إلى أقصى شمال شرق الجزائر، يبرز نتوءٌ جبلي صخري حاد يشكّل نهاية سلسلة جبل إيدوغ الممتدة بين ولايتي سكيكدة وعنابة، يسمى المكان رأس الحديد، ويتبع بلدية المرسى ولاية سكيكدة مشكلًا ملجئًا تضاريسيًا في شكل شبه جزيرة تتاخم حدود شطايبي بعنابة، لكنها آخر مركز متقدم في مواجهة جنّة الحرّاقة جزيرة سردينيا الإيطالية.
في الطريق الجبلي الفاصل بين وهران و كريشتل منعرجات أفعوانية الشكل، معبدة بالأسفلت، تنتهي عند شاطئ يشذ عن المألوف
والطريق ينتهي عند منارة بيضاء، بنيت من طرف الفرنسيين، بداية القرن العشرين، قبل أن تصير اليوم مقرًا لخدمات قوات البحرية الجزائرية.
يقود الطريق الصاعد نحو السحاب الزوّار لشاطئ هاواي اللازوردي يمينًا، أما الباحثون عن الانعزال عن صخب الدنيا، فيفضّلون ركن سيارتهم عند أعلى نقطة إلى اليسار، قبل أن يقطعوا راجلين منحدرًا ترابيًا بمسافة مائتي متر، ليفاجئهم أجمل ما يمكن أن تراه عين، شاطئ رملي متقوقع على نفسه، ونخلة شاهقة، ورصيف ميناء ممتد على طول الخمسين مترًا في الماء.
يشبه البحر الواقع في خليج شبه جزيري، الأكواريوم الطبيعي، ويطلق عليه الناس " الميناء القديم "، آخرون ينعتونه "الميناء الروماني" ما يحيلك للزمن الغابر، حين أدار الرومان خليج نوميديا، بعد عصر الفينيقيين الذين أسسوا بلدة ستورا تيمنًا بمعبودتهم عشتروت.
يقول صاحب كشك مقيم في الشاطئ لـ "الترا جزائر": " الميناء قديم وقد رغب الفرنسيون في إحيائه، فقاموا بتشييده، ثم كما لو أن شيئًا منعهم عن ذلك فتركوه على حاله، حتى أن البعض يسميه الميناء المنسي. وكما ترى فإن بقايا السلاسل الحديدية توحي أنهم كانوا يرغبون في شحن المعادن التي يزخر بها معقل رأس الحديد".
اللافت أن المصطافين الذين يصطلون هنا للاختلاء النفسي التام، في محمية طبيعية تضمن لهم البيات الصيفي، يقصدونه لغرض آخر، هو صيد الأسماك بالصنارات والقصبات، أو عن طريق القنص في أعماق البحار.
يفضل الشبان والكهول اعتلاء الرصيف وزرع صنارتهم في الماء ترقبًا لغنيمة سمك، وكثير منهم يفضّلون التخييم فيه على مدار أيام وليال مدججين بترسانة من أدوات الصيد، وهي عبارة عن بزّات غطس داكنة، وصنارات من مختلف الأحجام والأنواع، وحرابين صيد الأسماك، ورماح تسمى الخطاف وتقذف من بندقية، والأخيرة تفرض- لأسباب قانونية- تعدها أسلحة بيضاء، الحصول على تراخيص أمنية قانونية للحيازة والاستعمال.
يقول فريد بلهجة عاصمية صرفة لـ "الترا جزائر": " أقصد المكان كل صيف رفقة أصدقاء من العاصمة، وهو كما ترى بديع و بعيد عن صخب العالم، وهو يساعدك على المزج بين الاستجمام في الماء و ممارسة هواية صيد الأسماك، فجل رواده من هواة الصيد. من المفيد إذن أن تخيم بقدمين في الماء، نهارًا، وتصطاد سمكًا وفيرًا، سرعان ما يصير عشاء فاخرًا، ليلًا".
والمكان الذي يأخذ لون الكريستال الأزرق لصفائه وزرقته الشديدة يعج بالأسماك التي يمكن أن تراها بالعين المجردة. تلعب التيارات البحرية دورًا في جرها إلى المناطق الصخرية، بحثًا عن حقها اليومي من السمك الصغير أو الطحالب، أو مواد عضوية مغذية، لتقع في الشرك.
فقبل عامين جنح حوت عنبر عظيم بطول ستة أمتار، في شاطئ الغرفة القريب، ما يعني أن هذا الخليج البحري شبه المغلق، ممر بحري تسلكه أصناف شتى من أسماك "البوري" و " القاروص". تعد هذه الرقعة المائية الغنية بالمعادن بيئة مفضلة للأسماك قبل أن ينتهي بها المطاف عالقة في شتى المصائد.
