كانت تلك الفتاة مولعة بالشمس والبحر والريشة والألوان، فنافذة غرفتها، بمسكنها العائلي بـ"فوردلو" (برج البحري)، شرق العاصمة، تطل على البحر. وأما المناظر الطبيعية الدافقة بشغف الحياة، فكانت تستهويها أكثر من الأقسام المدرسية التي لم تكن تستجيب لشبقها الروحي للفن والفلسفة.
الجزائرية عاشقة الريشة والألوان حولت قصّتها وتحديها إلى أقنعة وتصاميم زاهية تُخطف الزائرين لجنبات الممر المائي في البندقية بإيطاليا
وكانت كريمة لعرابة تعتكف في الغرفة لتطالع المؤلفات والمجلات العلمية والفنية، ولتمارس فن الخياطة تلقينًا من والدتها، ويوم اطلعت معلمتها على رسومها، صرخت: "أنت موهوبة جدًا".
وذات مرة طلبت من شقيقها أن يجلُب لها قطعة خشب لسفينة مُحطّمة لفظها البحر، لتُعِيد لها الروح بالألوان الحية، ثم رسمت رسمًا في ورقة ضمنتها رسالة، ورمتها فوق الموج، عل ّ أحدًا في الضفة الأخرى من المتوسط يلتقطها كما زجاجة في البحر.
الأم الجريحة
والبلاد تعيش أسوأ مراحلها التاريخية القاتمة الملوثة بدماء العشرية الحمراء (سنوات التسعينات)، شاركت كريمة الفتاة العشرينية في مسابقة فنية بمناسبة عيد المرأة مطلع التسعينيات، ولفتت اللوحة التي أسمتها "الجزائر الجريحة "، أنظار الجمهور والنقاد، فتم استضافتها في برنامج للتلفزيون العمومي.
تتذكر لحظتها التاريخية تلك فتقول لـ"الترا الجزائر": "رسمتُ أُمًا ترضع مولودها، فيما الرضيع يغرز أظافره مُدميًا رقبتها. جسدت تلك اللوحة لما تعرضت له الجزائر من مآسي الإرهاب على يد أبنائها العاقين."
وأكملت: "رسمتُها واقفة، خلافًا للوضعية الطبيعية للأمهات المرضعات، لأقول بأن البلاد لم، ولن، تسقط أبدا". نالت تلك اللوحة شهرة كبيرة رغم أنها لم تتوج بالجائزة، والسبب أنها لم تتلق تعليمًا بمدارس الفنون الجميلة، فقد كانت عصامية ولم يصدق كثيرون ذلك، جرّاء ما تمتعت بها لوحاتها من تقنية وجمالية.
تواصل محدّثتنا سرد ما وقع بعد ذلك، لتقول: "تابعت دورات تكوينية حرة في مدرسة الفنون الجميلة، كي أجمع بين المهارة الفطرية والتكوين المدرسي، وأنتجت لوحات متنوعة شاركت بها في المعارض الوطنية، لكن نداء الزجاجة في البحر لن يتأخر في الظهور، كما لو أن القدر قرأ تلك الرسالة فقرر أن ينقلني لتحقيق ملحمتي الشخصية في عاصمة الأنوار."
سرّ نجاح العصامية كريمة لعرابة في تصميم الأقنعة الفينيسية يرجع إلى إدخالها نمطًا جزائريًا يعتمد على الورود الجافة
الشيخ الغريب
في 2003 كانت الفنانة لعرابة تنتقل إلى باريس لا من أجل الفن بل من أجل الزواج بقريب، لكن ذلك المشروع مات في المهد، لتجد نفسها وحيدة في العاصمة الفرنسية، مجردة من كل شيء عدا موهبتها الفذة، سلاحها الأخير لإثبات الذات ولمعافرة الصدمة وظروف الحياة.
تدبّر لها والدها أستوديو للمبيت لدى معارفه هناك، كما قدمت لها فتيحة وهي امرأة وهرانية فحلة تشتغل في "راديو فرانس"، نصيحة مهمة "إياك أن تقولي لا إذا ما عُرِض عليك أي عمل هنا، للبقاء عليك تفادي جملة لا أعرف".
قبل أن ترشدها إلى جمعية ثقافية، مكنّتها من تنظيم معارض استرعت انتباه النُقّاد والعارفين، وصنعت لوحتها "النظام اللانهائي"، ضجة فنية جسدت فيها حب تملُّك السلطة لدى الأنظمة السياسية، فقد رسمت كرسيًا يحوطه معطف لا يتغير، كرمز أبدي للحماية التي توفرها الدواوين السوداء للحكام المتغيرين دون أن يتغير شيء من واقع الشعوب.
