05-مايو-2024
تظاهرة منعة آرت (الترا جزائر)

تظاهرة منعة آرت (الترا جزائر)

منعة جنّة في بطن الجحيم، هكذا توصف هذه البلدة النابضة بالحياة في قلب التضاريس الصخرية القاسية، القريبة من عالم الصحراء،رغم المحيط الناري المكتسي باللون الغضاري، إذ حوّل وادي عبدي من هذه البلدة الواقعة جنوب باتنة، شرقي الجزائر، والتي كان اسمها زمن الرومان "تيفلزي"، إلى حدائق دانية بثمار التين والرمان، وبخاصّة "الروزي"، أجود أنواع هذه فاكهة المشمش على الإطلاق.

تقاطر هذا العام قرابة 50 فنانًا من عدة ولايات جزائرية يتقدمهم دنيز مارتينيز ونور الدين تابرحة ليصنعوا عالمًا من الألوان

إلى زمن بعيد استعان الرومان بفرقة خاصة تسمى "ليجيون فيراتا" لشق طرق تحكم وسيطرة في هذه المناطق، وقد جلبت من بلاد الشام، للاعتقاد أن هؤلاء السوريان أقدر من غيرهم على التأقلم مع الطبيعة القاسية في تناقضاتها، بين برد تحمله ثلوج جبل المحمل الشاهق شتاءً، وحر الصحراء اللافح المتربص بها جنوبًا.

وفي محصلة تاريخية أسّس السكان المحليون مدنا قلاعية، بينها منعة التي تأسست قبل أكثر من عشرة قرون،وجددت قبل أربعة قرون، لكنها بقيت عبر ثلاثمائة بيت شامخة البناء، وآهلة بنصف السكان، منتجة للحياة، عبر تقاليد متوارثة في ذلك الحيز الهندسي المستمر عبر الزمن.

قرية منعة

عبق التاريخ

تبدو بنايات القرية المبنية بالحجارة والطين و المسقفة بدعامات خشبية من أشجار العرعار، أو " الزينبة"، ملتفة حول مئذنة المسجد، أما الزاوية القادرية بمسجدها العتيق فقد شيدت العام 1660 ميلادية، و كانت ملتجئا فرّ إليه الحاج أحمد باي بعد سقوط قسنطينة، العام 1939، فاستقرّ بها لوقت، قبل أن يرحل نحو قلعة كباش، مخلفًا وراءه قبري ولديه اللذان لا يزال ضريحاهما يرقدان في سلام هنا.

لم تكن هذه القلعة في يوم من الأيام بعيدة عن نهر الفن، ففيها ترعرعت الكاتبة والشاعرة الفرنسية آنا غريكي لتصبح نصيرةً للثورة الجزائرية ضد بني جلدتها، وفي قرية أمنطان التابعة لدائرة منعة ولد واحد من أعظم الفنانين التشكيليين الجزائريين، المرحوم شريف مرزوقي.

هذا الإرث الخلاق، كان واحدًا من بين أهم المصادر التي أنضجت فكرة " منعة الفن"، كنسق ثقافي فريد يعرض فيه الفنانون والرسامون لوحاتهم وأعمالهم، لا في رواق، بل على جدران البيوت، وعلى أرصفة الشوارع، وفي هذا الصدد توضح السيدة سهلية قرفي، مهندسة الذكاء الاصطناعي، ورئيسة مجموعة " آجير"، لـ "الترا الجزائر": لطالما تساءلت لماذا لا يعرف عامة الناس فنّانينا ومثقفينا؟

قرية منعة

هذا السؤال هو الذي ولدّ هذه التظاهرة، لذا رغبنا أن يتنقّل الفنانون إلى السكان، وطبعا وقع الاختيار على منعة لأنها ذات طابع عمراني أوراسي فريد، يجسد عمقًا حضاريًا وطنيًا، ثم إن القرية عموما هي ذاكرة حيّة، تبدو القرى أكثر تمسكا بالهوية والتراث والتقاليد مقارنة بالمدن الحديثة ذات الطابع والمنشأ الكولونيالين. إنّ الأمل ليأتي في أحيان كثيرة من القرية والدوّار. لذا عندما التقيت شبان جمعية تازيري بمنعة سرعان ما اتفقنا سويًا على أن نبعث المشروع ميدانيًا".

