10-يونيو-2019

أمام المؤسسّة العقابية باب الجديد بالعاصمة ( فايز نور الدين)

قد تكون تجربة السجن أحد أقسى التجارب التي يُمكن أن يمرّ بها الإنسان في حياته، فسلبه حرّيته ينقله إلى عالم آخر تمامًا له قوانينه التي تحكمه. فمن الصعب تخيّل حالة إنسان سيقضي سنوات داخل ساحة مسيّجة يلتقط أشعة الشمس من زاوية صغيرة بصعوبة.

أمام مدخل السجن، تتراصف محلّات لبيع المواد الغذائية، وربّما كانت الغاية من وجودها هو الحركة الكبيرة لزائري الؤسّسة العقابية

لكن معاناة السجين، لا تقلّ عنها معاناة عائلته وتكبّدها مشقّة التنقّل إليه مسافات طويلة قد تصل إلى مئات الكيلومترات، من أجل رؤيته وتسليمه ما يحتاج إليه داخل قفة بلاستيكية. إنها رحلة عائلات أضناها الزمن وأثقلت الحياة كاهلها.

اقرأ/ي أيضًا: الحكومة تستبدل قفة رمضان بمنحة مالية بشروط تعسفيّة!

11 كيلوغرامًا من الهّم

أمام باب سجن الحراش بالعاصمة، تجلسُ فاطمة الزهراء في انتظار دورها، لقد تلعثمت المرأة الأربعينية قبل أن تعطينا اسمها، يبدو أنه اسم مستعار اختارت أن تختفي وراءه هربًا من لعنة الأسماء، لقد شاءت الأقدار أن يقبع زوجها في سجن الحراش بعد إدانته في قضية تزوير وثائق رسمية رفقة صديق له.

تقول فاطمة الزهراء في حديث إلى "الترا جزائر"، إن زوجها يقبع في السجن منذ سنة كاملة، بعد الحكم عليه بعشر سنوات، بتهمة تواطئه مع موظف في تزوير وثائق سيارة، تضيف السيّدة: "لقد انقلبت حياتي في رمشة عين رأسًا على عقب، وصرت أمام مسؤولية أكبر لإعالة طفلين، لكن المشكل الأكبر هو وجوب القدوم لزيارة زوجي في السجن، فأنا أسكن في ولاية مستغانم (370 كلم غربي العاصمة)، والقدوم إلى هنا كل أسبوع يثقل كاهلي في ظلّ الوضع المرير الذي أعيشه".

 

 

تستطرد المتحدّثة، أنّ بعض المحسنين ساعدوها في الحصول على منصب عمل في قاعة حفلات، حيث تساعد الطبّاخين في تحضير الطعام، مضيفة أنها تقتطع نصف راتبها الشهري لجلب هذه القفّة لزوجها مرّتين في الشهر، وقد تصّل قيمة ما تعدّه داخلها مبلغ مليون سنتيم (90 دولار) على حدّ قولها.

تقول فاطمة إنها تحاول قدر الإمكان أن تحتوي قفّة زوجها على كل ما يشتهيه من طعام تتوّلى إعددها بنفسها في البيت، إضافة لما يطلبه منها من سجائر وحلويات وألبسة وغيرها. تتنّهد قبل أن تعلّق:" إنه أمرٌ صعب، لكن هذه القفة الصغيرة هي الرابط الوحيد لزوجي مع العالم الخارجي".

قد تكون حالة فاطمة الزهراء جيّدة مقارنة بعائلات أخرى، فأمام باب السجن رأينا أشخاصًا أغلبهم عجائز يستجدين المارّة وعائلات المساجين من أجل مساعدتهن في ملأ القفة، فحالتهن الاجتماعية لا تسمح لهم بتأمين مصاريفها المرتفعة، لكن "حرقة قلوبهن" منعتهنّ من الرضوخ للأمر الواقع، وتحمّلن مشقة السفر لرؤية أولادهن. إنهنّ يتقاسمن معهم عقوبة السجن لكن بطريقة أخرى.

