17-أبريل-2024
مسجد أبو المهاجر دينار

جزء من مسجد أبو المهاجر دينار خلال عملية ترميمه الأخيرة (الصورة: فيسبوك)

يعدُّ ثاني مسجد بُني في المغرب العربي بعد مسجد القيروان في تونس وأوّل مسجد يُشيّد على أرض الجزائر التي احتضن سكانها الإسلام زمن الفتوحات الإسلامية وأعلوا رايته وحافظوا على طمس معالمه ضد الحملات الصليبية.. إنّه مسجد أبو المهاجر دينار الذي يحمل اسم الفاتح لبلاد المغرب العربي الإسلامي والذي يمثل تاريخ الإسلام في الجزائر.

الباحث في التاريخ نورالدين بوعروج: مسجد أبو مهاجر دينار  منذ بنائه أدّى دورًا حضاريًا وساهم في نشر الإسلام وتعاليمه جامعًا لكل الطوائف

ميلاف و"سيدي غانم" قبل الفتوحات الإسلامية

بإحدى أقدم مدن شمال أفريقيا مدينة "ميلاف" وتعني تسميتها الألف ساقية أو الأرض المسقية وهي الاسم القديم لولاية ميلة حاليًا. الواقعة شرقي الجزائر، شُيّد أوّل مسجد في الجزائر وأطلق عليه مسجد أبو المهاجر دينار أو مسجد "سيدي غانم" نسبة إلى أحد الأولياء الصالحين بالمدينة.

يرتبط مسجد "سيدي غانم" بعصر الفتوحات الإسلامية في المغرب الكبير، حيث يقول الأكاديمي والباحث في التاريخ نورالدين بوعروج في ورقة بحثية خاصة بـ"الترا جزائر" أنّه خلال "العصر الذي ظهرت فيه الرسالة المحمدية وانتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية، كانت مدينة ميلاف (MILEV) (ميلة حاليًا) مهد المسيحية بالمغرب الأوسط أي الجزائر."

ويضيف بوعروج: "يذكر بعض المؤرخين أن أول مسيحي بالمغرب الأوسط هو "يوليانيس ميليفيتانيس" من ميلة، والأخير شارك في مؤتمر القديس سيبريان بقرطاج سنة 256م. أمّا مدينة ميلة اشتهرت في تلك الفترة بقديسها المنظر والكاتب أوبتاتيس "أوبتا الميلي" التي ما تزال ترانيمه تتلى إلى اليوم قداسات الصلوات المسيحية الكاثوليكية. "

ويوضح الباحث بوعروج أنّ "ميلة كان بها كنيسة أبرشية كانت بمثابة جامعة لاهوتية أنجزها الرومان سنة302م. وعقد بها مؤتمرين مسيحيين لكرادلة (أساقفة) شمال إفريقيا الأول عام 402 م، والثاني أشرف عليه القديس أوغسطين بنفسه بتاريخ27/11/416م. والذي قد زار ميلة 4 مرات في حياته. "

أول مسجد بالجزائر.. النواة الأولى لنشر الإسلام

وفي حديثه عن فتح ميلة يُشير إلى أنّه كان على يد الفاتح المسلم "أبو المهاجر دينار" مولى وتابع "مسلمة بن مخلد الأنصاري"، في عهد الخليفة الأموي "معاوية بن أبي سفيان"، سنة (59 هجرية- 678م)، حيث استقر بها لمدة سنتين وجعل منها عاصمة للولاية المغربية بعد مدينة "دكرور" بتونس وبعدها صارت العاصمة الإسلامية الأولى للمغرب الأوسط أي الجزائر."

ويلفت الباحث إلى أنّ عبد الرحمن ابن خلدون نقلًا عن ابن الرفيق قال: "إنّ أبا المهاجر الذي ولي أفريقية بين ولايتي عقبة الأولى والثانية توغل في ديار المغرب ووصل إلى تلمسان (غربي الجزائر) وبه سميت عيون أبي المهاجر قريبا منها."

مسجد

يواصل المتحدث سرد تفاصيل من تاريخ الإسلام في المغرب الكبير، حيث يقول: "قام أبو المهاجر دينار  أثناء إقامته بميلة قام بتشييد دار الإمارة ومسجدا للمسلمين عرف بعد ذلك الزمن بمسجد "سيدى غانم"، وبني –بحسب مصادر تاريخية- على أنقاض أول كنيسة رومانية شيّدت بأفريقيا بناها الحواريون الأوائل الذين دخلوا أفريقيا."

ووفق المتحدث  "كان مسجد سيدي غانم النواة الأولى لنشر الإسلام في الجزائر، ومبعث نهضتها الإسلامية العربية، وبذلك يصبح ثاني مسجد في مساجد المغرب الإسلامي بعد مسجد القيروان، وثالث مسجد في شمال أفريقيا بعد القيروان والفسطاط في مصر مسجد عمرو بن العاص."

وعام 1968 أقيمت حفريات على المكان وسمحت الدراسات التي أجرتها السلطات على هذا المعلم الإسلامي باكتشاف حقائق علمية خاصة بهذا الصرح الديني، حيث تم اكتشاف أنّ تشييده كان بمحاذاة الكنيسة الرومانية "البازيليكا" وليس على أنقاضها، كما كان شائعا في السابق. كما ورد في الورقة البحثية.

هندسة و"أسرار" المسجد

وبخصوص تصميم المسجد، فبناء على المعطيات الهندسية والمعمارية فإنّ الهندسة شبيهة بالمسجد الأموي بالعاصمة السورية دمشق وأيضا مسجد القيروان بتونس، حيث جاء المسجد على شكل مستطيل، ويتربع على مساحة تقدر بـ820 متر مربع، يحتوي على 4 أساكيب و7 إسطبلات، في حين تتوسطه البلاطة الوسطى وهي أكثر مساحة واتساعا مقارنة ببعض مرافقه الأخرى. بحسب الباحث.