وأنت تراقب أطفالًا يتأرجحون في سلاسل مثبتة في عواميد حديدية لشد المراكب، قبل أن يقفزوا منها في الماء، فيبلل زبده صيادًا منهمكًا في نسج شبكه، يطفو لك من حين إلى آخر غواصون وقد علقت بحرابينهم أسماك متوسطة الحجم،يشتكي أحدهم و كان جاء مع شلة صيادين من قسنطينة، من آلام في الأذنين جراء كتلة الماء الضاغط على الجسم، فنصحه بحار عليم بشؤون الغوص، بعدما أيقن أنها أعراض صفير الطبلتين، قائلًا: " عندما تهبط إلى 20 مترًا في الأعماق تضغطك كتلة الماء كما لو أنها عصّارة معدنية، أول ما تصيب طبلة أذنك، لذا فمن المفيد أن تسد منخري أنفك بيديك ثم تضغط بفمك، لتنغلق الطبلة وتنتهي الآلام، وعليك أن تكرر ذلك كلما أحسست بالصداع".
لكن ذلك الصداع المصحوب بالطنين سرعان ما ينهزم أمام إغراء هواية الصيد، فيعاود ذلك الشاب غوصه، ويتبعه آخرون، بحثًا عن طريدة جديدة من سمك الشبوط.
عين حامية
في الطريق الجبلي الفاصل بين وهران و كريشتل منعرجات أفعوانية الشكل، معبدة بالأسفلت، تنتهي عند شاطئ يشذ عن المألوف، ويقع على بعد 26 كلم عن مدينة الباهية.
يسمى هذا الشاطئ الواقع بين جبل طيني كلسي غضاري اللون وغابة كثة من الصنوبر الحلبي، عين فرانين. وهو يحتوي مساحة مستوية تتسع لأكثر من مائة سيارة تقابلها بنايات بسيطة مطلية باللون الأبيض والأزرق، الصبغة التي تتوشح بها جل مدن البحر المتوسط.
يسلك الزوار سلالم خشبية نازلة حتى الشط، الذي تتدفق فيه مياه حموية حارّة من هضبة كلسية تقع في الأعلى، لذا يحمل عين فرانين اسمًا آخر هو العين الحامية.
في الواقع، فإن هذه الخاصية الفريدة تقبع وراء رغبة المصطافين في القدوم إليه من وهران وباقي الولايات الغربية، إذ يجمع بين نقيضين، هما الاستجمام في مياه البحر الباردة، والاستحمام بمياه المنبع الحموية الحارة.
وهناك طريقتان لفعل ذلك سواءً بالمكوث تحت مصب العين الساخنة في الشاطئ، أو بالتوجه لحمام يقع في أعلى السلالم، وتديره عائلة يحياوي التي أنشأت مرشات وحمامين للرجال والنساء، يقعان يمين مطعم متخصص في تقديم طبق السردين والبطاطا المقلية والمشروبات الباردة والقهوة والشاي.
وبحسب تصريحات أدلى بها قاطنون محليون في حديث إلى "الترا جزائر"، فإن فضل اكتشاف هذه العين الحامية، يعود لطبيب يوغوسلافي يدعى بريقاري، كان أول من عثر عليها العام 1956، قبل أن يقوم الحاج عبد القادر يحياوي باستغلاله، بعد الإستقلال، حمامًا طبيعيًا ليستقطب الناس على مدار العام وخلال فصل الصيف، فيما يضيف أحد أفراد عائلة يحياوي لـ "الترا جزائر" قائلا:" يشهد الحمّام إقبالًا كثيفًا من قبل المصطافين لوقوعه في قلب الشاطئ، ذلك أنهم يرغبون في التخلص من الأملاح العالقة بالجلد من جهة، ولكون مياهه ذات درجة حرارة قريبة من حرارة الجسم، و هي كبريتية معالجة للأمراض الجلدية والروماتيزم".
ومع أن شكل الحمام والفضاء المخطط باللونين الأزرق والأبيض يبدو بعيدا عن منتجعات سانتوريني اليونانية، نظرًا لطبيعته البدائية والشعبية الخام، فإن الزوار رجالًا ونساء يقبلون على نوبة الاستحمام الواجبة بعد ساعات العوم والتعرض لأشعة الشمس، نظرًا للأسعار الزهيدة القريبة من سعر التراب.