قوس قزح جزائري

خلال العام الفارط رميت كرة الفن للشارع فاحتضنها الجمهور، في أول طبعة. ونظرًا لفرادة تلك اللوحات المعلقة في الجدران، والمرصوفة على جنبات الأزقة الضيقة، وتلك الأجواء الماتعة، التي مزجت بين ألوان الفنون وعبق التاريخ، فقد تقاطر هذا العام قرابة 50 فنانًا من عدة ولايات جزائرية، يتقدمهم دنيز مارتينيز ونورالدين تابرحة، ليصنعوا عالمًا جزائريًا مزركشًا، يمتد طيفه من صحراء تمنراست وحاسي مسعود وبسكرة جنوبًا، إلى مستغانم غربًا، والجلفة والعاصمة وشرشال وتيزي وزو وسطًا، وإلى عنابة وقالمة وسطيف وقسنطينة وسوق أهراس، باتنة شرقًا. لم تقتصر العروض على اللوحات التشكيلية بأنماطها المختلفة، بل امتزجت بالأدب والغناء وفن الحكي. 

قرية منعة

حول هذا التنوّع الشامل، تعقب الفنانة التشكيلية والكاتبة كلتوم دفوس، التي أصدرت مؤخرًا مؤلفًا حول الوشم عند النساء:"هنا يمكن أن تعيش تنوع وثراء التراث الجزائري بكل أبعاده، الأفريقية والأمازيغية والعربية في مكان يعدّ في حد ذاته قاعة عرض تراثية عريقة تحتفي بتنوع عريق بلدنا، فيتوّلد لدى الناس إحساس عميق بالانتماء للوطن".

قرية منعة

إن التلاقي بين الفنانين وسكان القرية العتيقة، لهو مشهد فريد من نوعه، تلخصه الفنانة التشكيلية والكاتبة راضية قوقة رودسلي من قسنطينة لـ "ألترا الجزائر": "شاركت السنة الفارطة، ومنذ ذلك الوقت وأنا أنتظر طبعة هذا لعام بشغف كبير، ثم لم أتأخر في الحضور مع صديقتي الفنانة رجاء صغير.

وتواصل: "قصبة منعة العريقة ديكور عمراني مذهل و"خارق"، أجمل ما فيه أنه حافظ على نسقه العمراني منذ قرون. والأجمل على الإطلاق هو التقاء فنانين من الصحراء والشرق والغرب والوسط والشمال في قرية تسمى جوهرة الأوراس. أما مشاركتنا فسمحت لنا بمنحها وهجًا فنيًا وسياحيًا لائقًا بها".

وتضيف المتحدثة أنها قدمت نصوصًا من روايتها " ظلّ البحر" بمزيج مع موسيقى صوفية، كما عرضت بالشارع مجموعة لوحات عكست فيها التراث الجزائري، واحدة حول الهاشمي قروابي، وأخرى حول جميلة القبائلية، والثالثة حول عُمار شنوفي وهو أول قسنطيني سجّل أغنية مالوف في الأسطوانة بيد أنه ظلّ مجهولًا، وأخرى حول المرأة التارقية. أما اللافت، حسبها، فهو الجمع بين البعدين البصري والسمعي، حيث تواكب كل لوحة أغنية خاصة بالشخصية موضوع الرسمة. "سررت لأن الفكرة راقت للسكان والزوار. وطبعًا يكفينا كفنانين أن نستطلع الفرحة في عيون الحاضرين لنتشبع روحيًا عبر غنيمة التقاسم والمشاركة".

قرية منعة

عرائس وأعراس

في بعض الدور القديمة والأزقة انتصبت ورشات جعلت خصيصًا للأطفال، يشرف على إحداها متخصص في تطويع الفخار، يخاطبهم في لغة طفولية هادئة رغبة في تلقينهم كيفية تحويل ورقة شجرة إلى مشغولة يدوية عبر رموز مطبوعة في الطين، فيما يقوم آخر على تعليم طرق رسم وتلوين الرموز الثقافية والفولكلورية التي نجدها في الزرابي والأبواب والحلي التقليدية. في مكان آخر ركن مخصص لصناعة الدمى التقليدية بملبوسات محلية تعكس كل مناطق البلاد، ففن عرائس الكراكوز واحد من أهم الأنماط الموظفة في الأشكال المسرحية الموجهة لعالم الطفولة.

لا يُعدم أن ترى في أزقة المدينة القديمة أجواء فرح إيجابية، تذكرك بالربيع المزهر أسفل الوادي الأبيض حيث تنتشر روائح أشجار الرمان والتين والمشمش، فلطالما كان الفن رافعة أساسية للحياة، ومعبرًا عن أدقّ تفاصيلها، جريًا على ما قاله العبقري إسياخم ذات مرة.