كما يتضمن مسجد "أبو المهاجر دينار" أربع واجهات، حيث تقع الواجهة الرئيسية في الجهة الشرقية، بطول يبلغ (24.60م) وتطل على حيز فسيح نوعا ما، ويتوسط هذه الواجهة المدخل الرئيسي، عرضه(02.95 م)، وعمقه (01.55 م)، يؤدي إلى الصحن ومنه إلى قاعة الصلاة، وعلى جانبي هذا الجدار يبرز برجان، يمثلان الملاحق الجنوبية والشمالية، حيث يبلغ طول الجدار الأول (09.30 م)، أما الثاني فيبلغ (06.30 متر).

الواجهة الجنوبية للمسجد طولها 33.70 متر، تطل على ممّر ضيق يتم من خلاله الصعود إلى ساحة فسيحة الأرجاء عبر إحدى عشرة درجة، وعلى محور الدرجات يتجلى باب بحوالي 1 متر، بينما الواجهة الغربية للمسجد فبها ممر جنوبي يمتد إلى غاية الباب الغربي الذي يتم عبره الصعود إلى الطابق العلوي ببيت الصلاة، عبر ثلاث درجات وهو من الأبواب المستحدثة في عهد الاستعمار الفرنسي، مثله مثل الطابق الأول وعدد من الأبواب والنوافذ، و كذا الطابق الثاني فوق المسجد.

الجهة الشمالية عبارة عن مساحة تمتد على جزء من جدار الواجهة بطول 8.75 مترا، وتتفتح على بابين، يبلغ عرض الباب الأول 1.35 متر، والثاني بعرض 1.40 متر.

وللمسجد كما أغلب باقي المساجد المشيدة منذ تاريخ الإسلام إلى اليوم، منارة تحتوي على 365 درجا بحسب عدد أيام السنة، وكانت على علو شاهق مقارنة بما تميزت به البنايات في تلك الحقبة بميلة التي كانت تحت الاحتلال البيزنطي (534-647م).

ويوضح الباحث بوعروج أنّه "منذ تاريخ بنائه أدّى المسجد دورًا حضاريًا وساهم في نشر الإسلام وتعاليمه، كما كان إحدى قلاع الإسلامية التي جمعت كل الطوائف، حيث رفض فقهاء المسجد أن يكون الأخير للصراع الطائفي أو المذهبي، سواء كان إسماعيليًا أو خارجيًا صفريًا أو إباضيًا خلال العصور الإسلامية المتقدمة، أو المذهب الحنفي مع دخول ميلة تحت الحكم العثماني سنة1516م."، وبالتالي شهد المسجد نهضة علمية وفقهية وأصبح قبلة للعلماء وأشهر مشايخ الدين في تلك الحقبة التاريخية.

جريمة فرنسية في حق المسجد

ومع وقوع الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي (1830-1962)، سعى الأخير إلى تشويه المعالم الإسلامية في ربوع البلاد فلم تسلم الكتاتيب ولا المساجد ولا اللغة العربية، وذلك بهدف طمس الهوية الإسلامية في المجتمع الجزائر، وبالتالي كل المعالم طالها التخريب والتغيير ومن بينها مسجد "سيدي غانم" الذي حاول الاستعمار الفرنسي خلال دخوله ميلة عام 1838 للسطو عليه.

ويسرد بوعروج تفاصيل ذلك في قوله: "تعرض المسجد بمجرد سقوط ميلة في يد الاستعمار الفرنسي بتاريخ21 تشرين الأول/أكتوبر1838م، لمحاولة السطو عليه بعد التمكن من دار الإمارة التي كانت تجاوره، وانتظرت فرنسا حتى سنة 1871م بسبب ثورة الشيخ محمد المقراني ودعم سكان ميلة لها، حيث انتقمت من السكان وحولت المسجد إلى ثكنة عسكرية، كما قامت بهدم وتشويه كثير من معالمه ذات الطابع المعماري الإسلامي، ثم هدمت منارته واستغلت حجارتها في بناء مرافق إدارتها في المدينة الجديدة التي أسستها لمستوطنيها.

الباحث بوعروج: الاستعمار الفرنسي هدّم جزءًا مهمًا من مسجد "سيدي غانم" لطمس الهوية الإسلامية في المجتمع 

ويذكر المتحدث أنّ آخر الشخصيات التي أمّت المسلمين الجزائريين بمسجد "سيدي غانم" المدني بن الشيخ وكان ذلك سنة 1871، وهو جدّ الشيخ الإمام محمد بن الشيخ.

بسبب جريمة فرنسا بحق هذا المعلم الديني والمنارة الإسلامية، خرج المسجد عن الخدمة بالرغم من أنّه صمد ولا يزال قائما اليوم، كما صمد وقاوم العوامل الطبيعية وخاصة الهزّات الأرضية التي حدثت منذ تاريخ بنائه إلى يومنا هذا، ولإعادة البريق له عليه وتجنب سيناريو سقوطه كليا، باشرت وزارة الثقافة الجزائرية في كانون الثاني/جانفي الماضي عمليات ترميم هذا المعلم من أجل الحفاظ عليه وتحويله إلى مركز تفسير ذو طابع متحفي بعد أن رصدت للمشروع 14 مليار سنتيم، على أمل أن تنتهي الأشغال به بعد 24 شهرًا.

 

 

 

دلالات: