08-مايو-2023
بيت ضيافة تقليدي في الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

بيت ضيافة تقليدي في الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

تتحسّس لالة باية مكانها المفضّل لها كل صباح، وهو زاوية من تلك المساحة المترامية الأرطاف في بيت العائلة القديم، تجلس على بساط مصنوع باليد مفروش على الأرض، وهناك مائدة خشبية عليها صينية من نحاس أصفر، حيث تعيد بمفردها شريط ذكرياتها في " وَسْطْ الدَّار" وهي ترتشف فنجان قهوة بماء الورد المقطر، وكأن أحبابها مازالوا على قيد الحياة، تتقاسم معهم رشفة القهوة، وتهمس بشفتيها وكأنها تتحدّث إليهم ببعض الجمل والكلمات، وتستأنس بهم في وحشتها ووحدتها.

تغيب فكرة "وَسْط الدَّار" أحيانًا عن المخيلة الجزائرية، ولا يعود ذكرها إلا في جلسات العائلات في الأعياد أو في مناسبة زيارة الأهل لدور الأجداد

كأن السيّدة لالة باية في خلوتها تلك تقول، وأنتم ترتشفون القهوة في صباح كل يوم سواءً في المطبخ أو في قاعة الجلوس أو حتى في مقهى من مقاهي الحي أو بالقرب من مكان العمل، سواءً بالكعك أو بقطعة خبز مع قليل من الزبدة والمعجون أو بقطعة " كسرة" ساخنة أو بحبة "كرواسون"، تذكروا أنكم تختزلون الزمن واللحظة الجميلة من يوميات الحياة النابضة بالحركة والرحمة والرأفة والقصص العابرة للأجيال، بعدما أهملنا "وَسْطْ الدَّار" الذي أسسته الأنامل والعائلات في زمن كان البيت يقذف بقصّصه الجميلة إلى تلك المساحة المقتطعة من فضاء البيوت الجزائرية، وتحمل خصوصية متفرّدة.. فهل بقي منها شيء؟

بيت جزائري

تغيب فكرة "وَسْط الدَّار" أحيانًا عن المخيلة الجزائرية، ولا يعود ذكرها إلا في جلسات العائلات في الأعياد أو في مناسبة زيارة الأهل لدور الأجداد، خاصّة في المدن القديمة والقرى، ودون ذلك بدأت الفكرة تفقد بريقها وتتلاشى أمام زيارة الإسمنت والآجر للمنازل الجزائرية والعمارات الفارهة التي غيبت الحس الجمالي ولمّة الروح، فمع مرور الزمن وحتى في حديث العائلات الجزائرية، ما زال الحنين إلى "وَسْطْ الدَّار" يصيبها مرة على مرة وخلال مناسبة من المناسبات، كأمنية يتمناها المرء لعودة تلك اللمة ومشاهد اجتماع العائلة حول قهوة صباحية أو مسائية.

رصيد لا ينضب

تستأنس لالة باية (82 سنة) بـ "وَسْطْ الدَّار" الذي لازالت تحافظ عليه في بيتها القديم، بأعالي مدينة زغاية بولاية ميلة شرق الجزائر، فهنا "أنجت أبناءها السبعة وشهد البيت ميلاد أحفادها أيضًا، وهنا ترعرع الأطفال ولعبوا، تجمعوا وضحكوا بين جنباته وبكوا واحتفلوا ونظموا ولائم الأعراس والأحزان أيضًا، إنه "البنك الإنساني" الذي تخبِّئ فيه ماضيها بعناية فائقة، وتعود إليه كلما فقدت رصيد الأحاسيس وجرّها الحنين إلى سابق عهدها كبنت صغيرة وشابة ثم زوجة فأم فجدة، إنه "خزان الذكريات " على حدّ قولها.

هذا المكان، يشبه إلى حد بعيد صندوق العجائب أو مغارة علي بابا، فهو المكان الوحيد الذي يمكنه أن يشفي الجراح ويلم شتات العائلة، إنه مكمن الراحة وإطلاق العنان لقراءة الماضي من وراء كل جدار وحجرة وشجرة ووردة، كما تقول لالة باية لـ"الترا جزائر" معتبرة قصة فضاءها السابق أو " وسط دار بيت أجدادها أجمل وأفضل الأمكنة التي تربت فيها، في نظرها " كل شيء يهون أمامها عندما تتذكر تجمعات العائلة في الأعياد والمناسبات".

بيت جزائري

 منذ زمن طويل، وحول مائدة متوسطة الحجم مصنوعة من الخشب، استطاع "وَسْطْ الدَّار" جمع أفراد العائلة، لكنه يملك جمالية أخرى، بفضل بعض الأثاث التقليدي ومختلف المرافق المصاحبة له، والتي لا تتزعزع منه، مثل الأشجار الباسقة إن كانت مساحته كبيرة، فهو يزّين عادة  بالورد بمختلف أنواعه، وخاصة الياسمين، فضلًا عن أشجار الليمون ونباتات العطرشية والنعناع وغيرها ما تعطي للمكان جمالًا طبيعيًا منقطع النظير.

كما لا يخلو هذا الفضاء عادة من بئر أو حنفية الماء التي تروي العطشان، أو مكان الغسيل، كأداة من أدوات الرفاهية الممزوجة بالتقاليد، وغالبًا ما يتم تنظيفه كل صباح ثم وضع زربية وأفرشة للجلوس على الأرض.

