05-يوليو-2022
(تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

(تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

"بسبب رفع العلم الوطني فوق قرميد البيت، سُجن والدي بوزيد بن عبد الرحمان -رحمه الله-، ولم أكن أعي أنّ تلك الخطوة ستكلفنا نحن عائلته ألا نراه لمدة عام ونصف"، لقد مرّ ت فترة سنجنه كأنها سنوات بالنسبة لطفلة صغيرة، ذاق والدها عذابًا كبيرًا بضواحي دوار بني فتح بالشمال القسنطيني شرق الجزائر.

رفع العلم الوطني في نهاية خمسينات القرن الماضي كان جريمة وتحديًا للمستعمر الفرنسي تكلف فاعلها عقوبة قاسية

رفع العلم الوطني في نهاية خمسينات القرن الماضي كان جريمة وتحديًا للمستعمر الفرنسي، حيث تروي السيدة موني بن عبد الرحمان أن والدتها عائشة رحمها الله هي من خاطت العلم بيديها مثلها مثل بقية جيرانها، تلبية لدعوة جبهة التحرير الوطني في العام 1960، استعدادًا لخروج الجزائريين في مظاهرات الـ 11 من ديسمبر/ كانون الأول ورفع شعار "الجزائر جزائرية".

إلى هنا، تروي السيدة موني قصة قطعة القماش المطرز بالأبيض والأخضر والأحمر  رُسمت عليه نجمة وهلال، كأنها حدثت بالأمس فقط، ولكنه بالنسبة لملايين الجزائريين ممن ذاقوا مرارة العيش لسنوات طويلة تحت نير الاستعمار رمزًا من رموز تحدّي المستعمر الفرنسي، وعدم الإذعان للجنرال شارل ديغول الذي سنّ سياسة رامية إلى إبقاء الجزائر جزءًا لا يتجزأ من فرنسا، وكلّ سبل خنق الثورة التحريرية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

نُفّذت الأوامر، وخرج الجزائريون مجموعات في المدن رافعين العلم الجزائري وشعارات موحدة: "الجزائر جزائرية وليست فرنسية"، ما دفع بالجنرال إلى التراجع وقبول التفاوض مع قيادة الثورة التحريرية ثم قبول فكرة تقرير المصير للجزائريين انتهت بتوقيع اتفاقيات " إيفيان" واستقلال الجزائر العام 1962.

قبل أربعة قرون 

في بهو المكتبة الوطنية بمنطقة الحامّة بقلب العاصمة الجزائرية، وضعت العديد من الصور والشّعارات تخليدًا للذكرى الستين لاستقلال البلاد، ومن بين الصور التي تلفت الانتباه العلم الوطني، وتبادر للذهن أن الكثيرين يعرفون قصته ولكن لتاريخ هذا الرمز من رموز السيادة الوطنية قيم معنوية كثيرة حددها المشرع الجزائري وكرستها كل الدساتير المتعاقبة.

يُعتبر العلم الوطني أحد ثوابت الأمة، ومكسبًا من مكاسب ثورة التحرير الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، وغير قابل للتغيير، لكن العلم الوطني مرّ بالعديد من التغييرات منذ القرن السادس عشر، حسب المؤرخ شاوش حباسي، إذ كان مصدره في العهد العثماني مركزًا للدولة العثمانية وإن تعددت التعديلات في الأشكال المرسومة فيه، وفي تغييرات مست اللون كلية مع الرسم كما فعل رياس البحر في نهاية القرن السادس عشر، على حد قوله.

وأضاف حباسي في إفادته التاريخية، أنه بعد سقوط مدينة الجزائر في يد الفرنسيين في العام 1830، ظلّ العلم يترنّح  بين الولاء والاستقلالية السياسية عن الدولة العثمانية في الفترة ما بين 1830 إلى 1847، إذ بقي الحاج أحمد باي قسنطينة على ولائه للدولة العثمانية وأبقى على العلم الأحمر بإضافة رسم يمثل سيف ذو الفقار باللون الأبيض.

أما الأمير عبد القادر الجزائري الذي تولى زعامة المقاومة الشعبية المسلحة في غرب ووسط الجزائر من سنة 1832 إلى غاية 1847، فقد تبنى علمًا مغايرًا للعلم الجزائري، حيث عوض اللون الأحمر بالأخضر، ورُسمت على رايته يد مبسوطة أحيطت في شكل نصف دائري بالعبارات التالية: "نصر من الله وفتح قريب، ناصر الدين عبد القادر بن محي الدين"، وكان يؤطره في الأعلى والأسفل شريط باللون بالأخضر يتوسطه اللون الأبيض.

كان العلم الجزائري آنذاك يرمز إلى استقلال سياسي عن الدولة العثمانية بعد أفول الحكم العثماني، وهو ما أشار إليه الأستاذ توفيق المدني في مُؤلَفه تاريخ الجزائر المعاصر ،حيث كتب أن الأمير عبد القادر اقتنع بأن الحكم العثماني قد انتهى بعد فشل الداي حسين في التصدي للجيش الفرنسي.

بين 1910 إلى غاية 1934، ظهر ما أسماه الباحثون في التاريخ الجزائري بـ"علم الوطنية الجزائرية"، إذ رفع عمال جزائريون في ميناء سكيكدة علما أخضر عليه هلال، ثم ظهر نجم شمال أفريقيا في فرنسا كمنظمة عمالية مغاربية إذ ظهر العلم الجزائري بمعناه الاستقلالي الصريح عن فرنسا إلا في سنة 1934، على لسان مصالي الحاج، إذ كان ثلاثي الألوان الأبيض والأخضر إضاقة إلى نجمة وهلال باللون الأحمر.

وفي هذا المضمار قال المؤرّخ الجزائري محفوظ قداش بأن الشّكل الحالي للعلم الجزائري من حيث اللون والرسم يعود إلى سنة 1934، إذ ارتبط برمزية الاستقلال، فضلًا عن دلالاته من حيث اللون والأشكال، التي يُجمع الكثيرون على تفسيرها إيديولوجيا، فالأخضر مرجعيته إسلامية، أما الأحمر فيحمل معنى الجهاد كما هو الحال بالنسبة للأبيض الذي يرمز للجهاد أو الكفاح من أجل الحرية، فيما ترمز النجمة لراية رياس البحر المرصعة بالنجوم، والهلال فهو رمز الإسلام لأنه أصل التقويم الهجري.

الزّمن يعود

تستحقّ هذه الإطلالة التاريخية التذكير والبحث وترسيخ القيم الوطنية في نفوس الجزائريين، إذ بادرت عديد البلديات عبر الجزائر في تخليد المناسبة الوطنية ستينية الاستقلال بمبادرة "علم في كلّ بيت"، ورفع العلم الوطني في كل البيوت وعلى الشرفات.

الجزائري آنذاك يرمز إلى استقلال سياسي عن الدولة العثمانية بعد أفول الحكم العثمانية

في هذا السياق، وُزعت آلالاف الأعلام الجزائرية على المواطنين والساكنة والمحلات، من طرف مكونات المجتمع المدني والمنظمات الجماهيرية، ليس باعتباره حدثًا سياسيًا، ولكن لارتباطه بتاريخ التحرر والاستقلال والمقاومة ولرمزيته ودلالته في الذاكرة الشعبية، حيث استجابت لهذه المبادرة فئات مجتمعية واسعة، انطلاقًا من سجّل عائلي وثوري يربط معظم العائلات الجزائرية بمقاومة الاستعمار الفرنسي.