ينتشر في تكوت بولاية باتنة الواقعة شرق الجزائر، كرنفال شعبي عريق، يرتدي فيه الممثلون المتنكرون، أقنعة،وجلود عنز وكباش وإهاب الأسود، ويعلقون حول نحورهم علب المصبّرات والأصداف، قبل أن يشرعوا،ليلا، في أداء تمثيلية ذات طقوس غرائبية، يؤديها أشخاص محوريون وكومبارس متواطئون، حول امرأة حسناء تدعى "مريامة" هي عقدة الصراع الناشب بين المؤدين والجمهور.
محند زردومي: يجب طرح المشروع على من يهمه الأمر للتكفل بالأزياء والتصميم وعرضه لدى هيئة اليونيسكو لحفظه كتراث إنساني متجذر في الثقافة الشعبية لدول شمال أفريقيا
يذكرك المشهد بالنمط الدرامي، حتى أن كثيرين اعتبروه عطفًا على ما يكتنزه من صراع و فرجوية نمطا بدائيا للمسرحة يسمى ما قبل المسرح، علاوة على أنه يحمل صورا مظهرية شبيهة بأعياد "الهالوين" و "الماردي غرا" الغربيين.
سوق عيد الخريف
في كل عام تحتضن مدينة تكوت،في ولاية باتنة، شرق الجزائر، مهرجانًا تقليديًا سنويًا، يسمى سوق عيد الخريف، كتوطئة للدخول الاجتماعي والفلاحي،بما أنه يبدأ نهاية شهر أوت/آب وينتهي في أول أسبوع من شهر سبتمبر/ أيلول.
حينها، تزدحم السوق بتجارٍ يجيئون من مختلف المناطق المجاورة، ويعرضون كل ما تجود به الأرض من غلال وفواكه ومكسرات،وما ينتجه الحرفيون من أدوات حديدية مثل المناجل والمحاريث،ما يذكرك حتمًا بفكرة المعارض السنوية المعاصرة، فهو فرصة لتلبية الحاجيات، ثم لعقد صفقات تبادل تجاري أساسه المقايضات المربحة.
تبطن هذه الفكرة السائدة ما حكم خيال تلك المجتمعات القديمة ذات التاريخ البربري المعاصر للإغريق والرومان والوندال فكرة أساسية هي الخوف من المجهول وفوبيا الغد، لذلك ينظم هذا المهرجان الاقتصادي كي يجمع الناس ما تيّسر من الغذاء والطعام، والأدوات المرتبطة بالفلاحة،حذرَ قسوة الشتاء وأيام الثلج العصيبة.
وكما في الجاهلية العربية حيث تقترن الديانة بالتجارة خلال موسم الحج الأكبر، لم تعدم تلك المجتمعات الطقوس الغيبية أو الميثولوجية كي تمنح للتظاهرة بعدا دينيا واجتماعيا وأخلاقيا، يهدف إلى استجداء السماء من أجل المطر كما يبدو في طقس " أنزار" الشبيه بأسطورة "بوسيدون" رب المطر لدى الإغريق،ثم باستحضار التوابل الفلكلورية والفنية الممزوجة بالغيب، جلبا للمسرة و " البركة"، مثلما فعل اليونانيون مع الإله دينوسيوس رب الخمر والدعة، رغبة في إشاعة البهجة و الفرح و كسرا للخوف من الشح والكفاف وإملاق الغد، وطردا للأرواح الشريرة و تماهيا بفأل السعد.
والأهم التوطئة لسنة جديدة، تستجدي تكافلا اجتماعيا، حيث يكون عيد الخريف فرصة لتسوية النزاعات بين الأفراد، ودفن الأحقاد بين الأعراش، من خلال مجلس مصالحة يشرف عليه كبراء"تاجماعت" التي تضم الأعيان العقلاء المشهورين بالعدل والورع.
تسميات شيعية وعبرانية
في هذا السياق الاقتصادي والاجتماعي والتجاري والغيبي، ولدت لعبة كرنفال " الشايب عاشوراء" في تكوت الأوراسية، الشبيهة من حيث المضمون بإيراد بني سنوس في تلمسان، والقريبة لفظا مع " إِيمَعْشار"و " تَاعَاشُورتْ نْ أُوذَايْنْ"، بإقليمي تازنيت والراشيدية، في المغرب الأقصى.
