في مهب الريح، وتجلّت الورطة في أنّ بن بولعيد الذي اختفى في جبال الأوراس لن يعود سوى ليلة 30 تشرين الأول/ أكتوبر، دون أن يعلم بالخبر السيّء، وحتما ستأكله ثورة من الغضب.
غير أنّ القدر شاء أن يحضُر علي بن شايبة أحد المناضلين ساعة الأزمة، فقد طلب منه الرجل أن يحلّ العُقدة بكلمة واحدة، لما عرض موقعاً بديلاً، هي ديار عائلته الواقعة في أعالي دشرة أولاد موسى، فهي شبيهة بقلعة محصّنة وواسعة بأربعين غرفة، ولها طابق علوي يشبه المرقب الذي يهيمن على الأرجاء والجبال المحيطة، فوافق بلا تردّد.
عندما حلّ بن بولعيد ليلة 30 تشرين الأول/ أكتوبر كان يتوجّس شرا، جراء ما اعترى البرنامج من تقلب طارئ، مطلقا عبارة: "إني أشم رائحة خيانة في الأفق"، بيد أن عجول طمأنه مقدّما له إحاطة شاملة بما حصل.
حتما كان بن بولعيد يفكّر في أمر ذلك الرجل الذي أخلف وعده، غير أنّه سرعان ما انغمس في لحظته الراهنة تأهّبا لما ستحفل به الساعات الحاسمة.
في تلك الليلة بدأت طلائع الأفواج تلتحق في سرية تامة بديار بن شايبة، ثمّ تبعهم آخرون من مناطق شتى في اليوم التالي، منفّذين ما طلب منهم، مثل عدم أخبار أهاليهم بشيء، وانتعال أحذية غليظة، وألبسة صوفية، والأهم القدوم من دروب مختلفة كي لا تشكّل حركتهم الكثيفة الهاجس والريبة، وما من أحد، إلاّ بعض القادة، كان يعلم أنه سيكتب تاريخاً جديدا، بما أنّهم أوهموا بأنّهم مدعوون للمشاركة في مناورة تدريبية، مثلما جرت العادة حيث كانوا يخضعون لتدريبات بإشراف مجموعة "لصوص الشرف" وهم 16 فردا أعلنوا التمرّد ضدّ الإدارة الفرنسية و التحقوا بجبال الأوراس بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن ينجح بن بولعيد في جرهم لاعتناق الفكرة الرسالية المرتبطة بالقضية الوطنية.
وحدة الدم
حينما التأم شمل ما يفوق 300 شخص، كان بن بولعيد يكسب رهان المقامرة الخطرة بتفجير الثّورة، مُراهناً على رجاله، فقد كان أسس قبل أعوام 25 خلية تضم كل واحدة 3 أفراد، لا يعرفون باقي السرايا، كما أنّه كسب دعم أكثر من 2300 مناضل في الأوراس، للذهاب إلى الخيار المسلح.
ودقت ساعة الحقيقة فقام بن بولعيد خاطبا في النفير العام خطبته الشهيرة: " يا لولاد سنبدأ ثورة التحرير. معركتنا ستكون معركة الضعيف ضد القوي، تكمن قوتنا في إيماننا وفي التواصل بين المجموعات حتّى وإن باعدت بيننا المسافات. إّن الدم الذي سيسيل هو عامل وحدة أيضا. علينا أن نجبر العدو على مهاجمتنا كي نوجه له ضربات دون تعريض حياتنا للخطر، أما إذا كان التراجع غير ممكن فعلينا أن نحسن الموت بشرف. إن العدو مخادع لذا لا ثقة فيه أبدا، احترسوا من كل ما تجدونه ولو كان قلما أو حبة حلوى، فقد تكون كلها مواد ملغومة".
عكف " أسد الأوراس" كما كان يلقب، بشرح كيفية استعمال كلمات السر، وكيفية استخدام القنابل، ويحدد الأهداف والمناطق، قبل أن يأمر بتوزيع الأسلحة، بقطع من أسلحة "الغارا والستاتي، والماوزر"، فضلا عن 300 رصاصة لكل مقاتل، وتلك الأسلحة جمعت على مدار أعوام وخبئت في مطامر وزرائب، بعدما تم شراؤها من السوق السوداء الناشئة في صحراء ليبيا على أنقاض المخزون الأنجلوسكسوني بعد الحرب العالمية الثانية.
