02-يناير-2023
عملية تفجير سيارة محمد بودية بفرنسا (الصورة: Getty)

عملية تفجير سيارة محمد بودية بفرنسا (الصورة: Getty)

بتاريخ 26 حزيران/جوان سنة 1973 في شارع سانت جاك بباريس، سقط محمد بودية الفنان والثوري الجزائري نتيجة عملية غادرة أعدها كوماندوس وفريق استخبارات الموساد الإسرائيلي، حيث لغموا كرسي القيادة بسيارته بقنبلة مُتحكم فيها عن بعد، وكانت تقنيات العملية لا تترك أية فرصة لإفلات محمد بودية من الموت.

سخّرت الوحدة العسكرية التابعة للاحتلال الإسرائيلي كافة العتاد اللوجستيكي لتنفيذ جريمتها ضد محمد بودية والقريبين منه

سخّرت الوحدة العسكرية التابعة للاحتلال الإسرائيلي، كافة العتاد اللوجستيكي لتنفيذ جريمتها، حيث باشرت سلسلة من الاغتيالات مست شخصيات قريبة من محمد بودية على غرار محمد الهمشري السياسي الفلسطيني، وممثل منظمة التحرير الفلسطينية بفرنسا، حيث استُهدف بباريس في 8 كانون الأول/ديسمبر سنة 1972  بوضع قنبلة متفجرة تحت طاولة الهاتف، ومات متأثرًا بإصابته بعد شهر في الـ 10 من كانون الثاني/جانفي سنة 1973.

الفنان الثائر

لقد اجتمعت في محمد بودية مزيا كثيرة، فقد كان فنانًا وشاعرًا وسياسيًا ومناضلًا، منذ فجر الثورة التحق بفيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني ثم انظم إلى المسرح الوطني بعد الاستقلال، عرف بإيمانه والتزامه بالقضايا الإنسانية وارتباطه بالحركات الثورية التحررية جعلته مدافعًا عن الإنسان المقهور، خصوصًا بعد قرّر مغادرة الجزائر في 19 حزيران/جانفي 1965، إذ شكلت القضية الفلسطينية أهم القضايا الكفاحية والنضالية في مسيرة محمد بودية.

ذو الألف وجه

ولد محمد بودية في 24 فبراير/ شباط سنة 1932 بحي القصبة في الجزائر العاصمة، تلقى تعلميه في المدرسة الابتدائية، وانتقل بعدها إلى المركز الجهوي للفنون الدرامية بالعاصمة، سنتي 1953-1955 التحق بالخدمة العسكرية ثم اشتغل ممثلَا في البث الإذاعي والتلفزيون.

محمد بودية

في سنة 1956 استقر بودية في فرنسا وانظم إلى فرقة مسرحية جزائرية كانت تنشط على الأراضي الفرنسية، خصوصًا في العاصمة باريس، وفي سنة 1957 أرسلته قيادة الثورة إلى مرسيليا من أجل إعادة بعث العمل التنظيمي والثوري هناك، وقد أشرف بودية على خلية مرسيليا التي كانت تضم حوالي 3000 مناضل، كُلف بعديد من العمليات من جمع الأموال والتخريب، ولعل أشهرها عملية تفجير أنابيب النفط في مرسيليا في 25 آب/أوت سنة 1958.

في 9 أيلول/سبتمبر سنة 1958 ألقي عليه القبض من طرف الشرطة الفرنسية، وحكم عليه بـ20 سنة سجنًا مع الأعمال الشاقة، غير أن تكوينه السياسي والعسكري وفطنته مكنته من الفرار من السجن وفي 10 سبتمبر/ أيلول سنة 1961 التحق بتونس وانظم إلى الفرقة المسرحية التابعة لجبهة التحرير الوطني، إلى غاية عام 1963 حيث عين كأول مدير المسرح الوطني الجزائري بعد الاستقلال.

