كان يبيع الكتب المستعملة في ساحة البريد المركزي بالجزائر العاصمة، وأيّ كتب؟ مجلّات قديمة لا يشتريها عاقل، وبعض الكتب الأدبيّة، التّي لم تستطع أن تخترق الزّمن.
مرّة تفاجأتُ به يعرض كتابي الأوّل "من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟"، ضمن ما يعرض من كتب للبيع. حملته بروح أبٍ يحمل طفله وقد وجده بعد ضياع. فتحته فإذا به مُمْضًى من طرفي لصديق شاعر قبل فترة، قد يكون هو من باعه أو سُرق منه فباعه السّارق. ليس هذا مهمًّا بقدر أهمّيّة أنّها كانت فرصة لأن أصير صديقًا للفتى، الذّي تبيّن لي أنّه قارئ نوعيّ وخزّان للحكايات.
قال لي ذات سهرةٍ إنّه لم يعد يشرب لأنّه يريد أن يوفّر مالًا ليشتري به عصفورًا في قفصٍ يسمّيه على حبيبته، التّي لم يعد يعرف لها أثرًا.
كانت سميّة راقصةً مبدعةً تطمح لأن تصبح عالميّة، رغم إقامتها في مدينة جزائريّة معزولة، ولأنّ الوفاء للطّموح يجلب الفرص الثّمينة النّادرة، فقد تعرّفت إلى راقصٍ بلجيكيٍّ في أسبوع ثقافيٍّ جزائريٍّ في الخارج وباتا عشيقين يرعيان أحلام بعضيهما، ضاربة ارتباطها بصديقنا بائع الكتب القديمة عرض النّسيان.
سألته: فلماذا تريد أن تخلّد اسمها في عصفورة ما دامت قد خانتك يا نجيب؟ قال لي: ليس شرطًا أن أخون من خانني، فالوفاء قيمة ليست مشروطة عند النّبلاء.
رافقته ذات صبيحة إلى سوق العصافير والأقفاص في الحرّاش، حيث اشترى عصفورة في غاية الأناقة والغناء. وعدنا في الحافلة المتوجّهة إلى ساحة أوّل ماي. نزلنا فتوجّه رأسًا إلى ساحة مقرّ اتّحاد العمّال الجزائريين. وضع القفص جانبًا وشرع في رقص مجنون.
هل ثمّة رقص عاقل؟ هل يحتمل الرّقص الشّعبي الجنون فيه؟ ومع تواصل رقصته احتشد النّاس حوله مشكّلين حلقة وسيعة. كانوا جميعًا صامتين لأنّهم أدركوا أنّها ليست رقصة تستدعي التّصفيق بل التّأمل. هل كان يقتل حبيبته الخائنة أم يحييها بممارسة فنّها المفضّل؟
فجأة توقّف. سأل عن القفص فلم يجده. أحدهم أخذه. انفجر ضحكًا في الوقت الذّي توقّعت فيه صراخه المحشيّ بالقاموس الجنسيّ الجزائريّ المعروف.
عاد إلى فندقه الحقير في باب عزّون. ومن ليلتها لم أعثر له على أثر. أين أنت أيّها العاشق، الذّي خانه الحبّ والشّعب؟
اقرأ/ي أيضًا: