يُقاتل الناس من أجل النزوح من القرى إلى المدن، لكن حبيبة بوزحافي، فضّلت الهجرة العكسية، من باتنة إلى دوّار تابعليت الواقع فوق سقف الوادي الأبيض غير بعيد عن بلدة غسيرة، جنوب باتنة شرقي الجزائر.
لالة حبيبة لـ "الترا جزائر": ثمة فرق بين أن تحيا وأن تعيش، العيش هو أن تضمن البقاء كي لا تموت، أما الحياة فهي أن تمتلئ بما تودّ أن تفعله بسعادة
فضّلت هذه المرأة أن تقيم في بيت بسيط مبني من الطين والحجارة، أسفل الطريق الوطني رقم 31 الرابط بين ولايتي باتنة وبسكرة، كي تتنعم كل صباح بقهوتها في مواجهة قرص الشمس الطالع في الأفق ناشرًا أشعته الذهبية على قمم جبل الأحمر خدو المقابل، مبللًا بأضوائه بطن أخدود شرفات غوفي العظيم الشبيه، بـ "الڨران كانيون" في كولورادو الأميركية، منصتة لجوقة مختلطة بين نباح الكلاب وثغاء الماعز وصياح الديكة.
يسألها موقع "الترا جزائر" وهي تراقب فلاحًا كان منهمكًا في عمله بزريبة بالضفة الأخرى للوادي، عن سبب لجوئها إلى هذا الخيار الاستثنائي فترد: " الحياة عبارة عن مجموعة خيارات، وأنا اخترت العودة إلى الطبيعة لفعل الأشياء التي كنت أود أن أفعلها وأنا صغيرة، وما من شك أستمتع بما تبقى لي من العمر كما لم استمتع بحياتي من ذي قبل. ثمة فرق بين أن تحيا وأن تعيش، العيش هو أن تضمن البقاء كي لا تموت، أما الحياة فهي أن تمتلئ بما تود أن تفعله بسعادة".
مقهى نسوي
لا تبدو لالة حبيبة عارفة بفلسفة شخص مشهور عالميًا يسمى بيار رابحي، وهو فرنسي من أصول جزائرية، لكن سلوكها اليومي هو تطبيق عملي لأفكاره. فهو طوّر بعصامية فريدة فلسفة حياتية تهدم كل الأنماط المتعارف عليها، لتصبح ذات صدىً عالمي، أبرزها أن الإنسان المعاصر عبدٌ أبدي للحاجة للمال، فيدفع مقابل ذلك وجوده لتلقي أجرة شهرية، تستنفذ طاقاته ووقته كل يوم، قبل أن تسلمه لبيته منهك القوى، كما لو أن تنظيم العمل يبتلعك فجرًا، مثل تمرة ويُلقي بك نواة جافة عند آخر اليوم، فيضيع وقتك دون أن يتاح لك فعل الأشياء التي تحبها بشغف ورغبة مشبعة.
لذا ارتأت حبيبة أن تعود للأرض، حيث تعيش اليوم في دار بسيطة رفقة كلبها "أيْذي"، كما داومت من قبل على قضاء أيام في ضيعة عائلية ناحية إسفولا قرب فم الطوب، للاعتناء بشجيرات التفاح، يومها لم يكن لها كلب من السلالة المحلية، فتقول ضاحكة: " صار كلاب جيراني أصدقائي في غضون أيام، فيرافقونني مثل حراسي الشخصيين".
تمتلك حبيبة روح المقاولة منذ نعومة أظافرها، فقد كانت أول امرأة تنشئ مقهى خاصًا بالنساء، في قلب مدينة باتنة، أسمته "الأوراسية"، حدث ذلك العام 2015، وتخصص المحل في تقديم حلويات تقليدية مثل المقروظ و الصابلي و القريوش و الكروكي، وعصائر طبيعية كالموخيطو و الليموناد الحر.