محمد بودية

المسرح الملتزم والقضية

لقد انعكس تعيين محمد بودية مديرًا على المسرح الوطني الجزائري وخلق حركية ثقافية ومسرحية نشطة جدًا، تجسدت معالمه في بعث الفن والمسرح الملتزم، المؤمن بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية، حيث كان بودية مشبعًا بالأفكار الاشتراكية والثورية والقيم الكونية والإنسانية، وصاحب مواقف شجاعة، فقد ظل مناضلًا من أجل استقلال الشعوب المستعمرة، ومناصرًا للحركات التحررية، وقد خصص في هذا السياق، مداخيل موسم مسرحي كامل عام 1964 للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
اهتم بودية بعامل التكوين وتطوير الأداء التمثيلي والفني للفنانين، فعمد إلى تبادل الخبرات والتجارب مع المسرح الكوبي واستحضر أساتذة ومختصين من أجل ترقية العمل المسرحي.

جاءت لحظة ارتباطه الوثيق والمباشر والحركي بالقضية الفلسطينية، خلال زيارة قادته إلى دولة كوبا، حيث التقى وديع حداد المسؤول العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفي مطلع السبعينات وضع خبرته في الكفاح بالأراضي الفرنسية في خدمة الكفاح الفلسطيني، وعين مكلفًا بالعمليات الخاصة والتنسيق العملياتي للجبهة الشعبية في أوروبا، تحت كناية "أبو ضياء".

شكل محمد بودية أحد الهواجس الأمنية الأكثر اهتمامًا للمخابرات الصهيونية، نظير قدرته على النشاط والتمويه والتخفي، وحسه الأمني الرفيع، خصوصًا بعد الكشف عن محاولة إدخال متفجرات عبر تقنية تجفيفها في الملابس أو دسها في جهاز الراديو وإرسال بعض النشطاء من أوروبا إلى الدولة المحتلة قصد القيام بأعمال ثورية كان بودية وراءها.

محمد بودية

لقد شجع عمل بودية الميداني في مجال المسرح الملتزم والتنسيق بين التيارات اليسارية الثورية من خلال تنقلاته بين العواصم وتجنيد العنصر الأوروبي من أجل دعم ومساندة القضية الفلسطينية، إذربط  بين مختلف التيارات اليسارية في أوروبا واليابان وأميركا اللاتينية على غرار ثوار الباسك والألوية الحمراء الإيطالية، وجعلها تصب في مصلحة القضية الجوهرية وهي القضية الفلسطينية.

ومن أبرز العمليات التي شارك فيها هي عملية ميونخ أثناء الأولمبياد سنة 1972، حيث كُلف بإيواء أفراد الكوماندوس الفلسطيني وبعد العملية قام بتهريب الفريق وتوفير المأمن لهم، واستهدفت العملية رياضيين إسرائيليين مشاركين في الأولومبياد.

لم يكن بودية مطاردًا من طرف الموساد، بل كان يقوم بدور ملاحقة رجاله في فرنسا وإسبانيا وينفذ سلسلة اغتيالات ضدهم، حيث شاركت خلية بودية في القضاء على بعض عناصر الموساد بفرنسا، وإسبانيا خاصة، وانتقل من دور "الطريدة" إلى دور "المفترس" في علاقته بجهاز الاستخبارات الإسرائيلي.

محمد بودية

اغتياله 

بعد عملية ميونخ، تشكلت السلطة المحتلة بقيادة غولدا مايير والتي جمعت القيادات الأمنية والعسكرية والمدنية، وتم تكوين وحدة خاصة رئيسها مايك هراري وقرروا الانتقام وإعدام كل من شاركوا في عملية ميونيخ.

قامت الوحدة باغتيال محمود الهمشري ووائل زعيتر وباسل الكبيسي، وأدرك بودية أنه محل استهداف ورصد من طرف وحدة عسكرية وأمنية خاصة صهيونية، ليتم رصده في شقة رفقة صديقته ويتم زرع لغم تحت سيارته "رنو 16" زرقاء اللون.

كان بودية ثوريًا كونيًا لا يؤمن بالبعد الحدودي للثورات مادام هناك قهر وظلم

توفي محمد بودية في ريعان شبابه ولم يتجاوز 41 سنة، وقد توقف قدره في منتصف الطريق من أجل الحرية والكرامة والعدالة، لقد كان بودية ثوريًا كونيًا لا يؤمن بالبعد الحدودي للثورات مادام هناك قهر وظلم.