20-أغسطس-2019

لوحة رقصة الموت لـ هوغو سيمبيرغ/ فلندا

 

لقد ظلّت رواية جورج أورويل مستفزّة للكتّاب والمفكّرين عبر العالم بعوالمها التخييلية، ورؤيتها المستقبلية التشاؤمية؛ إذ تخيّلت الرواية جمهورية يحكمها زعيم مطلق السلطة يرى الجميع ولا يراه أحد أطلق على نفسه اسم (الأخ الأكبر)، وتحمل هذه الجمهورية مواصفات الدولة الديكتاتورية، التي تعد شعبها بالسعادة والأمن والرفاهية مقابل حرّيته، ففي مثل هذه الأنظمة تكون الشعوب مخيّرة بين السعادة و الحرّية.

"رواية 1984"، قدّمت فرصة للتفكير في مفهوم الديكتاتورية

من بين الفلاسفة الذين كتبوا عن "رواية 1984"، الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفري، هذا الأخير، قرأ الرواية انطلاقًا من فرضية أنّها تؤسس في متنها لنظرية في الديكتاتورية، ومنها اهتدى إلى عنوان كتابه الجديد "نظرية الديكتاتور".

اقرأ/ي أيضًا: صديقي الذّي خانه الحبّ والشّعب

إنّ ما كتبه جورج أورويل ( اسمه الحقيقي إريك آرثر بلير 1903 -1950) في روايته الأشهر، ليس مجرّد عمل سردي تخييلي، بل هو أيضًا خطاب سياسي ينتقد الأنظمة الشمولية في أوروبا، ويعتبرها خطرًا على مستقبل البشرية. لقد استند أورويل إلى معطيات من التاريخ الأوروبي الحديث، وهو تاريخ بدأ في شكل وعود بالتنوير وبمستقبل زاهر للإنسانية، لكن ومع بداية القرن العشرين، انحرفت هذه الأحلام، لترتطم أمام واقع قاس صنع مشاهده صعود الحركات السياسية المتطرفة بإيديولوجياتها الطهرانية التي تبلورت لاحقًا في شكل أنظمة ديكتاتورية.

لقد كانت "رواية 1984" رواية نبوئية، تنبأت بالمستقبل الأسود الذي ينتظر الإنسانية في منعطفاتها التاريخية. صحيح أنّ الديكتاتوريات التقليدية قد اندثرت في شكلها الكلاسيكي، إلا أننا نشهد صعود أشكال معاصرة منها، مع عصر العولمة والامبراطوريات الإعلامية، والليبرالية المتوحشة، فالعالم ليس بخير تحت رحمة اقتصاد متوحّش غير عادل يتغذّى على الحروب.

عاد الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري إلى رواية أورويل، ليقرأها بعيون الفيلسوف، فقدم لنا ما سماه بـ "نظرية الديكتاتور" انطلاقًا من تتبّع الخطوط الدقيقة لملامح الأخ الأكبر في الرواية.

أشار في مقدّمته للكتاب إلى كتاب "حنة أرنت" عن أصول التوليتارية، وهو كتاب في ثلاث مجلدات، واستغرب كيف أنّ الفيلسوفة الألمانية لم تشر إلى رواية أورويل لا من قريب ولا من بعيد، خاصّة وأنّ "رواية 1984"، قدّمت فرصة للتفكير في مفهوم الديكتاتورية، إذ أبرزت العناصر الكبرى المشكلة لها، مثل: تدمير الحرّية، إفقار اللغة، تشويه الحقيقة، إلغاء التاريخ وإعادة كتابته، ... إلخ

يقول أونفري بخصوص هذه الرواية: " إنّ رواية أورويل هي رواية خيالية حقيقية، حلم ملموس، يوتوبيا متحقّقة، وبتعبير آخر، إنها نموذج لمجتمع شمولي، كان ساريًا في الماضي، وهو ينتج اليوم آثاره في المستقبل طالما أنّه فعال في حاضرنا" ( ص 22)

لقد كان واضحًا أنّ عالم الديكتاتورية في رواية أورويل كان انعكاسًا للديكتاتوريات الأوروبية في بداية القرن العشرين، مثل: اللينينية والستالينية والنازية والفاشية، بل يقول اونفري إنّ ملامح الأخ الأكبر بشواربه الكثّة، تذكّرنا بشوارب ستالين.

فما هي ملامح الديكتاتورية في رواية أورويل؟

1

تتميز مدينة أورويل بانتشار صور الديكتاتور في الساحات العمومية، فهي تغزو كل الأماكن العامة والخاصّة، حتىّ أن الإنسان يشعر بأن الديكتاتور يراقبه في كل وقت وفي كل مكان؛ وتاريخيا فإن الديكتاتور مولع بفن التصوير، وانتشار صوره في كل مكان يعني أنه مطلق الحضور.

2

بولسة الحياة العامة، بانتشار البوليس في كل مكان، وتكمن مهمّة الأجهزة الأمنية في مراقبة المواطنين أنفسهم، من أيّة شبهة أيًا كانت، وأخطر مظاهر المراقبة تلك التي تطال الأفكار والعواطف والانفعالات، ومراقبة ما يُقرأ وما يُكتب، وتنصيب عيون في كل مكان لنقل التقارير السياسية عن أيّ شخص يحمل فكرًا نقديًا أو ثوريًا. والاستعانة بالتقنية لفرض رقابة صارمة، تصل إلى درجة أنّ الفرد لا يثق في أقرب الناس إليه.