عن تلك التجربة توضح: " أنشأت، العام 2015 هذه الكافيتريا الخاصة بالنساء كي أمنحهم عالمًا يمارسن فيه حريتهن، ويتبادلن الأفكار والنقاش والتجارب والخبرات، وتكسير عقدة المجتمعات الذكورية، التي تجعل المقهى عالمًا رجاليًا خالصًا يحرم على النساء انتهاك أسواره، فيما يبدو الأمر طبيعيًا في المطاعم والبيتزيريات و الكافيتريات، هنا يناقض الضمير الجمعي نفسه، فبلا منطق يجيز في مكان ما يحرمه عرفيا في مكان آخر".
في العام 2017 أسست مطعمًا، تقدم فيه الأطعمة التقليدية والعصرية بما أنها طباخة ماهرة، تراكم تجاربها العائلية المكتسبة، بالإضافة إلى قراءاتها للمجلات المتخصّصة، لذلك تتفنن الوصفات التقليدية، مثل العيش والكسكس والشخشوخة والمقطعة وحتى في بعض الأطباق الوافدة كالمقلوبة بالبذنجان، فتعلق شارحة: "لقد كنت دائما ما أحس بأن تعلمي تلك الأطباق يندرج مع رغبتي في الحفاظ على التراث المطبخي الأوراسي والجزائري، حتى لا يندثر، و هذا جد مهم أيضًا، حيث دائمًا ما كنت أسعى لنقلها لبناتي كي لا تندثر هذه المأكولات كما اندثرت أخرى".
فلاّحة إسّفُولاَ
رغم مظهرها العصري، حيث تفضل ارتداء سراويل الجينز وتعتمر برنيطة، كما تمارس رياضة الجري والمشي مستمعة عبر سماعات بالموسيقي، تفاجئك حبيبة بوجه آخر، هو وجه القروية والبدوية ابنة الأرض والبلد، فقبل ثلاث سنوات خيرت بين الحصول على قسمتها من تركة ميراث أموال كما يقتضي الشرع في باب المواريث، فرفضت المال مقايضة إياه، بقطعة أرض عائلية في منطقة إسّفولا قرب فم الطوب، لتدير بستان تفاح، فصارت تقضي أيامها في الحقل، وتبيت في كوخ مجاور أحيانًا، ولدى أقاربها في بلدة مجاورة.
تروي لـ "الترا جزائر" تجربتها الفلاحية متمتة: "كنت أقوم بكل ما يقوم به أي فلاح، أنهض فجرًا، أجلب الماء الشروب من واد قريب، أحفر التربة، أقلم الأشجار، وأسقيها، كما أمارس " التبييش" بقادوم فأنزع الحشائش الجافة، وساعات أستضيف نساء صديقات لتقاسم الأعمال معي، وتكرار ما كانت جداتنا يفعلنه منذ قرون. هذا يسمى الاستضلال بالحنين للذكريات والتاريخ"
ويوم أنتج البستان تفاحا، باعت حصصًا منه، لكنها وزعت منه صناديق مجانًا، فتعقب: " طبعًا يعمل الإنسان من أجل العيش الكريم، وهذا العيش الكريم يتحقق بالمال، وطبعًا المال مفيد لتحقيق الذات والأهداف، لكن السعادة هي في التشارك والتقاسم مع الآخرين".
حطّابة الوادي
قبل سنة، قررت حبيبة، أن تعود لحياتها التقليدية التي عاشتها في الطفولة، إذ تبدو في عمرها الستيني صبية بأحلام تريد أن تحقّقها بعدما صارت حياتها الزوجية وراء ظهرها، فقد حققت الأمومة وأنجبت رجالًا وبنات يخوضون حياتهم بنجاح كبير.
أجّرت بيتًا قرويًا في منطقة تابعليت، وتضيف:" كنت ضيفة لدى السيد عزوز المعشرث الذي أنشأ دار ضيافة تقليدية، شهيرة لدى زوار منطقة غوفي، وبما أني كنت مهووسة بفكرة التراث التقليدي، فقد تمنيت أن أقيم في منزل شبيه، فاقترح عليّ هذا الأخ الكبير بيت جاره، وهكذا تمت الصفقة فاكتريت منزلًا تقليديًا مهجورًا مقابل 2000 دج للشهر، لمدة 7 سنوات".