في هذا الصدد يقول زبون وجدناه منهمكا في التمتع بالماء الحار في الحوض الذي تتدفق إليه مياه من قناة متوسطة الحجم، لـ "الترا جزائر": "أنا من مسيردة وقد فضلت أن أصحب معي صديقي المقيم في بورصاي، بولاية تلمسان، لقضاء ساعات في بحر عين فرانين، لنختم جولتنا بحمام دافئ تطهيرًا للجلد من بقايا الملح المترسب تحت أشعة الشمس فوق الجلد، وتحقيقًا للغاية المثالية للاسترخاء التام، وتليين العضلات، وكل هذا بسعر 100 دج للبالغين رجالا ونساء، فيما لا يتعدى سعر التحميمة للأطفال مبلغ 50 دج".
فوق الهضبة الكلسية المتدفقة بالمياه الحارة نساء يعمرن الطين في أكياس، لاحتواء تربته على مواد عضوية مفيدة للبشرة، فقد قالت إحداهن: "يمكن طلي الوجه بهذا الطين الغني بالمكونات الطبيعية المفيدة لنعومة البشرة، فقد سبق لي أن رأيت ما يشبه هذا، قبل عام، في مدينة قربص التونسية، التي تحتوي نبعًا حمويًا يصب في البحر".
عين حلوة
يتوافد جزائريون وأجانب على ولاية تلمسان التاريخية لزيارة مساجدها وقصورها العتيقة وحي العباد الهادئ الذي يضم مسجد سيدي بومدين والمدرسة الخلدونية، لكنهم يعقدون الرحال وجوبا إلى مدينة هنين الواقعة على بعد 60 كلم شمال شرق عاصمة الزيانيين، للتمتع بواحد من المشاهد العجائبية الحقيقة بأفلام الفونتازيا السحرية، ففي أعلى كتلة صخرية يصب شلال بارد وعذب، يسمى شلال القوس نسبة لاسم شاطئ مجاور، أما الغالبية من السكان المتأصلين فيسمونه شلال عين الحلوة، بما أن مياهه تتدفق في قلب البحر المالح.
في ميناء هنين يمكنك أن تصادف قوارب خصصها ملاكها لنقل السياح إلى الوجهة الشهيرة، الواقعة على مسافة أربع كيلومترات، كما يمكنك أن تلمح مستأجري الدراجات المائية " البيدالو" أو القوارب أحادية الراكب " الكاياك"، وهم يعبرون بواسطتها من شاطئ تافسوت الواقع على بعد كيلومترين أو أقل، وبين الفينة والأخرى، يفاجئك سباحون مهرة وهم يقطعون تلك المسافة المائية بسواعدهم المتينة.
في هذا الصدد يقول الفنان و ابن البلدة الممثل عبد المؤمن بوعزة – ممثل دور رادار البطحة - لـ "الترا جزائر" : "كثيرًا ما أذهب إلى العين الحلوة طلبًا للراحة النفسية، وهي موقع يشعرك، لمسحته الربانية الخالصة، بالجمال و الجلال معًا. ومياهه التي تنبع من جبل سيدي يوسف، الواقع خلف قرية أولاد يوسف، دافئة شتاء، لكنها حلوة وباردة صيفًا. في الأيام الحارة ليس هناك ما هو أمتع بعد لحظة عوم قد تصيبك بملوحة في الحلق من ماءٍ بارد تروي به بدنك المتعطش، كما لو أنه ماء ينضح من ثلاجة طبيعية".
يسلك الزوار سلالم خشبية نازلة حتى الشط، الذي تتدفق فيه مياه حموية حارّة من هضبة كلسية تقع في الأعلى
أغلب قاصدي المكان المدهش يفضلون في العادة اعتلاء كتلة صخرية ضيقة عند الحافة، لشرب الماء المتساقط شاقوليًا، ثم أخذ صور، حيث يشير السيد أيوب لعرج لـ "الترا جزائر": " سعر النقلة البحرية بالقارب من ميناء هنين إلى الشلال تتراوح بين 1000 و2000 دج، فيما لا يتعدى سعر تأجير "البيدالو" و "الكاياك" من شط تافسوت، بين 1000 دج و1500 دج، وقد يزيد عن ذلك حسب المدة المستغرقة"، قبل أن يؤكد مختتمًا: "يزور المكان سياح من مختلف الولايات الجزائرية، لكن الموقع بات يستقطب، في الآونة الأخيرة، سياحًا أجانب، ومصورين يرغبون في تخليده بصور فوتوغرافية توثق هذه التحفة السياحية النادرة".