روح الثورة
لطالما كان عجول يصف بن بولعيد بكلمة لرفقائه هي:" إن سي مصطفى هو روح الثورة"، ولذا فإنّ روح الثورة ستتجلّى في مواقف حرص فيها الرجل على إصدار توصية لجميع هياكلها تنصّ على استبعاد شقيقه عمر بن بولعيد من أية مهمة رئيسية، هذا رغم معارضة جنود ارتأوا ضرورة تجنيده كي لا تستغله السلطات الفرنسية ورقة ضغط نهائي باعتقاله، كما تجلت حينما وقف فيه بن شايبة حزينا في الركن، فتقدم عجول ليقول له " سي مصطفى لقد نسيت أن تمنح قطعة سلاح للرجل الذي أوانا في بيته" فردّ عليه: " وما الذي تريدني أن أفعل؟ هذه ثورة ولا يمكن أن نخضع فيها لرغبات كل فرد على هواه. أنا المسؤول هنا والقائد هو من يقرر في نهاية المطاف "
وخلال تذكير عجول له بأنّ الرجل باع عنزاته وحصانه كي يشتري ثلاثة أسلحة ومسدسين بأمواله الخاصة، يستدعي بن بولعيد ابن شايبة ليسأله عن سرّ إصراره على أخذ القطعة فيجيبه الرجل: " سي مصطفى كل ما أريد هو أن أشارك في الثورة مع إخواني".
ينتزع بن بولعيد سلاحاً من جماعة عجول ويسلمها لبن شايبة الذي يهب فرحاً بغنيمته مثل الطفل الصغير، يراقبه بن بولعيد ليخبر لعجول ببعض هواجسه البشرية: " سي عاجل أنت تعرف أن عائلتي نبذتني عندما اعتبرتني مجنونا يُبذّر أمواله من أجل الثورة..."، يتحاشى عجول الخوض في الجراح القديمة مربتا على كتفه: " أرجوك سي مصطفى إنس هذه القصة".
العرس المسلح
انطلقت الأفواج لمناطق شتّى من ولايات باتنة وبسكرة وخنشلة وبقي فوج مشكّل من خمس وثلاثين فرداً ينتظر قدوم الشاحنة التي أجّرها قديس الثورة من بو سعد بمبرر جلب القمح، كي تقلهم لمدينة باتنة ليضربوا قلب الثكنة المركزية للصبايحية، بإرشاد من جندي سابق منخرط في الحركة الوطنية، لكن بوسعد الذي اتّفق معه بن بولعيد لن يأتي بدافع الخوف فدعاه ذلك للاستنجاد بسائقه الشخصي " عزوز" لاستئجار شاحنة لحلوح التي عادا بها من إشمول كي يقوم عزوز بإيصال المجموعة إلى عرس، غير أن الأخير تقيأ فوق ثيابه ذعرا وهو يشاهد طلائع المسلحين.
أمّا محمد الصغير، وهو الرجل الذي كان يفترض أن يُرشِد المجموعة إلى مداخل ثكنة باتنة ثم مخزن أسلحتها، فتلكأ في المهمة بداعي المرض، فتثور ثائرة بن بولعيد الذي أمسك بتلابيب ثيابه ملقيا به عنوة داخل الشاحنة، موجها عبارات صارمة لقائد الفرقة صهره بعزي آمرا محذّرا: " أحرسه وإذا ما تراجع فاقتله، هذا ليس وقت اللعب".
في حُدود الثالثة فجراً يعود بن بولعيد الذي رافق مجموعات عبر سيارتين واحدة ملكه، إلى دشرة أولاد موسى ليلتحق رفقة شيحاني بسير وعاجل عجول وحارسه الشخصي بيشة الجودي المُكنّى بوسنة في الخامسة فجرا لقمة تافرنت لالة عيشة لمتابعة ما ستدوي به أخبار الإذاعات الفرنسية عن ليلة الثّورة.
هاجس الإمكانيات
الأموال التي بدأت بها الثورة كانت 15 ألف فرنك لكن بن بولعيد سيقرّر اقتطاع 5000 فرنك منها لتدبير سُبل الغذاء والمؤونة استعدادا لقادم الأيام. كان مغتبطا ببدايتها لكنّه أبدا لم يكن راضيا بالنتائج الأولية، فقد كان يأمل في المزيد والكثيف، موجّها انتقاداته بسبب تأخّر وصول النّتائج وعدم سريان بعض العمليات في الصورة المثالية المأمولة، والأهم عدم الحصول على الأسلحة والذخائر كغنيمة.