ومن يزور البيت الذي صار منتجعًا متحفيًا بديعًا من الداخل لن يصدق حجم التهيئة التي قامت بها حبيبة، وفي هذا الصدد تعلق: " لقد قمت بتقشير الجدران بنفسي على مدار أيام، أعدت الباب والنوافذ، وثم شرعت في تزويده بكافة المتطلبات مثل الحمام ودورة مياه جديدة، وقبل ربطه بالغاز الطبيعي، كنت أتدفأ بطريقة تقليدية، أخرج فجرًا لألتقط الحطب من الأشجار اليابسة والميتة، واقتطع ما يلزمني بالقادوم، لإيقاده في المدخنة التقليدية، لكن الأمر تغير اليوم و الحمدلله".
ديكور تقليدي
أثثت لالة حبيبة دارها بطريقة فنية بديعة، عن طريق مشغولات يدوية تعكس الهويتين الشاوية والجزائرية، فهناك قربة معلقة، و طواجين فخارية، وأوان تقليدية، وسلل حلفاء معلقة، بعضها مملوء بقشور الرمان المجففة، وأكواز ثوم و طماطم و فلافل محفوظة، و منحوتات تراثية، و مسلات قديمة، و زارربي مبثوثة في كل ركن، و رفوف تعج بكتب الأدباء الجزائريين مثل بوجدرة و سمير قسيمي و دلائل سياحية وروايات عالمية باللغتين العربية و الفرنسية.
تغري هذه الدار الزوّار بما تبعثه في النفوس من راحة واطمئنان وسكون في كنف الهوية المحلية، وعن سر هذا الاختيار تضيف: " أنا امرأة متصالحة مع ذاتها، لم أخلق لإرضاء أحد، بل لإشباع ذاتي بما ترغبه إرادتي، كل ما في الأمر أني فضلت العيش في بيت يمنحني اتصالًا دائمًا مع ذكرياتي الطفولية، لربما الحنين بلمات الأم التوبية الشاوية وأبي السرحاني العربي، هما ما يدفعان بي لاسترجاع تلك الحياة السابقة لأعيشها حاضرًا ومستقبلًا، و طبعًا لكل إنسان عقد في طفولته قررت أن أحطمها".
تفطر كل صباح على تين من شجرة مجاورة قبل أن تشرب قهوتها، متأملة مرابع الثوار السابقين عبر جبال النار المحيطة، قبل أن تشرع في يومياتها، وإن بعضها رجولي بحت كما لو أنها ما جاءت إلى هنا إلا لتؤكد المساواة مع الرجال، أو كأنما بعثت هنا راهبة لتحرر مساحة نسوية في مجتمع ذكوري.
راعية الماعز
واضبت حبيبة منذ فترة على تربية الماعز، فتخرج لرعيها في المناطق المجاورة أمام نظرة استغراب بعض الأهالي، كما تربي الدجاج ولا تبخل بإطعام دجاجاتها ودجاجات ونعاج جاراتها. عن علاقتها بالسكان تؤكد ضاحكة: "الناس طيبون للغاية، صحيح أن تعيش امرأة في بيت لوحدها في هذا المكان النائي، وأن تقوم بقيادة دراجتها الهوائية بين الدور لاقتناء المواد الغذائية من غسيرة أو غوفي شكل لهم مفاجأة أول وهلة، لكنهم ومع مرور الوقت تعودوا عليّ، بعضهم كان ينعتني وهم يرونني أقود سيارتي السبورتاج بمسميات "الـﭭاورية " أو " الميرية" فكنت أرد عليهم بالشاوية فيضحكون عندما يتأكدون أنني ابنتهم وابنة هذه الأرض".