هنا، يقول البروفيسور محند زردومي، أستاذ علم النفس وعلوم التربية بجامعة الجزائر2،وصاحب الدراسات المتخصصة في كرنفال شايب عاشوراء لالترا الجزائر إنه " ليس صحيحا أن هذا الكرنفال ذو جذور شيعية، أو يهودية عبرانية، كما يشاع.ثمة تشارك في التسمية فحسب، لكن المضمون متعارض، في عاشوراءيجسد الشيعة ذكرى كربلاء ومصرع الحسين سبط الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ويحتفي فيه اليهود باعتباره يوما مباركا نجَّى فيه الله سيدنا موسى من بطش فرعون".
و يُضيف محدّث "الترا جزائر": "حتى لو كان يعني في الراشيدية بالمغرب " تَاعَاشُورتْ نْ أُوذَايْنْ" أي عاشوراء اليهود، إلاّأنه يتسم في الأوراس بخصوصية محلية خالصة قد تعود به عبر اسم الشخصية النسوية الوحيدة في العرض " مريامة" لتأثيرات مسيحية طفيفة منذ عهد سان أوغسطين ابن هذه الأراضي النوميدية الأمازيغية، ما يعني أنه سابق لتواجد الفاطميين بالمنطقة، غير أن هؤلاء أسبغوه تأثيرات في التسمية دون عمق الجوهر، ذلك أن الشيعة ينتحبون حزنا في هذا اليوم بينما يتخذ الأمازيغ الشايب عاشوراءأياما للبهجة و الفرح، أما اليهود فهم طائفة متأقلمة مع جميع المجتمعات المحلية، ويتمثلون في العادة تراث و طقوس الآخرين في إطار التبيِّئة الثقافية".
مريامة المقدم والسبع
على مدار أسبوع كامل،يتواصل عرض شايب عاشوراء، بصفة حصرية ليلا، عبر ممثلين يرتدون أقنعة، ما يسمح لهم بأن يكونوا شخوصا مجهولة لا أشخاصا معروفين، ذلك ما يتيح لهم التحدث بحُرية، يضاف إلى كونهم ممثلين سريين لا يعرفهم الجمهور، بحثا عن التأثير في المتلقين عبر المُخاطِب المجهول، في مسرح مفتوح في ساحة القرية، كما أنهم يحملون أسماء دلالية مثل " قولبيس" و " مخلي عرشو"، و بوحلاوة و الجان الأبيض ما يضفي مسحة فكاهية.
يُعلن عن العرض، الذي كان يقام ليلة عيد عاشوراء،باستنفار فني كبير تتخلله الإيقاعات بالبندير والڤصبة لتحشيد الجمهور الذي يتقاطر من كل جهات المدينة، ليتفرج على كوكبة من الشخوص المقنعين، عددهم اثنا عشر فردا، بعدد شهور السنة، وهم يرتدون جلود الكباش والعنز، ويعلو رؤوسهم أحيانا ريش الدجاج والديوك، وتتدلى من صدورهم خردوات قصديرية قد تكون علب سردين وطماطم ومشغولات أخرى مثل صناديق النحل،بدافع تقمص مظهر غرائبي متوحش، فهؤلاء هم الجنود أو العسس المكلفون بحماية الشخصية الأنثوية المسماة مريامة، محركة الصراع الرئيسي.
أما الأسد فهو في العادة رجلان ينتحلانشكله بارتداء إهابه،ويقلدون حبوه على الأرجل المفتوحة على زاوية التسعين درجة، وهو رمز لسلطة العقاب التنفيذي الذي تتحكم فيه سلطة "المقدم" أو "الشاوش" ذو اللحية البيضاء،وينقله الحكواتي للجمهور المعني بالتحذير والتنبيه.
يمنع على المتفرجين التحرش بـ"مريامة" التي لا يجوز التحرش بها أو التنمر منها، أو إيذاؤها بالإيماء أو الإيحاء، أو عبر محاولة الخطف والسبي.
حينما يحاول بعض الحاضرين تجاوز ذلك القانون وتخطي الحاجز الأمني للحراس الذين يحملون هراوات، يتم منعهم ومعاقبتهم بغرامة مالية تدفع نقدا، أو يقدمون قربانا للأسد، الذي يطرحهم أرضا وسط تصفيق وصفير الحشود، كما لو أنها معركة ضارية بين البشر والفهود في ساحات الأرينا الرومانية.