3

محاربة الفكر الحرّ والتفكير النقدي والكتب التي تنشر الوعي والفن الطليعي الثوري الذي يفضح جرائم النظام. فمن بين الظواهر التي ركّز عليها أونفري مفهوم (الجريمة الفكرية)، فهي الجريمة الأساسية التي لا يتسامح معها الديكتاتور؛ فالتفكير جريمة، وأعداء الدولة هم الفلاسفة والأدباء والفنانون الذين يملكون القدرة على زعزعة اليقينيات الجمعية والمسلمات العامة؛ ذلك أنّ الوعي مرض جماعي، إذا تفشّى بين الناس أصبحوا خطرا على الدولة.

إنها جرأة التفكير ذاتيًا، خارج الأطر التي فرضها الحزب الحاكم، إنّها النّظر إلى الأشياء كما هي، وتسمّيتها بأسمائها الحقيقية، وهذا ترفضه شرطة الفكر، بل تقمع من يقول الحقيقة، لأنّ الحقيقة الوحيدة هي الحقيقة التي يقرّرها الحزب. وهذا يصلح مع الجريمة السياسية التي هي بتعبير أونفري أن "تملك الشجاعة لتعلن رفضك لما تقوله السلطة". (ص 41).

4

محاصرة السلطة للأفراد، مثل محاصرة أفكارهم ولغتهم، لأنها مدركة بأنّ الخطر يأتي من الفرد الذي يفكّر، ومن اللغة التي تقول الأشياء كما هي، دون أن تتعرّض للتشويه. فالثورة على الأشياء لا تكتمل دون ثورة في الكلمات أي في اللغة.

5

التحكمّ في اللغة، إذ كانت اللغة دائمًا المكان المثالي لإدارة المعارك المصيرية التي تخوضها السلطة ضدّ المناوئين لها. تحاول السلطة التحكّم في الأنظمة التعبيرية، من خلال حذف الكلمات أو استبدال معانيها الأصلية بمعاني مستحدثة، أوفرض كلمات أخرى، وتعديل في نظامها العلائقي، أي بإحداث ارتباك في علاقة اللغة بالعالم. فالسلطة يقول أونفري، هي التي تقول لك بأن الأسود هو أبيض والأبيض هو أسود؛ ذلك أنّ العلاقة بين الدوال والمدلولات هي المركز النووي للسلطة في امتلاكها للعالم: أي عالم الأشياء وعالم الكلمات معًا.

6

تشويه التاريخ؛ ففي دولة الأخ الأكبر، لا يوجد تاريخ خارج سيرة المبجّل، لهذا استحدث الديكتاتور وزارة الحقيقة، حيث كان بطل الرواية يعمل في قسم إعادة كتابة التاريخ؛ وتكمن وظيفته في محو الماضي، من خلال إتلاف كل الشواهد التاريخية، وإعادة صياغة الخطابات، وصناعة الأكاذيب، والحرص على بثّها في الوسائط الإعلامية الجماهيرية. ( ص61)

الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفري

في مقال كتبه الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن، والذي نشر في القدس العربي منذ أيّام، قدّم توصيفًا دقيقا للديكتاتورية، يتقاطع كثيرًا مع الأفكار التي طرحها أونفري في كتابه، قال بركة ساكن: "النظام الديكتاتوري هو نظام أبوي صارم شمولي منغلق على ذاته، يعتمد في استمرارية وجوده على القوة المفرطة التي تتمثل في السيطرة على جسد الإنسان، ثم السيطرة على المجتمع والأفكار. وألد أعداء الأنظمة الديكتاتورية، الجسد والثقافة والمعرفة.

فيسيطر على الجسد بالتعذيب والسجن والجلد والنفي والاغتصاب والقتل، ونفي الوجود بقطع الأشجار في المدن، ومحو الذاكرة في تدمير المتاحف وتزييف الهُويات وحرق القرى في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وحرق النخيل في الشمالية، وإغراق الأرض بالمياه، وتغيير أسماء المدن والقرى والمدارس وإهمال البيئة، إلى جانب تطبيق سياسة التجويع عن طريق تدمير المشروعات الزراعية، وعدم الصرف على مرافق الصحّة والتعليم، بينما يغدق الصرف على المؤسّسات الأمنية والعسكرية، مستخدمًا القانون، أو الدين أو الأيديولوجيا بمعناها العام كظلّ أخلاقي، ففي محاربة الجسد رمزية لقتل الوجود والكينونة".

المجتعات العربية التي عانت من الدكتاتورية تعرّضت لأكبر عملية محو للإنسان طيلة عقود

 

 نستنتج في الأخير، بأنّ الديكتاتورية هي نفي للإنسان، من خلال السيطرة على جسده وحواسه وفكره وعواطفه ولغته؛ لهذا فإنّ المجتمعات التي عانت منها تحتاج إلى سنوات لأجل ترميم ذاتها، واستعادة ما دمّره الديكتاتور فيها، حال المجتمعات العربية التي تعرّضت لأكبر عملية محو للإنسان طيلة عقود.

اقرأ/ي أيضًا:

توني موريسون.. تأمّلات في مفهوم الأفريقانية في الأدب

يتبع ظلّه في الظلّام