"بلد دون فنانين بلد ميت، أتمنّى أن نكون من الأحياء"، وبعض مظاهر هذه الحياة جسدها السعيد مسعودي الذي كان يجوب الأزقة ضاربًا البندير مغنيا بصوته البديع الذي اشتهر به رفقة والدته في منطقة إسفولا، أما فرقة "نيوزيك" التي نشطت حفلات فنية في التراث الشاوي فقد فضلت أن تشرك كورالًا من الأطفال الذين صنعوا أجواء بهيجة. وإلى هذا تعلق سهيلة قرفي: "بعض النشاطات أقيمت خصيصا للأطفال، والفكرة هي أن الطفل الذي يتغذّى من الرسم والموسيقى ويتعرف على الدمى سيكون إنسانا مرهفًا متوازنًا في أفكاره وتفكيره الاجتماعي المفيد، الثقافة هي أساس بناء الإنسان، والفن يطوع الأحاسيس ويهذب السلوك الفردي والجماعي، وهؤلاء البراعم هم أشجار الغد في بستان الوطن".

قرية منعة

مفاجأة الجنوب

يروي الفنان التشكيلي والخطاط والرسام عبد الحق جلاب أصيل مدينة بسكرة، لألترا الجزائر تجربته

وملاحظاته، فيشير: "شاركت في صالونات دولية، في القاهرة وبيروت، وقد تركت معرضي في تونس محل اقامتي الجديدة، لأكون حاضرا هنا في هذه المعرض الفريد. وصدقني أنا مسرور للغاية، لأنه سمح لي باكتشاف طاقات فنية هائلة، خاصة لدى القادمين من الجنوب، وحقا فوجئت بمستوى فني هائل للمشاركات القادمات من تمنراست وورقلة وحاسي مسعود". فيما يعقب الفنان التشكيلي محمد زوكاني القادم من ولاية تمنراست: "عرضت ثلاث لوحات في قرية مذهلة يمكنها أن تكون ديكورا طبيعيا للأفلام السينمائية، أعدت رسم أسطورة أمالَلَن وإلياس، وهي تروي قصة نشأة الفن التشكيلي في صخور الطاسيلي، فأماملن هو أول مبدع لها، لكن أبن أخيه إلياس الذي تلقن منه سيتفوق عليه.

لذلك يلجأ العم لتدبير مكائد للقضاء على أبن أخيه، غير أن إلياس سيتفوق على جميع الخصوم المبعوثين، ما يعني أن الحياة تنتصر على الشر، وأن التفوق لا يخضع لشرعية تاريخية بل للموهبة والعمل"، قبل أن يعرج على التظاهرة في حد ذاتها: " سمحت لي الملتقى بالتعرف على فنانين وفنانات تشكيليات من مختلف مناطق الجزائر، ما من شأنه أن يؤدي بنا إلى إحداث التشبيك، عبر نسج العلاقات والبحث عن تبادل ثقافي مستقبلي. صراحة يمكن لهذه التظاهرة أن تتطور بشكل كبير، في حال تم توفير الدعم المادي الحقيق بها، كي تصير مهرجانا وطنيا كبيرا أو ملتقى دوليا، فكل مقومات النجاح متوفرة وفعلية".

قرية منعة

أحضان الأهالي

جسدت تظاهرة منعة فن التي جاءت نتاج تنسيق بين جمعية آجير وتازيري المحلية برعاية مديرية الثقافة للولاية، فكرة عملية هي التكفل الذاتي بالمشاركين عن طريق تدابير لا تتطلب الكثير من الأموال، أي العائق الأكبر الذي يقف حائلا دون تجسيد المشاريع. تقول سهيلة " وفرت لنا السلطات دعمًا لوجستيكا يخص النقل ووضع بعد دور الضيافة تحت تصرفنا، ولكن بما أن العدد يقارب الخمسين نفرا، فقد تكفل خواص بالمصاريف الغالبة، منها تذاكر الطيران للقادمين من أقصى الجنوب، كما تم اللجوء لصيغة إقامة المشاركين لدى السكان وفق بنود متفق عليها، تشمل أيضا توفير وجبات تقليدية مثل الشخشوخة و الكسكس و الزيراوي، للتعريف أيضا بفن الطبخ".

يجمع مشاركون ومنظمون على ضرورة تجاوز كثير من العقبات اللوجستيكية، أولها ضرورة بناء مبيت شباب بمنعة، حتى يتسنى استقبال أكبر عدد من زوار المنطقة خلال الطبعة القادمة أو حتى خلال تظاهرة عيد الربيع التي تقام كل سنة، وفي هذا الشأن يؤكّد فوزي بن عكسة رئيس جمعية تازيري لـ "الترا الجزائر: "بقى  الهدف الأسمى هو الترويج للفن، وتنمية التواصل بين الفنانين والسكان، ولفت نظر السلطات المحلية و المركزية لعمليات ترميم وصيانة قرية يتراوح عمرها ما بين ألف وألف ومائتي عام، و العمل على تصنيفها في لوائح اليونسكو حتى تكون قبلة سياحية تساهم في التنمية الاقتصادية للسكان".