أمام مدخل السجن، تتراصف محلّات لبيع المواد الغذائية، وربّما كانت الغاية من وجودها هو الحركة الكبيرة لزائري الؤسّسة العقابية، هنا، يقتني أهالي السجناء بعض حاجياتهم. "الترا جزائر" تحدّثت إلى أحد أصحاب المحلّات، الذي أكّد أن ما يراه ويعيشه مع القادمين لزيارة ذويهم في السجن، لا يكفي سرده في كتب وروايات، يقول: "هناك من أجده هنا صباحًا قبل الفجر، نائمًا على عتبة المحل أو في مكان منزوي قرب السجن. هناك من يأتي من الجنوب قاطعًا أكثر من ألف كيلومتر في سيارات الأجرة وقد استغرق يومًا كاملًا في الرحلة، وهناك من اعتادوا الشراء من هذا المحل، ولتجنّب مشقّة السفر؛ صاروا يرسلون لي المال في حسابي البريدي لأملأ القفة وأرسلها لمسجونهم مع أحد الزائرين الآخرين، وكل ما عليهم هو تزويدي بالاسم الكامل ورقمه داخل السجن".

تدابير صارمة

تسمح إدارة السجون لعائلات المسجونين بتقديم قفة واحدة في الأسبوع، وفي بعض الحالات مرّتين كما هو الحال في شهر رمضان والأعياد والمواسم، حيث تُصبح القفة أكثر أهميّة وذات رمزية روحانية، إنها "ريحة الدار" أو رائحة البيت كما يسمّيها السجناء.

تخضع هذه القفة لعدّة إجراءات قبل إدخالها إلى السجن، وهناك شروط وتعليمات صارمة تخضع لها عملية تسليمها للسجين. ففي الكثير من المرّات تحوّل أهل السجناء إلى متّهمين رئيسين في قضايا إدخال ممنوعات عبر قفة السجين، كما ضُبط بعض موظفي المؤسّسات العقابية بسبب تواطئهم مع بعض أصدقاء السجناء.

يتحدّث بلال، وهو عون أمن متربّص بسجن الحراش: "الوزن المسموح بإدخاله هو 10 كيلوغرامات و900 غرام، إذ نحاول دائما أن نلبّي طلبات العائلات، حيث يلحّون علينا بقبول كل محتويات القفة بحجّة أنها طلب من السجين الذي اشتهاها، لكن عملية الرقابة حسّاسة جدًا كي لا تصبح هذه القفة وسيلة لإدخال الممنوعات إلى السجن، لقد حجزنا مخدّرات داخل وجبات منزلية، وحبوبًا مهلوسة مخبأة بإحكام داخل بعض الأطعمة".

قائمة الممنوعات

تضمُّ قائمة الممنوعات؛ بعض أنواع الملابس مثل القبّعات والأحزمة، حتّى لا تُستعمل كأسلحة بيضاء بين نزلاء المؤسّسات العقابية، أما الأطعمة؛ فيُحضَر جلب الحساء (الشربة)، الملوخية، المحشيّات، السمك المغلّف بالفرينة، وغيرها من الوجبات التقليدية المعدّة منزليًا، والتي يُمكن أن تخفي أشياء يصعب اكتشافها مثل المخدرّات وشفرات الحلاقة وغيرها، كما يُحضر إدخال الأدوية بكل أنواعها حيثُ تتوفّر المؤسّسات العقابية على عيادات وصيدليات.

في مقابل ذلك، يُسمح للزائرين جلب مواد غذائية أخرى؛ مثل سكّر القطع عوض السكّر المسحوق، الذي قد يكون وسيلة لتمويه مادة الكوكايين، ويُسمح التمر منزوع اللب، وبعض أنواع الحلويات البسيطة، بينما تُقشر الفاكهة وتُقطّع إلى مكعّبات صغيرة قبل إدخالها إلى السجين، وتوضع هذه الأطعمة داخل علب ويتم كتابة اسم السجين فوق كل علبة. بعض العائلات ميسورة الحال ترى أن وزن القفة لا يكفي طلبات السجناء، لذلك يتمّ إدخال قفّتين من طرف فردين مختلفين من العائلة.

هناك بعض الملابس المحضور إدخالها للسجن مثل القبّعات والأحزمة، حتّى لا تُستعمل كأسلحة بيضاء بين السجناء

تركنا عائلات المساجين في طابور طويل أمام الباب الرئيسي للسجن. عائلات استغرقت عشرات الساعات في طريقها، وساعات أخرى في انتظار موعد الدخول، بما في ذلك الفترة التي تستغرقها عمليات التفتيش الدقيق، كل هذا من أجل ربع ساعة يقضيها الزائر مع  السجين، فقط ليقول له "أنك لست وحدك".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الشارع الجزائري.. قاموس مفخّخ بالبذاءة

الرقاة والعشّابون في الجزائر.. سلطة الخرافة؟