وحتّى لا تتداخل الصلاحيات قرّر تقسيم المناطق بين القادة بناءً على خريطة اقتناها من مكتبة بباتنة، مكلفا عاجل العرّيف بخبايا المنطقة، فلقد اشتكى له بعض رفاقه من تصرفات فردية لعدد من المقربين من أفراد عشيرته المتخلفين عن تنفيذ مهمات يومية كجلب الماء والتنظيف والحراسة، فيردّ في هدوء " حسنا أتركوا الأمر عليّ سأقوم به شخصيا".
لقد كرّس جزءا من وقته لتذكير الجنود، بأن يعاملوا السكان معاملة حسنة، حتى أولئك العاملين لدى السلطات الفرنسية، والعمل على كسبهم بشرح أسباب الثّورة، وبعدم التعرّض لحراس الغابات غير المسلّحين، أمّا عندما قصف الطيران الفرنسي مداشر مخلّفا ضحايا في صفوف المدنيين فسيأمر الجنود بالتمركز في مناطق بعيدة عن الأهالي حتى لا يتمّ تعريضهم للموت، ثم سيقوم لاحقا بعد عملية راس طبوش التي أودت بحياة جنود تابعين لعباس لغرور بعقد جلسة تذكير لهذا الأخير بالقيم الأخلاقية للثّورة، التي جاءت لتحرير المواطنين لا إلى تسخيرهم.
الكيس والبُرنس
كان عباس لغرور الحانق على مقتل جنوده في راس طبوش أمر شحن كيس دقيق من مخزن يحوي مؤونة مواطنين، كي ينقله على ظهر بغل لجنوده، فبلغ ذلك لبن بولعيد الذي قرر أن يضع النقاط على الحروف وأمام من؟ أمام عباس لغرور فتى الأوراس الأول في المعارك التي لا يستريح منها أبدا، حتى أنه كان يقول اليوم الذي لا أحارب فيه لهو يوم مسموم بالخيانة.
ويروي مداسي الواقعة في كتابه التوثيقي "مغربلو الرمال "، فيومها خاطب بن بولعيد لغرور قائلا:
- يا عباس لا تكرّر هذا الفعل أبدا، ليس من حقك أن تأخذ كيس الدقيق المخصص للشعب، ليس مسموحا لك أن تأخذ ملك الناس بالقوة، ففي هذه الحالة لن يكون ثمّة فرق بين جنود التحرير وجيش الاستعمار. نحن لا نأخذ من الشعب سوى ما يمنحه لنا عن طيب خاطر أو نشتريه بأموالنا.
يرد عباس: لكن يا سي مصطفى أين هي تلك الأموال التي نشتري بها طعام الجند؟
يحسم بن بولعيد الموقف:
-يا عباس إذا ما شرّفك فقير يوما بدعوتك لبيته مادا لك بُرنسه لتجلس في حافته، فأحذر أن تجلس في وسطه، وأكرّر لك بأن المواطنين ليسوا مجبرين على إطعامنا، ما أخذته اليوم بالقوة يمكن أن يكون جزءً من كل، أو كل ما جمعوه في تعب وصبر".
الصفعة المدوية
أما بيشة الجودي، الذي كان يُردّد خلال الثورة: " ما أنا غير راعٍ وحيوان منحته الثورة وجه إنسان"، فيروي للكاتب ما تعرض له خلال فراره رفقة بن بولعيد وشيحاني وعجول من مطاردة فرنسية، لقد قام باستلال بندقيته بغرض الرمي على حوّامة، قبل أن يتلقى صفعة من بولعيد طرحته في الثلج المتراكم وهو يصرخ في وجهه: " بيشة أيها الفوضوي المتهور ستؤدي بنا إلى الهلاك جميعا، سأقتلك يوما ما"
لطالما كان الرجل يوصي رجاله بالابتعاد عن المصالح الشّخصية والنزوع لقيم التنظيم والروح الجماعية بقوله: " تنتهي الثّورة عندما يولد الصراع حول السلطة" كما يردّد أيضا: " جيش التحرير مثل البيت إذا تداعى أحد أركانه هوى برمته، وأمن الجميع يرتبط بيقظة كل فرد"، لذا يعتبر بيشة بأنّ تلك الصفعة تأديب من أب لابنه، بداعي الحرص على السلامة الجماعية، ففي موضع آخر يكاشف بن بولعيد بيشة قائلا: " يا بيشة أنا متأكد أنّك ستثأر لمقتلي، لكني لست متأكدا بأني سأثأر لمقتلك". يسأله بيشة " لماذا؟"
يردّ بن بولعيد: "هذا لأنّك أشجع مني، ولأني أيضا لست أشجع منك".