ومعظم هذه المكونات، تعطي لـ "وَسْطْ الدَّار" الكثير من المعاني ويحي معه الروح، كثير ما يحن إليها من تربوا في مثل هذه البيوت والمنتشرة أساسًا في المدن الجزائرية القديمة.

هذه السمات باتت في يومنا هذا نوعًا من أنواع التقليد، اندثرت مع مرور الزمن، بسبب التطور الذي لامس البناء بشكل عام، كما تذكر السيدة غنية بوساحة وهي مختصة في الديكور المنزلي؛ قائلة إن البعض يعتبرون " وَسْطْ الدَّار" كما كانت وظيفته في السابق هو نفسه ما يطلق عليه في البيوت العصرية بـ"الرَّدهة" وهو أوسع مكان في البيت ويكون مدخله الذي تفتح عليه حجراته وممراته.

الحياة هنا..

في الغالب، فإن مساحة الرّدهة في العمران أوسع من مختلف غرف البيت المنزلي، كما تقول محدثة " الترا جزائر"، حيث يعبر من خلالها ساكنة البيت نحو مختلف فضاءاته الأخرى كالغرف والمطبخ، وغالبًا ما تكون عبارة عن فناء داخلي لكنه بمساحة معتبرة، بينما الفارق بين " وَسْطْ الدَّار" والردهة أن الأول مفتوح سقفه للسماء وتحيط به الأشجار والنباتات، بينما الثانية فهي غالبًا مغطاة في علاقة مع المنازل الحديثة.

بيت جزائري

تنبض البيوت القديمة بالحياة، فوسط الدار وحده له وظائف مادية ورمزية تضمن اندماج الأفراد وتماسك المجتمع، كما يقول الباحث في علم الاجتماع كريم سلحاني، فهو الذي درس عديد المدن الجزائرية من خلال تخصصه في الأنثروبولوجيا، معتبرًا المجال السكني العائلي يحمل بين جنباته توليفة إنسانية عميقة المغزى والمعنى والأثر أيضًا.

ودون مبالغة في الحديث عن مرحلة ما قبل البناء، فالمخطط الأساسي لأي منزل هو مرتبط بعادات وتقاليد المنطقة، أو بالأحرى "يحمل خصاص مورفولوجية أي الشكل العام للمنزل ونسيجه الداخلي وتركيبته وتخطيطه ونشاط سكانه وحركتهم".

على خلاف الغرف جميعها، يتميز "وَسْطْ الدَّار" عن بقية الغرف ببنائه وتجهيزه التقليدي، فهو حسب الأستاذ سلحاني في إفادته لـ"الترا جزائر" الفضاء المفتوح على كل شيء والمغلق على العالم الخارجي، لكنه محضور على الغرباء والرجال لأنه مكان غالبًا ما تتحرك فيه النساء بكل حريتهن، بعيدًا عن الأعين، كما يعد أيضًا صورة من صور شخصية السكان المقيمين فيه ومن عبروا على المكان قبل عقود من الزمن.

بين البارح واليوم..

اليوم، تُبنى البيوت في الجزائر بشكل مغاير تمامًا لما عرفناه ونحن صغار، حيث تبدلت معها فكرة الاجتماعات العائلية حول مائدة خشبية بسيطة، أو تحت شجرة العنب والتين، والاستمتاع برائحة الورد والياسمين، الكثيرون ينظرون للمنزل بأنه سقف يأويهم ويمنع عنهم أزمة السكن الخانقة، أما مسألة جمالية المكان ورمزيته العائلية؛ فالحديث عن كل ذلك عند البعض بات من الماضي.

 بعض المهتمين بشأن العمران يتوقون لدراسة بعض البيوت واختلافاتها بين الماضي البعيد والحاضر وربما أيضًا استشراف المستقبل، يرون في الفضاء السكني ملهمًا لسكانيه وشافيًا لمختلف الأمراض الاجتماعية، لأنه يعد السكينة وراحة البال كما ذكر مختصون في علم النفس؛ بأن الفضاءات السكنية كثيرًا ما تسبِّب الكآبة والاكتئاب، لأنها صارت عبارة عن عمارات شاهقة وبيوت من الآجر والإسمنت مكدسة في طوابق بلا هوية، يغيب فيها اللون الأخضر من شجر ونبات، وتكثر فيها الضوضاء والصخب، بل يصفها البعض بأنها باتت عبارة عن مراقد تستيقظ نهارًا وتنام فيها ليلًا.

تُبنى البيوت في الجزائر  اليوم بشكل مغاير تمامًا لما عرفناه ونحن صغار، حيث تبدلت معها فكرة الاجتماعات العائلية حول مائدة خشبية بسيطة

هل بقي للقهوة طعم؟

وأنتم تعودون في المساء، لا تنسوا أن تعيدوا للشريط ذكرياته، فهو يقاوم الصدأ والتلف، فرشفة القهوة على عجل في مقهى الحي، غيّبت معها ما يطلق عليه في بعض المناطق الجزائرية بطقوس "قهوة العصر" التي لازالت بعض النساء تتذكرها عقب آذان العصر، ويعد نمطًا من أنماط المعيشة التي تتلاشى شيئًا فشيئًا كطقس من طقوس الحياة اليومية، وبكل ما تحمله من رمزية ووظائف، إذ يشربها أفراد العائلة رشفة رشفة وفي " وَسْطْ الدَّار" ذلك الغائب اليوم..