26-أكتوبر-2023
 (الصورة: Getty) العلم الجزائري والفلسطيني في أحد الأحياء الفرنسي

23 سنة وبضعة أيّام تمرّ على هذه الحادِثة، وكأنّ  تفاصيلها وقعت يوم أمس، بل هي أقرب بكثير من اليوم، لأنها تلخّص كل شيء عن روابط إنسانية بين الجزائر وفلسطين لا يمكن اختزالها في سطور، إذ تذكّرنا بها الحرب على غزّة ويعيدنا الفلسطينيون المقاومون للاحتلال إلى أنها روابط أقوى وأكبر.

أخذ الأمر مدة طويلة لفهم درس فلسطيني لم يكن يتسنى لي أن أفهمه إلاّ عند مشاهدة الجرائم كل يوم في حقّ الأبرياء العزل

عنوان الدّرس: "حفنة من التّراب وكوفية ومصحف وزربية صلاة وعلم فلسطين موشح بصورة القدس"، ذلك كله ما تركته عائلة أبو دراز هنا من ذكراها في الجزائر.

موعد هذا الدّرس كان في شهر تموز/جويلية 1999، حينما ودّع آخر أفرادها الجزائر، في ذلك اليومي الصيفي الحارّ والمفعم بمشاعر الفراق والغربة والفرحة، فهم يفارقون بلد المليون شهيد، بعد أن قضوا فيها سنوات وأيام مرت كالبرق، بالضّبط في منطقة "ذراع بن خدة" بولاية تيزي وزو، وسط الجزائر، وفرحة للقاء غزّة مجددًا.

تركوا في الجزائر حفنة من تراب أرض غزّة كذكرى وقليل من الحصى، لأنّهم يعلمون جليًا أن الأصل هو الأرض والعزّ كله في الأرض، والقوة كلّها تكمن في الأرض، والرّفعة كلها في الأرض، والكرامة هي الأرض، والذهاب والعودة سيكون من وإلى الأرض، وأي أرض؟

تركت العائلة مصحفًا كانت الوالدة تقرأ منه وردها اليومي بعد كل صلاة، وهو مصحف متوسط الحجم، جلبته معها من فلسطين قبل الدخول للجزائر، حاله حال زربية الصلاة أيضًا والراية الفلسطينية.

في هذه الأيام، تبقى الكوفية الفلسطينية حاضِرة في الأوساط العربية والإسلامية، فهي رمز فلسطين الوطني، واكتسبت شعبيتها كرمز للمقاومة.

وها هي اليوم تبقى تلك الكوفية اليوم وسيلة تستخدم في التعبير عن التضامن في الجزائر وغيرها من الدول مع الفلسطينيين.

أخذ الأمر مدة طويلة لفهم درس فلسطيني لم يكن يتسنى لي أن أفهمه إلاّ عند مشاهدة الجرائم كل يوم في حقّ الأبرياء العزل، وتلك المذبحة التي تقترفها آلة الاحتلال في حقّ الفلسطينيين في غزة الصامدة.

أخيرًا.. فهمت الدرس الغزاوي، فلكل فلسطيني قصة وحكاية ورواية وذكرى، وربما الكثير من الجزائريين يتشاركون في مثل هذه الذكرى أو الهدية التي تحمل دلالاتها خلفية قوية وارتباطها بكل شبر من فلسطين.

يتجدّد العهد وتستعيد الصور بعض الحياة، وتوقِظ المشاهد قليلًا من الذكرى النّائمة طيلة هذه السنوات، فتعيد فتح الجرح مرة ومرتين وثلاث ومرات عدة، ويستفيق الألم وتعيد المعاناة رسم القليل من الأمل، بالبحث عن وضع الأحبّة في فلسطين وعائلاتهم وأحبابهم أينما كانوا.

الدم سقى كل أرض فلسطين ورواها، وأخرج صوتها رغم الطمس والتشويه خارج حدود رسمتها الآلة الاستعمارية، وتربتها سافرت من مكان لآخر، وهي موجودة في قلب كل جزائري، يعرف معنى كل كلمة عند شعب سلب منه هذا الحقّ لسنين طويلة، فكل الرموز بالنسبة للجزائريين هي عناوين كبرى لكل ما قيل وما يقال اليوم وما سترويه الأجيال القادمة.

هكذا كانت لحظات الوداع، كل هذه الرمزية التي تحملها ذكريات هذه العائلة في الجزائر وغيرها كثيرون مملوءة بعبارات الوعي بوجود الفلسطيني أينما ذهب، إلا أن ارتباطه بالأرض لا يحتاج إلى إثباتات، فهو كل يوم يدافع عن أرضه وعرضه بطريقته الخاصة، وكل حسب قدرته واستطاعته، فوسط تلك النيران التي لم ترحم شيخا ولا امرأة ولا طفلا، تبقى الكوفية وحدها التي تميز الفلسطينيين عن غيرهم، ونصرة القضية تحتاج أكثر من درس.

الدّرس الفلسطيني قويّ جدًا تارة وليّن بعض الشيء تارة أخرى، فدائمًا ما يكون الفهم الكلّي للأحداث أمر قاصر على العقل البشري، واستيعابه يحتاج إلى جمع أطراف القصّة وتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، وأحيانا يتطلب الفهم إلى الكثير من الألم، ورؤية الصورة بشكل أوسع وأوضح، ويأتي بالتدرج وربما ما زال يُخفي اليوم الكثير من العِبَر.

قيمة القضية الفلسطينية وازنة في الجزائر، فبالإضافة إلى هذا الإرث العظيم الذي كسبناه من خلال هذا الدّرس، العديد من العائلات الفلسطينية تركت وراءها في الجزائر بعض أجزاءها نرويها اليوم من خلال ذاكرتنا الجماعية.

الدم سقى كل أرض فلسطين ورواها، وأخرج صوتها رغم الطمس والتشويه خارج حدود رسمتها الآلة الاستعمارية

بداية من ذكريات الطفولة والعلاقات الاجتماعية في المدارس والجامعات ومع الجيران، فالكثير من الفلسطينيين مرُّوا على المؤسّسات التّربوية والجامعية وساهموا في تعليم أجيال في الجزائر، فحقّهم اليوم علينا أكبر من كل عبارات التّضامن، ولا يعادل التعبير عن المواساة والوقوف إلى جانبهم من بلد الشهداء المليون ونصف المليون إلى بلد السلام والزيتون، إلا الوقفة الثابتة ونصرة الحقّ بأيّ تكلفة.