إلى ذلك تلخص الموضوع بطريقتها موضحة: "الناس يقبلون اختلافك عما هو سائد حينما يقتنعون أنك شخص حقيقي لا مزيف، تدافع عن خياراتك وتقاوم في سبيلها، ثم حين يألفون الأمر يجارونك بعد أن تكسب تفهمهم، كل النساء القويات نجحن في إدارة مصيرهن باحترام أخلاقيات الحياة العامة. أمّا النساء الخاضعات فهن الفاشلات بامتياز. يقول المثل إن كانت لك عنزة ترعاها تصير لك عنزتان، ولو كانت لك عنزتان لا ترعاهما فلن تكون لك في المستقبل أية عنزة، بالمثل الانسان هو الراعي الحقيقي لمصيره، وإذا تركته للآخرين فلن يكون لك مصير أبدًا".
جارة الأموات
لحبيبة طقوس روحانية تسكنها من حين إلى آخر، فمرات تكلم جبل أحمر خدو مطلقة صوبه، ترنيمة ورثتها عن نساء المنطقة، لا تزال ترددها " أحبيبة رقعد ثغاطين آورا"، بمعني " يا حبيبة أعيدي قطعان الماعز لهذه الجهة"، وتتلذذ بترددات الصوت الجبلي على رجع الصدى، الذي يذكرها بالصبا، وأحيانا تحضن الأشجار وتكلمها كما لو أنها كائنات حية، و تعتني بالأموات، فبيتها يقع على مقربة من مقبرة تابعليت، وقد كانت مدينة الأموات في حاجة لترتيب لائق بسكانها الراحلين، فقامت بتسييجها و غراستها بالأشجار، كما تنوي أن تضع لها شواهد لائقة. و إلى جوار مهجعها غرست أشجار زيتون عند عتبات الساحة الواقعة في مدخل بيتها، حيث من عادتها أن تضع الطعام للضيوف الذين يزورونها، كما لو أنها تقاسم وجبة المحبة للأموات و الأحياء على حد سواء، على الرغم أنها تقول لألترا الجزائر ضاحكة : " الأموات لا يزعجون أحدا، هم نائمون في مملكة سلامهم الأبدية، أما الأحياء فهم المقرفون حقا حينما يتدخلون في شؤون نظرائهم الأحياء، دونما احترام لحريتهم و خصوصيتهم، و يصبحون جحيما حينما يرغبون في فرض نمط عيشهم على الآخرين، رغم أن الله خلقنا متساوين لتعيش مختلفين و نموت متساوين"
ضيوف المحبة
يُطلق بعض السكان على منزل حبيبة دار خالتي أو لالة حبيبة، أما هي فصارت راهبة جبل الوادي الأبيض، ولذلك يزورها فنانون ومثقفون للتعرف على المتحف الذي تقيم فيه، ولتناول طعام تحرص على مشاركته الآخرين، ولا يفوت سياح أجانب مؤثّرون بينهم المؤثر الفرنسي الشهير بان نيكو، فرصة الغوص في التراث الشاوي العريق، عبر تأمل الغرف قبل التلذذ بأطباق تقليدية على مشارف أخدود غوفي العظيم.
دار لالة حبيبة ليست مجرد مسكن بل واحة سلام حقيقية مزجت فيه هذه المتمردة على عقدها الخاصة وعقد المجتمع العامة، بين شكلها العصري وروحها التراثية، لذلك تحظى بالاحترام الجدير بالشخصيات الحقيقية غير المتصنعة لنيل الرضا أو النفاق للخضوع لأحكام المجتمع.
وفيما كانت الشاعرة والفنانة خديجة حداد تختصر حبيبة في كلمة: " المرأة التي تنطق بما لا يجرؤ غيرها التفكير به".
دار لالة حبيبة ليست مجرد مسكن بل واحة سلام حقيقية مزجت فيه هذه المتمردة على عقدها الخاصة وعقد المجتمع العامة
تقرر حبيبة أن تجذب دراجاتها الهوائية لتنطلق في جولة وهي تصيح: "عندما كنت صغيرة لم يتح لي الفقر والحرمان اقتناء دراجة، لذا اشتريت عدّة دراجات كي أحطم عقدة الكبت. إن كل البشر يعانون من عقد راسخة منذ الصغر وقد يكونون ضحاياها، لكني قرّرت أن أحطمها الواحدة تلو الأخرى بدل أن تحطم حياتي".