يشرح الأستاذ محند زردومي رسالة الشايب عاشوراء قائلًا:" في بعض العروض يُستحضر جمل إلى جانب الأسد لِمَا يمثله من خصال الحكمة والصبر إزاء القوة والبطش، أما الرسالة الجوهرية فتتمثل في اعتبار المرأة كائنا مقدسا لا يجوز المساس به، بل يجب حمايته من كل أذى لأنها رمز التخصيب المادي والتوريث القيمي داخل الأسرة والمجتمع، هي الملكة الفعلية، إذ لا يجب أن ننسى أن المجتمع الشاوي الأمازيغي هو مجتمع أَمُوسي حكمته ذات قرون امرأة تدعى الكاهنة، وبالتالي فالمرأةهي محور التنشئة الاجتماعية وهي منتجة هذه القيم الأسرية والفاعل الرئيسي في تأبيدها وإعادة إنتاجها بالتربية، وهي رمز للأرض والوطن الذي يجب حمايته بكل حزم وقوة وحكمة ضد كل اعتداء أو تهديد خارجي"
اللباس بين البدائية والحداثة
تعرضت ظاهرة الكرنفالات القديمة مثل شايب عاشوراء والإيراد بتلمسان، إلى هجمات عنيفة تكشف عن سوء فهم نقلته من ركح الفن الطقسي الخالص إلى نطاق الإيديولوجيا الدينية غير الواعيةلأبعاده المسرحية، فبضعهم يعتبرها مظاهر وثنية، هذا على الرغم من أنها لا تنطوي على أية سلوكات منافية لجوهر التوحيد الديني، إذ يندرج شايب عاشوراء في باب اللهو المباح المنتج لفرحة التشارك ورمزية الدفاع عن الأرض و العرض.
كما أن "الإيراد" السنوسي يشكل فرصة تضامن حقيقي بما يجمع خلاله من معونات و صدقات تُوزع على الفقراء و المحرومين،تطبيقالفضيلة التكافل الاجتماعي في خضم عيد يناير، كما ينتهي المشهد الختامي بأدعية دينية إسلامية تطلب التوفيق والرزق من الله، بيد أن الإشكال الجمالي للملبوسات عادة ما يثير ازدراء المتلقين، الذين يدركون أن تلك الثياب الرثة و الأسمال البالية و الإكسسوارات المسترجعة و الجلود الملبوسة هي ما كان متاحا لهؤلاء للاستخدام خلال القرون الماضية.
لكن الأمر بات يتطلب تطويرا للصورة البصرية المواتية للعصر، والقابلة للترويج على نطاق واسع مثلما يحدث في كرنفالات ريو دي جانيرو و فينيسيا المبهرة، وفي هذا السياق يرى رشيد حماتو مؤلف الكتاب المصور " أحكِ لي الأوراس"، بأن هذا الكرنفال يجب أن يحظى بأمرين، "الأول الحفاظ على أصالته كما تم توارثها منذ عدة قرون دون إضافة أشياء أو رموز لم تكن سائدة فيه، إذ لا يعقل أن يتم ارتداء أقنعة ميكي ماوس أو الأنونيموس الشهيرة مثلما شهدته بعض العروض، لأنها خيانة للأصل الأول وتحريف ساذج للمعنى، و من جهة أخرى لا مانع من تطوير الأزياء والإكسسوارات الملبوسة بنظرة أكثر جمالية وفنية تطرد التقزز الذي تخلفه بعض الألبسة المستعملة، والأمران كفيلان بمنحه صورة بصرية مستساغة بعيدا عن التلويث المعنوي والمادي، بمعنى الحفاظ على المضمون وعصرنة الشكل".
لا يعقل أن يتم ارتداء أقنعة ميكي ماوس أو الأنونيموس الشهيرة مثلما شهدته بعض العروض، لأنها خيانة للأصل الأول وتحريف ساذج للمعنى
فيما يبقى الهدف الأسمى، حسب البروفيسور محند زردومي هو " إخراجه إلى العالمية في إطار التراث اللامادي وطرح المشروع على من يهمه الأمر للتكفل بالأزياء والتصميم وعرضه لدى هيئة اليونسكو لحفظه كتراث إنساني متجذر في الثقافة الشعبية لدول شمال أفريقيا".