21-أكتوبر-2023
 (الصورة: Getty)

(الصورة: Getty) احجتاجات داعمة لفسطين في إيطاليا

يهجم جنود مسلحون إلى بيت طيني هشّ، في الساعات الأولى للصباح الباكر من يوم شتوي قارص، ويجبرون جميع من فيه من أطفال ونساء وكبار السن على الاصطفاف في الفناء حفاةً بعد سحبهم من فراشهم نيامًا، ويسرقون منهم دفء تلك الأسمال التي كانوا يفترشونها؛ فقد كانت في الغالب حصيرًا ينامون عليه وآخر يتغطون به جماعيًا.

تقول أمي: كان الجنود الفرنسيون يستمتعون بالأمر حين يدوسون طعامنا ويمزجونه بجزماتهم وهم يغنون ويضحكون

أغلب الأطفال في ذلك الكوخ الذي تداعى سقفه كانوا حفاة حتى في فصل الشتاء، فكمية الملابس التي يرتدونها لا تكفي لتغطية جلودهم العارية. تقول أمي: من كان يملك قميصًا في ذلك الوقت لم يكن يملك سروالًا، ومن كان يرتدي سروالًا فهو على الأرجح لا يجد ما يضم به جناحيه.

أحد أفراد الأسرة كان مقاومًا في ثورة التحرير، لذلك يعمد الجنود الفرنسيون على إنزال عقوبة جماعية على كل أفراد عائلته؛ يستجوبون الكبار باللكمات والصفع والرفس وضربهم بمساند البنادق، ويطلقون الكلاب المدرّبة على الشباب بعد ربطهم لترويعهم، أكبر الذكور في العائلة كان يبلغ 15 سنة وقتها. كل هذا لاستنطاقهم وجمع معلومات عن هذا المتمرّد الذي التحق بالثورة.

لا يكتفي المجندون الفرنسيون بهذا، سيقومون بجمع كل محتويات البيت من طحين وزيت وسكر وتمر وشعير وكل مخزون العائلة في الشتاء. ويفرغونها في فناء المنزل على الأرض. يسكبون عليها الزيت والماء وكل ما تصل إليه أيديهم، ثم يتطوع جنديان لمزج كل هذه المحتويات بأرجلهم حتى يتلفونها.

تقول أمي، التي كانت طفلة صغيرة في ذلك الوقت: "كان الجنود الفرنسيون يستمتعون بالأمر. كانوا يرفسون غذاءنا ويمزجونه بجزماتهم وهم يغنون ويضحكون، كانوا يدرسونه درسًا بجزماتهم وهم يدورون حوله كحمار الطاحونة".

في كل مرة كانوا يداهمون فيها منزل العائلة، يأتي الجنود الفرنسيون على الأخضر واليابس، كانوا يطلقون النار على رؤوس الماعز والدواب ويقتلون أيّ شيء يتحرك، حتى الكلاب، بل وكان بعضهم يطارد الدجاجات الموجودة في البيت ويكسر عنقها قبل أن يضعها في جرابه أو حقيبته ليأكلها فيما بعد.

لم تكن هذه قصة من رواية حزينة أو فيلمًا خياليًا، بل مشهدًا حقيقيًا من معاناة يومية تعيشها عائلات الثوار في فترة الاحتلال الفرنسي، مازالت أمي تروي من حين لآخر مزقًا من ذاكرتها وما عاشته في تلك الفترة، وما عاناه بقية أفراد الأسرة بسبب العقوبات الجماعية التي انتهجها الاستعمار الفرنسي.

جدّي الشيخ الطاعن في السن أيضًا، وبسبب ابنه المتمرّد لم يسلم من سياسة الانتقام، فقد اقتيد للسجن وعُذّب بوحشية تشبه طريقة محاكم التفتيش في إسبانيا، فقد وُضع في زنزانات نصفها مملوء بالماء وحشروها بالمحتجزين لأيام طويلة إلى أن مات كثير منهم، وبينما كانوا يستنطقونه من حين لآخر، أحرقوا لحيته بالنار بعد رشها بالبنزين، واقتلعوا جميع أضراسه وأسنانه بالكماشة.

كانوا يطلقون النار على رؤوس الماعز والدواب ويقتلون أيّ شيء يتحرك حتى الكلاب

وأنا أتأمل في العقوبات الجماعية التي ينزلها الاحتلال الإسرائيلي على أهالي غزة، والمذابح التي يرتكبها ضد الأبرياء، استذكر دائمًا السياسيات اليائسة للقوى الاستعمارية ووحشيتها، فجميع قوى الاستعمار متشابهة حتى وإن اختلفت جغرافيتها وسياقاتها الزمنية، ونهاياتها أيضًا واحدة.

رغم أن فرنسا دولة قامت على قيم مشبعة بالديمقراطية والحرية والمساواة، بعد الثورة الفرنسية سنة 1789، إلا أن ممارساتها الاستعمارية كانت الأكثر بشاعة ودموية في التاريخ، فقد كان دخولها إلى الجزائر حافلًا بالإبادات الجماعية وقتل الأطفال وإنهاء تاريخ قبائل بأكملها من الوجود أو تهجيرها إلى الأبد.

يتجه الاحتلال الإسرائيلي اليوم، إلى انتهاج الممارسات نفسها وربما بأسوأ طريقة ممكنة، فهو في وقت السلم كان يدك منازل المقاومين الفلسطينيين، ويُنزل عقوبات جماعية على عائلاتهم، فبعد استشهاد أحدهم في عملية اشتباك أو طعن، يهدمون منزل عائلته على آخره، ويأسرون أهله ويحتجزون جثته لأيام.

لطالما اعتمد الاحتلال الإسرائيلي منهج إنزال العقوبة الجماعية على الفلسطيينيين، وبقوة في السنوات الأخيرة، زعمًا منه أنه يؤلب السكان على الثوار ويقطع الصلة بين الثورة والشعب، كما كان يفعل الاستعمار الفرنسي.

إنزال العقوبات الجماعية على الشعب الجزائري كان نتيجة رد فعل يائسة من الاستعمار الفرنسي

إنزال العقوبات الجماعية على الشعب الجزائري كان نتيجة رد فعل يائسة من الاستعمار الفرنسي لقتل ثورة التحرير، ولكن النتيجة جاءت معاكسة لتوقعاته، حيث أدخل الشعب الجزائري كله في فعل المقاومة والغضب والثورة، بل إن الحجر والشجر والبهائهم كلها قاتلت ضد الاحتلال الفرنسي بسبب غطرسته.

ما يتكرّر اليوم أمامنا في فلسطين المحتلة، نسخة مشابهة لما عايشه الجزائريون في فترة الاستعمارية، ويمكن فقط أن نشاهد كيف خنق الاحتلال قطاع غزة وقطع عنها الأوكسيجين لأكثر من 17 عامًا، فكانت النتيجة أن اخترع المقاومون أجنحة وحجبوا عن المحتلين ضوء الشمس.