04-نوفمبر-2018

تصوير: ديان فيكيتش/ البوسنة

حين تتجول في أزقة سراييفو اليوم فإنك تلحظ وجود مقابر متناثرة في أرجاء المدينة، بعضها يحمل اسمًا وبعضها لأشخاص مجهولي الهوية، لقد كان قدرهم جميعًا أن يدفنوا حيث ماتوا وسط مدينة محاصرة من كل أبوابها، لقد اختارتهم الحرب ليكونوا وقودها في سجال أراق الكثير من الدماء لمدة تقارب الأربع سنوات، الكثير من هؤلاء أتوا من مختلف بقاع الدنيا ملبيين ما كانوا يرون فيه نداء المعركة المباركة والجهاد المقدس في أرض البوسنة والهرسك، سنوات بعد كل ذلك وبعد أن صارت أرض البوسنة الجميلة وجهة سياحية محببة لدى العديد من العرب، يعود بنا الروائي الجزائري سعيد خطيبي في عمله الروائي الجديد "حطب سراييفو" التي تصدر في طبعة مشتركة بين داري "ضفاف" و"الاختلاف"، لينسج عالمًا روائيًا شكّله من بقايا رماد سراييفو، وليرسم قصة شخصين جمعتهما أعوام الألم في بلدين تباعدا جغرافيًا، لكن تشابهت فيهما رائحة الجثث والدم بشكل يكاد يشبه التطابق.

يبحث سعيد خطيبي في تاريخ مجهول ليرسم ملامح جزائريين شاركوا في حرب البوسنة والهرسك

يقول سعيد خطيبي لـ"ألتراصوت": "بدأت كتابة هذه الرّواية، عام 2013، عقب إقامتي في سراييفو، للمرّة الأولى. ثم تركتها جانبًا، وعُدت إليها قبل نحو عامين. حيث تظافرت أسباب جعلتني أتردّد على البوسنة والهرسك، في إقامات متقطّعة، تدوم أشهرًا، ثم سمحت لي ظروف لتعلّم اللغة الصّربو– كرواتية، كي أتواصل مع النّاس بشكل مباشر".

 

لقد أعادت الرواية تلك اللحظة التي وجد فيها جزائري نفسه في أرض بلقانية تتراوح بين الشرق والغرب، ليرى نفسه وسط حطام بنايات تبحث عن هوية ساكينها، كما بعثت الصدفة نقطة البداية ووضعتها في يد خطيبي حين عثر، في متحف صغير في سراييفو، على قصاصات جرائد، تؤرّخ لضحايا الحرب، يومًا بيوم، ومن بين من وردت أسماؤهم وجد جزائريين. لكن أعادت تلك القصاصة إلى مخيلته موضوع "جزائريي البوسنة والهرسك" الذي لم يسبق أن خرج بوضوح للنّور، فهو تاريخ منسي، أو مُهمل،.

رواية حطب سراييفو سعيد خطيبي

يضيف سعيد خطيبي: "لقد أمسكت برأس الخيط، وبعلامات في الموضوع، تقصيت نقاطًا في الطّريق، وكتبت قصصًا ومصائر كما أتخيّلها، دون أن يتعارض ذلك مع الواقع، ومع ما حصل، فقد اعتمدت على أرشيف واسع، مكتوب وبصري، في إعادة بناء شكل الحياة، قبل ربع قرن من الآن، في البوسنة والهرسك والجزائر، بحكم أن الرّواية تدور بين هذين البلدين".

بعد "أربعون عاما في انتظار إيزابيل"، سعيد خطيبي رحلته في البحث عن التاريخ المنسي وتقفي أثر شخصيات وقصص أهملتها مدونات التاريخ الرسمي، ليضع في روايته الجديدة خطين غير متوازيين لمدينتين تتشابهان في الذكريات السوداء، سراييفو والجزائر العاصمة، حيث جعل تلك المدينتين شخصين يتقاسمان نفس العمق في سرد الألم وبشاعة حطام الماضي، إيفانا الفتاة البوسنية وسليم الشاب الجزائري.

عاش الكاتب سنوات متنقلًا بين مدن بوسنية وجزائرية، وكانت إقامته في "أرض البلقان" بحكم العمل بساطًا أحمر سهّل له المهمّة، لا سيّما في تعلّم اللغة، وفي الوصول إلى الأرشيف، والاستفادة منه في عجن الحكايات، وفي تخيّل مصائر الشّخصيات.

أصبحت صور سكان مدينة سراييفو وهم يحملون أكوامًا من الحطب، ويقطعون الأشجار لغرض التدفئة أيام الحرب راسخة في أذهان العالم وهي صور وردت في عدة مواضع من الرواية، لقد كان الحطب سفينة نوح أهل سراييفو وطوق نجاتهم الوحيد. لم يكن حطب البوسنة فقط من أحرقته الحرب، ففي الجزائر أيضًا كانت الغابات المحروقة أيام العشرية السوداء إحدى ضحايا الحرب الأهلية، كما كانت الغابات منفد الهاربين من الموت والناجين منها. يصرّح سعيد خطيبي: "لقد كنت دائمًا مسكونًا بالحرب، التي عشتها صغيرًا في الجزائر، وفقدت فيها بعضًا من أهلي ومعارفي، ولكن ليس الاهتمام بالحرب في بشاعتها أو ماذا دار فيها، بل أهتم بحيوات النّاس العاديين في الحرب، كيف يعيشون وكيف يفكّرون، حيوات الضّحايا المفترضين للحرب، الذين نجوا منها. بالمقابل، أشعر بحزن دفين كوننا تأخّرنا في الكتابة وفي الوصول إلى هذه المنطقة، المكتظّة بتاريخ متفجّر لا يختلف عن تاريخنا. فبالتّقدّم في الكتابة، كنت أتوقّف، كعداء يسترجع أنفاسه، أحيانًا وأنا تحت مفاجأة التّشابهات الكبيرة في التّاريخ السوسيو– ثقافي بين البوسنة والهرسك والجزائر".