ربّما لا يعرف كثيرون ممّن يزورون العاصمة الجزائرية، أنّ هناك مدينة أخرى آهلة بالسكّان، وحياةٌ موازية تقع مباشرة تحت المدينة التي نرى بناياتها الشاهقات، فكثيرة هي العمارات التي تُخفي في طوابقها الأرضية أو أقبيتها، أحياءً سكنية لا تصلها الشمس ولا أعين المسؤولين.
الحياة في أقبية العمارات لا تختلف كثيرًا عن حياة التشرّد في الشارع أو العيش في الأحياء القصدرية
الحياة في أقبية العمارات، أو "لاكاف" كما يُسمّى بالدارجة الجزائرية، لا تختلف كثيرًا عن حياة التشرّد في الشارع أو اللجوء، أو العيش في الأحياء القصدرية، فكل هذه الأحياء، يتقاسم سكّانها، المرض والمعاناة وقساوة الطبيعة، في انتظار خيارات قليلة جدًا للحصول على شقّة مريحة، ضمن برامج السكنات التي توزّعها الحكومة.
اقرأ/ي أيضًا: عمارات الحقبة الاستعمارية.. مدن جزائرية بلغت الشيخوخة
الإرهاب والفقر
قصر الحكومة في أعلى الشارع، وقصر الولاية في الأسفل، وقصر الشعب على اليمين ومبنى البرلمان على اليسار. مبانٍ تُضفي إلى قلب العاصمة شيئًا من الهيبة والقوّة، حتّى وإن كانت هذه المباني من مخلّفات الاستعمار الفرنسي، غير أنّ هناك مبانٍ كثيرة شبيهة بها، تٌخفي من السكّان أكثر ممّا تُظهره وتنقل صورة أخرى مغايرة للأولى، عن الحياة الهشّة لهذه المدينة.
في عمارة تعود للفترة الاستعمارية الفرنسية بشارع أرزقي حماني، أو "رو شاراس" سابقًا، افترشت أسرة مكوّنة من أربعة أطفال الأرض، بالقرب من إحدى البنايات التي يسكنون قبوها ليلًا، اقتربت "الترا جزائر" من الأمّ البالغة من العمر 64 عامًا، وحدّثتنا بأنّها تخشى الحديث مع الغرباء، وأنّ بيتها الواقع تحت العمارة معزول عن الضوء والهواء.
هي عيّنة من بين مئات العائلات التي لا زالت تسكن أقبية العمارات، في العاصمة أو في مدن أخرى، خصوصًا في المدن الكبرى، إذ تنتظر هذه العائلات الاستفادة من السكن الاجتماعي، وترحيلها إلى سكنّ لائق يليق بسنوات الصبر الطويلة.
على أرض الواقع، لجأ كثيرون في المدن الجزائرية إلى هذه الفضاءات الشاغرة، كمهربٍ مؤقت إلى حين، مكان يقيهم مطر الشتاء وحرّ الصيف، بينما لجأ آخرون إلى بناء بيوت فوضوية "العشوائيات". وقد ساهمت في هذه الظاهرة العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية، أبرزها فترة التسعينات، التي شهدت هجرات جماعية لسكّان القرى الذين كانوا يتعرّضون للإبادة على يدّ الجماعات المسلّحة.
أرقام مخيفة
في الأسبوع الماضي، انتفض سكّان الأقبية بحي سوريكال في بلدية باب الزوار بالعاصمة، وأغلق الغاضبون باب البلدية احتجاجًا على إقصائهم من قائمة المرحّلين، هنا، يقول محمد حيور، وهو أحد سكّان أقبية العمارات بالحي العتيق لـ"الترا جزائر"، إنّ "هناك ظلمٌ في توزيع السكن، خصوصًا بالنسبة لبعض العائلات التي تسكن الأقبية منذ أزيد من 29 سنة كاملة، ففي كل دورة لانتخابات المجالس الشعبية يقال لنا إنّنا سنكون في رأس القائمة".
تقطن بحي الجرف وسوريكال وببرج الكيفان ودرقانة، شرق العاصمة، ما يقارب 500 عائلة في أقبية العمارات، بينما تُشير بعض الإحصائيات إلى وجود أزيد من 1023 عائلة، موزّعة عبر بلديات الجزائر العاصمة، تقطن أقبية العمارات، وخصوصًا تلك التابعة للديوان الوطني للتسيير العقاري، إذ تحتلّ العائلات هذه الأماكن بطريقة غير مشروعة في انتظار ترحيلها.
الترحيل يعني مشاريع سكنيّة جديدة، ومعناه في الواقع نشر قوائم المستفيدين في البلديات، غير أنه مع مرور الوقت، تبيّن أنّ هذه المشاريع مجرّد أوهام يسوّقها المسؤولون من فترة لأخرى.
سكاّن الأقبية بحيّ باب الزوّار من قاطني الأقبية، لم يعترفوا بشرعية القوائم التي أفرجت عنها السلطات المحليّة، وهدّد عدد منهم بالاعتصام أمام مقرّ البلدية حتى تتمّ مراجعة القوائم، إذ تتضاعف مشاكل سكان الأقبية خاصّة مع الدخول المدرسي، على حدّ تعبيرهم.
ورقة ضغط
لا ينفي كثير من الجزائريين، أن الحصول على السكن في هذا الوقت، صار حُلمًا بعيد المنال، إذ يُمكن أن تستمرّ أوضاع طالبي السكن لأزيد من عشرين أو ثلاثين سنة في العراء، في مقابل ذلك، وجد بعض ساكني الأقبية والأكواخ، ضالتهم في هذه الأماكن، هنا، يقول محمد زيتوني لـ"الترا جزائر"، إنّ ساكني الأقبية والأحياء الفوضوية، يكونون في الغالب على رأس قائمّة توزيع السكنات الجديدة.
من جهته، يؤكّد عبد الحميد بوداود، الخبير في التهيئة العمرانية، في حديث إلى "الترا جزائر"، فكرة أن السكن في الفضاءات غير اللائقة، أصبحت وسيلة ضغط على الحكومة للاستفادة من سكنات مجّانية، هنا يقول المتحدّث إن الحيلة تدفع بكثيرين إلى المكوث في أقبية العمارات للحصول على السكن، أو بناء بيوت على حواف الوديان، مُعربًا عن تأسفه، من ظاهرة ظهور قاطنين جدد لتلك الأقبية والفضاءات التي تمّ إخلاؤها.
يشتكي سكّان الأقبية والعشوائيات من تعرّضهم لأمراض مزمنة كالرّبو والحساسية وضعف البصر
من وجهة صحيّة، يُعتبر السكن في الأقبية انتحارًا حقيقيًا لقاطنيها، إذ يشتكي سكّانها من تعرّضهم لأمراض مزمنة كالرّبو والحساسية وضعف البصر، إضافة إلى أمراض جلدية خطيرة تسببت فيها رطوبة الطقس وغياب أشعّة الشمس وانعدام التهوية وقنوات الصرف، ما يؤدّي في غالب الأحيان، إلى انتشار الروائح الكريهة والحشرات والجرذان، وهو ما يُنذر بخطورة تفشّي أمراض بين القاطنين قد تؤدّي إلى الوفاة.
اقرأ/ي أيضًا:
في العمارة الجزائرية: حياة مفخخة
المساحات المخصّصة للأطفال الجزائريين..براءة مخنوقة