29-نوفمبر-2019

صورة من معرض المصوّر غريغوري دارجنت/الترا جزائر

يحلّ الفنّان والمصّور غريغوري دارجنت، ضيفًا على فضاء فيلا عبد اللطيف بالعاصمة، ليقدّم عرضه المعنون بـ "أش"، والذي يوثّق عبر الصورة الفوتوغرافية آثار التجارب النووية التي قام بها الاستعمار الفرنسي في مناطق مثلث الموت في الصحراء الجزائرية، بين رڨان وتمنراست وعين إيكر أقصى جنوب البلاد. كانت رحلته نحو منطقة اكتشف وجودها بالصدفة وصارت صداعًا مزمنًا لاحقه لمدّة سنتين، فقّرر الخوض في تجربة لا ترصد آثار التجارب على الأجساد والجدران بقدر ما تشخّص بالأبيض والأسود آثار الإشعاعات على النفوس والأرواح.

لم تكن هذه الزيارة هي الأولى للفنّان الفرنسي إلى الصحراء الجزائرية، بل سبق وأن زارها قبل قرابة 15 سنة

العزف على صورالأشباح

يمتلك غريغوري دارجنت عدّة مواهب وظّفها في أعماله بتناغم غريب، فهو في الأصل موسيقي ومصوّر، من مواليد عام 1977. تخرّج من معهد ستراسبورغ، ويعمل موسيقيًّا متخصّصًا في الغيتار الكهربائي والعود. وعزفه للعود جعله دائمًا قريبًا من الأوساط  الثقافية الشرقية، كما أنّ والده كان عسكريًا سابقًا في الجيش الفرنسي وعاش فترة من حياته في الجزائر، لذلك قضى غريغوري جزءًا من طفولته بين القواعد العسكرية التي يشتغل فيها والده، إذ شغلت الحرب وذاكرة المحاربين القدامى جزءًا كبيرًا من حياته.

اقرأ/ي أيضًا: "الفنون الجميلة" غير معترف بها في الجزائر؟

يقول غريغوري في حديث إلى "الترا جزائر": "في المدارس الفرنسية لم ندرس في مادة التاريخ، أن فرنسا قامت بتجارب نووية في الجزائر، لقد كان ذلك مجرّد طابو، أو فكرة سوداء لا يجب زرعها في نفوس الفرنسيين منذ الصغر. اكتشفت الموضوع صدفة في الإذاعة. بدأت البحث منذ ذلك اليوم في الموضوع. كنت أفكّر في كيفية إنتاج تلك الفكرة فنّيًا، هل أختار الصورة أم الموسيقى؟ فوقع الاختيار على كليهما".

سافر غريغوري دارجنت إلى الصحراء الجزائرية عام 2017، مكث فيها 20 يومًا على ثلاثة مراحل متباعدة، متنقلًا بين رڨان وتمنراست وعين إيكر. اقترب من المكان الذي شهد التجارب النووية، وعايش عن كثب الأشخاص الذين عاشوا اللحظة أو لا زالوا يعانون من مخلّفاتها حتى الآن. يقول غريغوري: "لم أشتغل على توثيق معاناة الناس من الأمراض جرّاء الانفجارات، لم أحاول أن أنقل شهادات حيّة، ذلك عمل الصحافيين وأنا لست صحفيًا، كنت أعمل على تحويل تلك الشهادات لأشخاص مسنّين إلى صورة تنقل إحساسي فقط في تلك اللحظة".

الوصول إلى نقطة "الصفر"

صار مألوفًا أنّ آلاف الأوروبيين يحزمون أمتعتهم ويحجزون تذكرة طيران للذهاب للصحراء الجزائرية من أجل السياحة والتمتّع بمناظر إحدى أكبر وأجمل صحاري العالم، لكن قد يصبح الأمر غريبًا حين يصل إلى رڨان شاب فرنسي يحمل آلة تصوير وحقيبة ظهر. يقول غريغوري: "لا أحد يذهب إلى رڨان من أجل السياحة، الفكرة ليست جيّدة بتاتًا، لا أحد يبحث عن الطريق المؤدّية إلى مدينة أشباح، وجدت هناك أشخاصًا تأقلموا مع الحياة في مدينة يُشعرك اسمها بالرعب، هم يرون أن الحياة مستمرّة، هناك قد لا تجد آثارًا مادية عن التفجيرات، وذلك أيضًا لم يكن ما ذهبت من أجله".

لم تكن هذه الزيارة هي الأولى للفنّان الفرنسي إلى الصحراء الجزائرية، بل سبق وأن زارها قبل قرابة 15 سنة، من أجل عملٍ موسيقي في تمنراست جنوب البلاد، لكن هذه المرّة كان الأمر مختلفًا تمامًا. غريغوري لم يجلب عوده معه، ولكنّه يقول "كنت أبحث عن الأشباح في مدينتهم. تأكّدت هناك أنني لن أجدهم، بل وشعرت أنني من صار الشبح، كنت هناك ليس من أجل أن أوثّق التجربة، بل لأجد جوابًا لسؤال يلاحقني؛ لماذا أصبح الناس في تلك الفترة فئران تجارب؟".

المصوّر الفرنسي غريغوري دارجنت

قصص اليربوع الأزرق

شهدت الصحراء الجزائرية أولى  التجارب النووية الفرنسية  في الجزائر والتي سُميت بـ "اليربوع الأزرق"، وجرت يوم 13 شبّاط/فيفري 1960 تحت إشراف الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديغول، وتقول الكثير من الشهادات إنّ  شدّة التفجير الذي أُجري في الصحراء الجزائرية، يساوي خمسة أضعاف التفجير الناتج عن قنبلة هيروشيما.

غريغوري دارجنت: كنتهناك لأجد جوابًا لسؤال يلاحقني لماذا أصبح الناس في تلك الفترة فئران تجارب؟

يتحدّث غريغوري عن ذلك قائلًا: "بالإضافة إلى سكان الصحراء والمناطق التي شهدت هذه التجارب النووية، استمعت أيضًا لقصص مجنّدين فرنسيين عاشوا تلك الأحداث أو تم إيفادهم إلى تلك المنطقة بعدها، قد تلاحظون أن كل الصور كانت بالأسود والأبيض، وذلك لأننا لا نسنتطيع أن نتكلّم عن تلك التجارب الفظيعة بألوان أخرى، كما أنّ كل الصور يخترقها ضوءٌ وأشعة تكاد تمحو الصورة، تلك الأشعة هي محاكاة للإشعاعات النووية واختراقها للصورة كانت فكرة أوحاها لي كلام أحد المحاربين الفرنسيين القدامى حين قال لي: "لقد كانت الإشعاعات قوّية جدًا، الضوء يشّع في كل حنايا المكان، لدرجة أنّك تستطيع أن ترى أحشاءك، لقد كانت صورة تعبيرية فظيعة. أحد الشيوخ في تمنراست قال لي إنّ ما حدث ذلك اليوم كان يُشبه ظهور قوس قزح في منتصف الليل".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الفن وزمن التغيير.. أصعب مراحل الثورة

السينما الجزائرية تفقد ملاكها الأبيض