15-نوفمبر-2022
(مشهد من الفيلم)

مشهد من فيلم العربي (فيسبوك/الترا جزائر)

رفضت الرقابة في الجزائر طيلة  أربع سنوات عرض فيلم الشهيد العربي في قاعات السينما؛ بحجة تضمنه بعض المشاهد المسيئة لهذه الشخصية التاريخية البارزة، لكنها تتجه اليوم أخيرًا إلى إعطاء الضوء الأخضر للمخرج بشير درايس ليقدم فيلمه الذي يروي سيرة أحد قادة الثورة الجزائرية أمام الجمهور.

بدأ الخلاف حول فيلم العربي بن مهيدي عندما طلبت لجنة المشاهدة التابعة لوزارة المجاهدين من المخرج بشير درايس حذف مشاهد من الفيلم

بعد فترة شد وجذب عاشه الفيلم بسبب اختلاف وجهات النظر بين الحكومة ممثلة في وزارتي المجاهدين والثقافة وصاحب هذا العمل السينمائي التاريخي، الذي قال عنه في 2018، إنه يريد أن يقدم الشهيد البطل في الصورة التي يقتنع بها هو، حتى وإن كانت لا تروق للحكومة.

ورغم الحرية التي كانت تسمح بها عادة الحكومة الجزائرية لما يتعلّق الأمر بالأفلام السينمائية، إلا أنها لم تسمح في 2018 بعرض فيلم الشهيد العربي بن مهيدي، بسبب ارتباط بطل هذا العمل الفني بتاريخ الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي الذي تبقى بعض تفاصيله معقدة إلى اليوم، رغم مرور ستين عامًا من استقلال الجزائر وطرد الاحتلال.

خلاف تاريخي

في شهر آذار/مارس 2015، أعطيت إشارة انطلاق تصوير الفيلم التاريخي العربي بن مهيدي الذي يسلط الضوء على السيرة الذاتية لأحد أبطال ثورة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي.

 والعربي بن مهيدي (1923- 1957) أحد أيقونات الثورة الجزائرية ومفجريها، فهو صاحب مقولة "ارموا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"، واستشهد تحت التعذيب الذي قام به الجنرال بول أوسيريس، والذي اعترف في تصريحات نشرت في 2001 بارتكابه ورفاقه أبشع أنواع التعذيب في حقّ بن مهيدي، الذي قال فيه الجنرال الفرنسي مارسيل بيجار  "لو كان عندي ثلاثة من أمثال العربي بن مهيدي لاحتللت العالم".

وعرفت عملية انطلاق التصوير حضورًا رسميًا لوزراء الثقافة والمجاهدين والاتصال، بالنظر إلى أهمية الشخصية التي تدور حولها أحداث الفيلم بالنسبة للجزائريين، والتي جعلت الحكومة تدعمه بـ520 مليون دينار، لكن هذا الود بين الحكومة والمخرج بشير درايس الذي ميز بداية التصوير تحول إلى خصام خرج إلى الإعلام بعد نهاية التصوير، وعرض النسخة الأولى من الفيلم على وزارتي المجاهدين والثقافة.

وبدأ الخلاف عندما طلبت لجنة المشاهدة التابعة لوزارة المجاهدين في سنة 2018، من المخرج بشير درايس حذف مشاهد من الفيلم الذي كلفه ميزانية قاربت 700 مليون دينار (5.8 مليون دولار) ساهمت الوزارة في جزءٍ منها.

وبرّرت اللجنة التي تمنع الفيلم من العرض حتى الآن بتضمن المشاهد المعنية بـ"الحذف" مغالطات، وعدم مطابقته مضمون السيناريو المقدم لها في البداية لإعطائها الموافقة على تصوير الفيلم.

ومن بين المشاهد التي اعترضت عليها وزارة المجاهدين تلك المتعلقة بالخلاف الذي كان بين الرئيس الراحل أحمد بن بلة والشهيد العربي بن مهيدي.

وتمثّل الخلاف أيضًا حول ما اعتبره درايس تدخلا في رؤيته السينمائية، وهي الحقّ المحفوظ لكل مخرج، إذ اعترضت الوزارة على عدم مشاهد للمواجهات المسلحة في الفيلم، وعدم الحديث عن جرم الاستعمار الفرنسي في أحداث 8 أيار/ماي 1945 التي ذهب ضحيتها نحو 45 ألف جزائري في مدن سطيف وخراطةوقالمة شرق الجزائر، إضافة إلى اعتراضها على افتقار الفيلم لمشاهد تعذيب كثيرة تنقل ما تعرّض له البطل العربي بن مهيدي من ظلم واعتداء.

وتضمنت ملاحظات وزارة المجاهدين حذف المخرج لنشيدي "قسمًا" (السلام الوطني الجزائري) و"من جبالنا"، ومخالفة النص الأصلي للسيناريو الذي تم فيه الاتفاق مسبقًا مع الوزارة.

ورغم قبوله لبعض التحفظات المقدمة من وزارة المجاهدين وذلك بعقده عدة جلسات معه في 2018، بلغت خمس لقاءات على الأقل، إلا أن بشير درايس لم يتردّد في التعبير عن رفضه للتدخل الكبير للوزارة في عمل فني من المفروض أن ينقل نظرة المخرج الخاصة ورؤيته الفنية للموضوع المعني بالمعالجة في الفيلم حتى ولو كان تاريخيًا.