وخلال معرض لها، تروي هذه المعجزة، قائلة: "شاركت في معرض بباريس، حتى وقف عند رأسي شيخ أنيق غامض، تفحص بإعجاب لوحاتي، تفاجأ عندما عرف بأني جزائرية وبلا إقامة، فلم أشأ أن أروي له صدمتي العاطفية، لأني لست كلبًا يعضُّ ذيله."
وهنا تتوقف لتستذكر نصائحه، وتركّز على "نصحني بالتقدم بطلب الإقامة حتى لا تضيع موهبتي. شرعت في الإجراءات اللازمة، تواصلت مع موظف رفيع بالبلدية الذي طلب مني وثائق شريطة أن أقدم وثيقة عمل لدى مُشغّل، وتشاءُ الصدفة أن ترشدني أمرأة روسية كانت رفقة صديقتي فتيحة لرجل من جزر موريس قبل أن يشغلني في مجال الديكور."
تسرد: "حصلت على الشهادة وأدرجتها في الملف. بعد شهرين كان الموظف يتصل بي ليبارك حصولي على بطاقة الإقامة، لكن العجيب أن القرار وقع من طرف السيد تيبيري رئيس بلدية باريس، الذي لم يكن سوى ذلك الشيخ الغريب، الذي حضر معرضي قبل أشهر، والذي كان ينوي منحي الإقامة قبل أن أودع الملف".
دموع وسماء
وفرت لها بطاقة الإقامة التي حازتها في ظرف ستة أشهر فقط من وصولها إلى باريس راحة نفسية، فانكبت على الرسم والمشاركة في المعارض المختلفة حتى العام 2005، وهو العام الذي استرعت فيه انتباه التشكيلي الفرنسي الكبير من أصول يهودية، سيمون أبيتبول، الذي أشاد بموهبتها الكبيرة مقدرًا أن لوحاتها ذات قيمة مالية تقدر بـ 4000 يورو لجودتها الفنية الكبيرة، لكن تلك الجمعية اشترطت عليها تغيير اسمها ولقبها من أجل اختلاق قصة ذات أبعاد سياسية، أملا في الترويج بواسطة الإثارة.
تسكت..، لتروي لـ"الترا الجزائر" الموقف: "رفضت ذلك قطعًا، لكنهم احترموا رفضي وفتحوا لي فرصة العروض. كنت دائمًا ما اعتبر نفسي شجرة تنقُل جذورها معها، لا يمكنني أن أغيّر لقب أبي، ولا يمكن لتلك الشجرة أن تحيا خارج جذورها، هويتها وثقافتها الجزائرية".
وصحيح، تضيف كريمة لعرابة، "واصلت ممارسة الفن، لكني مررت بأوقات عصيبة، فاشتغلت حلّاقة ودهّانة وطبّاخة ومساعدة بناء وخيّاطة لضمان لقمة العيش بكرامة، كنت لا أعرف ما أريده، لكني كنت أعرف جيدًا الأشياء التي لا أريدها."
بالنسبة لامرأة وحيدة في الغربة حريصة على شرفها وأخلاقها، "تخيل ذات مرة خرجت أبكي في الطريق لأني أملك واحد يورو لا يضمن لي سوى تذكرة توصيلة حافلة على أن أعود راجلة، وبينما أنا أبتهل لله كي يفرج عني، عثرت في الطريق على مجموعة تذاكر نقل".
على ذات المنوال، ستتلقى مكالمة هاتفية من تونسيين رغبوا في تزيين مطعهم مع تهيئة ديكور خارجي ببلدة خارج باريس، وبمجرد ما كانت تنهي الأعمال الخارجية، حتى كانت امرأة غجرية ثرية تقيم أمام المطعم التونسي تتصل بها طالبة أن تدهن البيت، تتذكر كريمة القصة فتصيح: "تخيل خرجت بواحد يورو وحصدت 4000 يورو في ظرف أيام".
السفارة والبندقية
موهبتها الفنية جعلتها تزين جدارية فسيفسائية للسفارة الجزائرية بباريس، ثم تتدبر وظيفة قارة في هذه الهيئة الدبلوماسية، وبعد عامين كانت تستقيل من منصبها، مقررة التفرغ لأعمالها، وفي غضون ذلك كتبت أمنية في ورقة عثرت عليها سنوات بعد ذلك "أمنيتي أن أعيش في باريس أو إيطاليا".
