13-مايو-2023
صورة من ولاية تلمسان (الصورة: Getty)

صورة من ولاية تلمسان (الصورة: Getty)

سكنات بلا هوية وأحياء حمراء بسبب طغيان الآجر على منظرها، وعمارات وشقق سكنية غير مكتملة البناء تنمو بين سنة وأخرى، كلها أوصاف تطلق عن بنايات في الجزائر تكدّست جنبًا إلى جنب في بعض الأحياء، وإن كان البعض يرى أن بناء تلك المساكن هو أهم خطوة بالنسبة لكثير من الأسر بحثًا عن مساحة أرحب والتمتّع بحرية أكبر بعيدًا عن شقق عمارات لا ترقى لطموح كثيرين، إلا أن آخرين يشتكون من كونهم فقدوا الحياة التي كانوا يهرعون وراءها، ففاتهم قطار العيش في انتظار الانتهاء من هذا البناء.

اكتشف عمي موسى (75 سنة) أن ما شيّده لسنوات يعد قطعة من حياته وعمره لرؤية بناء من أربعة طوابق يتحول إلى "غبار"، فالأبناء تفرّقوا وكل واحد فيهم صنع مجده وحياته وسكنه

في البدء كان السكن هو أكبر إنجاز  بالنسبة له، فسعى إلى تشييده حجرًا حجرًا على حساب احتياجاته ورفاهيته، وكان تشييد الطوابق أهم من أن يعيش حياته التي مضى منها أزيد من ربع قرن دون أن ينتبه إلى ما خلفه وراءه

نعم اكتشف عمي موسى (75 سنة) أن ما شيّده في تلك الفترة الزمنية يعد قطعة من حياته وجهده وعرق جبينه وعمره لرؤية بناء من أربعة طوابق يتحول إلى "غبار"، فالأبناء تفرّقوا وكل واحد فيهم صنع مجده وحياته وسكنه، وهناك من استفاد من سكنات تهبها الدولة بالتقسيط، بينما هذا الصرح السكاني المسمى "فيلا" مجرد مستودع في الطابق الأرضي وطوابق ثلاثة أو أربعة متكوّنة من غرف وفضاءات للمعيشة، استأنست بها الفئران وأخذت العنكبوت نصيبها من المكان في كل زاوية من زواياه.. فمن يسكنه اليوم؟ هل سيبيعه ويقسّم التركية قبل موته أم يتركه للزمن يفعل به ما يريد؟

كان هذه الأسئلة الحارقة طُرحت وقتها بتاريخ الفاتح من ديسمبر من العام 2018، تاريخ حفرته حقيقة الواقع في الذاكرة وفي الوجه أيضًا، لقد تغيّر عمي موسى كثيرًا منذ ذلك التاريخ، بعدما استفاق على مرارة ما توصل إليه وقد شارف على العقد الثامن، حقيقة مرة، تردد على مسامعه كل صباح: "ماذا لو استثمرت في بناء أولادك أفضل؟ وربما كانوا اليوم يقاسمونك البيت؟ لقد التفت إلى الوراء ليجد أبناءه كبروا وأغلبهم تزوجوا واختاروا السكن في مكان آخر وربما منازل يدفعون مقابلها أقساطًا، ليشعروا بكينونتهم وحرّيتهم ويتخلصون من الناهي والآمر والعيش في ضوضاء العائلة الممتدة المكونة من الجد والجدة والأولاد والأحفاد واللقاءات العائلية المتكررة في نهاية كل أسبوع وفي كل مناسبة.. نعم هذه هي الحقيقة.

"قبْر الدنيا"

قد يرى البعض حقيقة معاكسة لما أدلى به محدث "الترا جزائر"، لكن في المجتمع الجزائري طرأت تغييرات كثيرة طالت العائلة الكبيرة، بعيدًا عن هذه القصّة،  إذ أن بعض العائلات الجزائرية ترى في بناء سكن من عدة طوابق لفائدة الأولاد عبارة عن: "الحُلم الأكبر"، بل كما يسميه كثيرون باللهجة الجزائرية: "قبْر الدنيا" أي أنه أهم شيء في الدنيا والمآل الأخير في الحياة، وهنا تشير السيدة نورية سعداوي أستاذة علم اجتماع بجامعة قسنطينة، بأن كثيرين تسيطر عليهم فكرة امتلاك قطعة أرض وتشييد مسكن عليها، فهي بالنسبة لهم "الضمانة الوحيدة في الحياة".

