19-سبتمبر-2019

ياسر صافي/ سوريا

في زمن الثورات السياسية والاجتماعية الجذرية، يتحوّل الفنّ إلى عامل من عوامل التغيير، فهو في ظلّ الأنظمة الاستبدادية قد يتحوّل إلى عامل من عوامل التدجين، إذ تعمد هذه الأنظمة إلى الحدّ من حرّية التعبير، وغلق أفق الإبداع، ومحاربة روح التجديد الذي يعد به، وإفساد أذواق الناس.

يقول علي حرب: "إنّ كثيرًا من المثقّفين الذين ينتقدون الأنظمة وسلطاتها وحكّامها، هم غارقون في آفاتها ومساوئها"

لن يكتمل تحرير الإنسان من الاستبداد إلاّ بتحرير وعيه من هذه الثقافة ومن أشكال الوعي الزائف، لذا كان الفنّ دائمًا يحمل وعودًا بالتغيير، من خلال الحركات الفنيّة الطلائعية والحداثية والثورية.

اقرأ/ي أيضًا: درس في الديكتاتورية.. ميشال أونفري قارئًا لــ"رواية 1984"

إنّ علاقة الفنّ بالتغيير تطرح سؤالًا عن طبيعة هذا التغيير المنشود؛ والمؤكّد أنّه حتى الفن نفسه يحتاج إلى ثورة داخلية، وهذا ما حدث طيلة تاريخه، ثورة على صعيد الأشكال الفنيّة والموضوعات الفنيّة والرؤى الفنيّة، لأنّ الأشكال الفنيّة هي المظهر الظاهراتي للثورة على الواقع القائم.

منذ بداية الحراك الشعبي في الجزائر، سكنني سؤالٌ مستعجل: ما دور الفنّ في المرحلة المقبلة؟ وكيف يستطيع أن يُساهم في عملية الانتقال من لحظة الاستبداد إلى لحظة المواطنة الحرّة؟

فروح الفنّ هو الحرّية، مثلما أنّ المجتمع الجديد الذي نبحث عنه هو مجتمع الحرّيات، فلا يتأسّس أيّ وجود بشريّ دونها. غير أنّه وفي خضم التحوّلات الكبرى، من حقنا أن نتساءل: هل هناك مفهوم متفقٌ عليه عن الحرّية؟ ما هي الحرّية التي نبحث عنها كجزائريين؟ من هنا سنُدرك بأنّ عملية التغيير ليست شأنًا بسيطًا، بل أنّ تغيير المنظومات هو أصعب مراحل أي ثورة، بل هو أصعب من إسقاط نظام قديم. والسبب يرجع إلى أنّ المعركة في أساسها، هي لأجل تغيير منظومة القيم.

يأتي دور الثقافة بشكل عام، والفنّ بشكلٍ خاص، لأجل مساءلة مزدوجة للواقع السياسي والاجتماعي، ولواقعهما الثقافي والفنّي؛ فالسلطة ليست فقط سياسية أو دينية، فهي كذلك سلطة ثقافية، فبقدر ما ينتج السياسي والديني أمراضًا اجتماعية، ينتج المثقّف هو الآخر أمراضه الثقافية، وتستفحلُ الآفات الثقافية أكثر في ظلّ الأنظمة الاستبدادية. يقول علي حرب: "فإنّ كثيرًا من المثقّفين الذين ينتقدون الأنظمة وسلطاتها وحكّامها، هم غارقون في آفاتها ومساوئها". ووظيفة الفنّ هو أن يكشف عن تناقضات السلطة السياسية والثقافية، ويقيم ثورة داخل الوعي الفني لهذا الواقع.

أغنية "حرّية" لمغني الراب سولكينغ تحوّلت في وقت سريع إلى ما يشبه بيانًا فنيًّا للحراك الشعبي

 أعلم أنّه في ظلّ غياب متابعة حثيثة وقريبة لحركية الفنّ في هذا المخاض التاريخي، يصعب بناء رؤية واضحة لوظيفته اليوم من جهة، ومدى تأثير المرحلة في تغيير موقعه التاريخي ضمن هذا الحراك، لكن الحراك لم يخل من مظاهر الفن التي صاحبته؛ فأغنية "حرية" لـ سولكينغ، تفتّقت بعد الأيّام الأولى من الحراك، وأصبحت في وقت سريع أشبه ببيان فنّي للحراك يناشد الحرّية. بل حتى الشعارات التي رُفعت، والأشكال التعبيرية التي صاحبت المسيرات، مثل التمثيليات، الفرق الموسيقية، المسرح الارتجالي، فن الغرافيك، ..  كلّها مظاهر فنيّة لم يخلُ منها هذا الحراك منذ بداياته؛ بل سنشهد في قادم الأيّام أعمالًا أدبية ستتخذ من الحراك موضوعًا لها، مع كل ما يُمكن أن يطرحه ذلك من قضايا فنيّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مهرجان "احكي فن".. حراك ثقافي يُشبه الثورة

توني موريسون.. تأمّلات في مفهوم الأفريقانية في الأدب