إن ما حفزها على الرحيل في العام 2012 إلى إيطاليا، هو وفاة والدتها العام 2011، مقدرة أن البندقية التي قررت الاستقرار بها جنّة مثالية للرسامين والفنانين نظير ما تعج به من زبائن وسياح من كافة أنحاء العالم. اشترت بمدخراتها بيتا بواسطة قرض بنكي، ثم كانت تنزل بحثا عن عمل كخياطة في ورشة.
تعقب: "كان أول محل أدخله بمحض الصدفة لرجل جزائري من الشرق يُقيم هناك منذ عقود، عرضت عليه تزيين الأقنعة الفينيسية فقبِل. عندما عدت له بنموذج جديد ذُهل، أما حينما رأى أني جهزت له 50 قناعًا لا يشبه واحدهم الآخر، صاح لِمَ لا تفتحين ورشتك؟".
تلك الصيحة ستتحول إلى فكرة، فأنشأت "بوتيكا" (محل صغير) في قلب البندقية، غير بعيد عن الجسر الشهير "الريالتو"، وفي ظرف ثلاثة أشهر تحول محل كريمة لعرابة إلى مقصد للسياح الأميركيين والفرنسيين واليابانيين والإيطاليين واليابانيين والألمان، وللزوار المحليين أيضا، ثم احتل صدارة مؤشرات تقييم الزبائن "التريب أدفايزر"، وحافظ على تلك الرتبة المتقدمة طيلة أشهر.
لفت ذلك أنظار الصحافة التي أشادت بها، مقدرين موهبتها الفذة في مقارعة الفينيسيين في حرفتهم التاريخية. أكثر من ذلك تلقت عرضا من علامة "كلفين كلاين" لتصميم نماذج خاصة للشركة، وكان سبب الاختيار هو هذا التعليل الذي وصلها: "تلقينا 50 مشروعا لكننا اخترنا عرضك لأن لك لمسة مختلفة عن كل ما رأيناه".
أما سر خلطتها الفنية العجيبة فكان مثلما تقول "من أسرار نجاح أقنعتي أني أدخلت عليها ورودًا جافة، طبعًا يملك الجزائريون علاقات تاريخية مع الورد والعصافير، لذلك أعجبهم الورد بدل الريش المستعمل، كما أني أصمم أقنعة لا تتشابه تمامًا، فكل قناع يحمل لمسة مختلفة".
ولأسباب متعلقة بالعلاج من وعكة صحية طارئة، لم يكتب لتلك الصفقة العظيمة أن تتم بعد اضطرارها لغلق المحل والخضوع لفترة نقاهة طويلة الأمد.
هدية لتبون
شاركت في السنوات القليلة الماضية في تمثيل الجزائر في بينال البندقية العالمي، كما عرضت في أرقى صالونات عروض روما بحضور نقاد كبار، كتبوا عن أعمالها في مجلة "أنسا" الشهيرة.
كما كانت ضمن الفنانين الجزائريين الذين شاركوا في جلسة اللقاء مع وزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة، وكذا لقاء رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون خلال زيارته التاريخية لإيطاليا شهر أيار/ماي 2022، وتكفلت شخصيًا بمنحه هديتها، وكانت لوحة فنية مع مقطع شعري عن العناصر السبع للحياة.
تطمح كريمة لعرابة إلى تنفيذ مشاريع فنية كبرى وتأسيس مؤسسة فنية جزائرية لتنشيط الدور الثقافي والمادي والدبلوماسي لبلادها الجزائر عبر العالم
وشهر أيلول/سبتمبر الفارط افتتحت رواقها للفنون ببلدة ميستري التابعة للبندقية لتكون أول جزائرية تفعل ذلك، وهو يلقى إقبالاً كبيرًا سواء بقصد الاقتناء أو لحضور جلسات توقيع الكتب، وزيارات أطفال المدارس.
ليبقى أملها الكبير تنفيذ مشاريع فنية كبرى تحتاج إلى تمويل ورعاية كبيرين، وإلى تأسيس مؤسسة فنية جزائرية بمساعدة السلطات الجزائرية، عبر شراء ملك، سيكون له دور فعال في تنشيط الدور الثقافي والمادي والدبلوماسي للبلاد عبر العالم، من قلبه المؤثر، البندقية أمتع مدن العالم.
وبرغبة نقل تجربتها الإشعاعية ذات الروح الشرقية تختتم: "لم يسبق لي تقديم معارض في الشرق الأوسط، مع أني متشوقة للعرض بالإمارات العربية أو الدوحة القطرية، بما أنهما بلدان يملكان أروقة فن من الطراز العالمي، وينظمان صالونات فخمة".