وأوضحت بأن "بناء سكن من وجهة نظر كثير من الجزائريين وخصوصًا في فترة ما بعد الاستقلال كان حلمهم الأكبر والمُنجز الأهم الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد تحصيل العلم بالنّسبة للأبناء وتدريسهم".

تشدد الأستاذة سعداوي أن الفكرة العامة لدى البعض، تتمثل في بناء سكن ينسجم مع عدد أفراد الأسرة، إذ يحلم الأبوان في تعويض ما فاتهم من حياتهم، بتحقيق ذلك الحلم وشراء قطعة أرض وتشييد مسكن يجمع الأسرة، معتبرين ذلك: "سنّة اجتماعية" على حدّ تعبيرها.

وتعتبر هذه السُنّة "توليفة فكرية استشرت بين الآباء"، بل وأصبح من يترك أبناءه دون سقف يأويهم وبيت واسع، يوصف حسب محدثة " الترا جزائر" بـ"العار الاجتماعي" أو يشار إليه بأنه "أهمل واجبه الأسري وتركهم بلا غطاء" وحتى وإن كانوا يملكون جزءًا في بيت العائلة الكبيرة، إلا أن الانفصال ضروري وبناء سكن أوسع من المهمات الواجبة، وفي المقابل من ذلك، فمن يقوم بهذا المنجز يصبح مفخرة بين أقرانه من العائلة الكبرى وجيرانه وأصدقائه.

التغيير

بمجرد بناء الطابق الأرضي ثم الأول فالثاني، يفكر الآباء في استغلال المكان الأرضي في التجارة والقيام بإتمام البناء ككل، موزّعين طوابقه على جميع أفراد الأسرة، وطبعًا يتطلب ذلك سنوات من الاستثمار والإنجاز خاصة إن كان رب البيت موظفًا.

في مقابل ذلك، فإن بناء بيت من هذا النوع وما أكثرهم في المدن الجزائرية يستنفد مالًا ويستنزف وقتًا وجهدًا وبنَّاءً ماهرًا ولواحق كل ذلك من عامل السِّباكة والنجارة وغيرهما، إلى غاية أن يتم إتمام المنجز الكبير، حتى ولو على حساب جماليته.

لكن في دائرة الحياة اليومية يغرق الآباء مع ظروفها المتغيّرة ويكبر الأبناء، ما يعني أنه ما يشكل لهم عقدة الاستمرار في متابعتهم أو الالتفات إلى مواجهة تحدياتهم، كل ذلك يستمر مع تغير الأحداث وتواتر تفاصيلها الصعبة، ويكتشف الأبوان أنهما أنجزا ما يمكنهما تقديمه للأبناء خاصة البيت، في مقابل مرارة باتت هي الواقع الحقيقي للعائلات وأنها أهملت الكثير من الاستمتاع بنجاحات الأبناء.

في هذا الخصوص، تقول السيدة حورية  (59 سنة) في حديث إلى "الترا جزائر" ،نحن نرى التضحيات من خُرم إبرة فقط، فالعالم الخارجي يُعطينا دروسًا لم نكتشفها إلاّ بعد مرور الزمن، معتبرة أن بناء بيت واسع ليس هو المهمة الأهم خصوصًا للأزواج الموظّفين، كما اعترفت بأنها ضيّعت الحياة وعاشت الأحداث فقط، في خضم التركيز على بناء شقّة سكنية من طابقين.

وفي ردها عن سؤال ماذا ضيَّعتِ بالتحديد؟ قالت: "نحن ضيّعنا أن نحيا الحياة بكل تفاصيلها وانهمكنا في بناء بيت لم نكمله إلا بعد عرق السنين الطويلة، لننظر إليه كإنجاز بينما كبر الأبناء وهاهم يبحثون عن الاستقلالية التامة، والانطلاق في حياتهم وتحقيق طموحاتهم وربّما الهجرة بعيدًا حتى عن هذا الوطن".

يشاهد العابرون فيلات كبيرة فاخرة وبنايات شاهقة مهجورة من دون ساكنين ولا استغلال، وتبقى كذلك لعدة سنوات دون أن يسكنها أحد،

في كثير من الأحياء السكنية، يقف العابرون على فيلات كبيرة فاخرة وبنايات شاهقة مهجورة من دون ساكنين ولا استغلال، وتبقى كذلك لعدة سنوات دون أن يسكنها أحد، وتعد أشهر القضايا التي تعالجها المحاكم هي صراع الورثة على ما يتركه الآباء من عقارات ومنازل وأراض.