إسهامات وزارتي الثقافة والمجاهدين في الفيلم، فرضت على بشير درايس الالتزام بسيناريو الفيلم المتفق عليه في العقد وملاحظات لجنة المشاهدة فيما بعد، وهو بحسب متابعين، يفرض عليه الالتزام بالعقد الموقع بينه وبين الجهة الممولة، وأن حرية المخرج تفرضها استقلاليته في تمويل الفيلم.

وكان بشير درايس قد أعلن فيما سبق عن إنتاج فيلم العربي بين مهيدي بتمويل أجنبي، وهو ما أجبر وزارة المجاهدين على التدخل لتمويل الفيلم، خوفًا من تأثير الجهة الممولة على مسارات السيناريو.

فرصة جديدة

بعد الجفاء الذي امتد لسنوات بين وزارة المجاهدين وبشير درايس، وكانت من أسبابه أيضًا القيود التي فرضتها جائحة كورونا، عاد الوصال هذا العام بين الطرفين، وهو ما يبعث الأمل بمشاهدة فيلم العربي بن مهيدي في قاعات السينما العام المقبل.

وقال بشير درايس لـ"الترا جزائر"، إنه وصل إلى تفاهمات واسعة مع وزارة المجاهدين بشأن محتوى فيلم العربي بن مهيدي، حيث استأنفت جلسات المفاوضات بين الطرفين، والتي عقدت إحداها منذ أيام، مشيرًا إلى أن هذه الجلسات التي لم تنته بعد مكنت من تحقيق تقارب في الرؤى يفتح المجال لإمكانية عرض الفيلم في قاعات السينما.

وأوضح بشير درايس إلى أنه وصل مع وزارة المجاهدين إلى اتفاق مبدئي حول النسخة التي ستقدم للجمهور، وذلك بعد أن عادت المياه إلى مجاريها مع الوزارة.

وبشأن الخلاف الذي كان قائمًا مع وزارة الثقافة خلال فترة الوزير الأسبق عز الدين ميهوبي، أكد درايس أن هذه المسألة أصبحت من الماضي، ولا توجد أي تحفظات لوزارة الثقافة على مضمون الفيلم، والأمر ينطبق أيضًا على عائلة الشهيد العربي بلمهيدي، مبينًا أن التحفظات الموجودة صادرة فقط عن وزارة المجاهدين.

مجال محدود

رغم تحقيق تقدم في المفاوضات بين بشير درايس ووزارة المجاهدين، إلا أن مجال المناورة لكسب مخرج فيلم العربي بن مهيدي نقاطا في هذه المفاوضات تظل قليلة رغم الخطاب الرسمي الجديد الذي يتحدث عن تشجيع الإنتاج السينمائي في البلاد، والصادر من الرئيس عبد المجيد تبون شخصيًا.

ويعود الأمر في الأساس إلى مساهمة الحكومة بأكبر قدر من المال في إنتاج الفيلم، بالنظر إلى أنها كانت منذ البداية لا تريد أن يكون للمخرج مجالًا واسعًا للتصرف في الشكل الذي سيقدم به العربي بن مهيدي، بالنظر إلى أنها جعلته يضطر إلى الاستعانة بها، بعد أن رفضت سابقا إعطاءه رخصة إنتاج الفيلم بأمواله الخاصة بالشراكة مع منتج إسباني.

وتعتمد وزارة المجاهدين في فرض منطقها في إنتاج الأفلام  التاريخية من قانون السينما 17 شباط/فيفري 2011 الذي يعطيها تحديد محتوى المنتوج السينمائي التاريخي.

وتنصّ المادة الثالثة من هذا القانون أن النشاط السينمائي يهدف بشكل خاص إلى" إبراز تراثنا التاريخي وكذلك إظهار بطولات المقاومة الوطنية عبر التاريخ".

أما المادة الرابعة فتؤكّد بشكل صريح أنه "يخضع إنتاج، وتوزيع، واستغلال الأفلام، ونشرها وتصوريها إلى تصريح مسبق يصدره الوزير المسئول عن الثقافة".

وجاء في  المادة الخامسة من القانون أنه "يحظر تمويل، وإنتاج واستغلال أي إنتاج سينمائي يسيء للأديان أو لحرب التحرير الوطنية، رموزها وتاريخها، أو يمجد الاستعمار أو يعرض للخطر النظام العام أو الوحدة الوطنية أو يحرض على الكراهية، والعنف والعنصرية".

خروج المفاوضات الجديدة بين بشير درايس والوصاية بقرار عرض الفيلم، مرتبط بنتائج لجنة المشاهدة

ويظهر من هذه المادة أن الإساءة  للثورة التحريرية في هذا القانون مطلقة، وغير محددة بوضعيات يمكن للمخرج أو المنتج تجنبها، وبالتالي فإن تدخل الحكومة في مضمون فيلم العربي بن مهيدي  يبقى ممكنًا إذا رأت وزارة المجاهدين أنه يحمل إساءة وفق نظرتها، وبالتالي فإن خروج المفاوضات الجديدة بين بشير درايس والوصاية بقرار عرض الفيلم، مرتبط بنتائج لجنة المشاهدة التي وافقت على عرض الفيلم.