07-يناير-2024
باتنة

حصة للغة الإنجليزية نظمتها أكاديمية عائشة للتعليم والتكوين في حظيرة بلزمة بأعالي باتنة (الصورة: فيسبوك)

تنتشر في السويد ودول أوروبية عدّة طريقة تعليم مبتكرة موجهة للأطفال، تجمع بين اللعب والدراسة، وتؤكد دراسات أن سرعة التلقين تصير بوتيرة أسرع كلما خُولِطت بالمرح. فاللعب يخفّف حدّة الضغط الذهني والنفسي ويوفر استرخاءً عصبيًا وذهنيًا يحقّق صفاءً يُنتِج استجابة كبيرة للتعلم.

طريقة تعلّم الإنجليزية التي تطبّقها أكاديمية عائشة في الفضاءات المفتوحة ترتكز على التواصل والتحادث لتوصيل الأفكار

هنا، في الجزائر، تقدم أكاديمية عائشة للتعليم والتكوين بولاية باتنة، شرق الجزائر، نموذجًا فريدًا في نقل تلك التجربة للطلبة المتمدرسين بها في تعلم اللغة الإنجليزية بطريقة سلسلة تجمع بين بعض الدروس النظرية وكثير من الدروس التطبيقية المعتمدة بالأساس على المحادثة، وأحيانًا يرْحلُ القسم برمّتِه إلى غابات الأوراس المجاورة للمدينة، تثمينًا وتقييمًا لِما تعلمه الطلبة بين الجدر المغلقة.

شيء من النحو وكثير من المحادثة

يحرص كثير من الجزائريين على تعلم اللغة الإنجليزية التي ترافقهم منذ عقود طويلة منذ المرحلة الابتدائية أو المتوسطة والثانوية ثم الجامعية، ومع ذلك لا يزال المستوى اللغوي متأخرًا، لا بسبب ضعف المكونين، بل جرّاء انعدام الطريقة المثلى للتلقين. خلافا للغة الفرنسية التي هي لغة مكتوبة فإن الإنجليزية تبقى لغة منطوقة، لذا فإن غياب فضاءات التحادث معضلة تهدد المكتسبات اللغوية بالاندثار التام في حالة عدم التوظيف المتكرر لها.

وفي هذا الصدد يكشف الأستاذ حمزة بلخضر الحاصل على ماستر اللغة والثقافة الإنجليزية من جامعة باتنة، وصانع محتوى وبرامج لتعلم اللغة الإنجليزية ومترجم بعدة مجلات علمية، وصاحب تجربة في مشاريع داخل وخارج الوطن، أنّ "تجربتي الطويلة في التعامل مع الإنجليزية، كشفت لي بأن اللغة كائن طبيعي يقوى بالاستعمال ويضمر بالإهمال، وطالما ليس هنالك فضاء قار ودائم للمحادثة، فإن التعليم يغدو كالنقش في البحر".

باتنة

ولهذا السبب تحديدًا، جرى التفكير في طرق عملية تعاضد منهاج "أنتر شانج كامبريدج" الذي يدرسه الأستاذ بأكاديمية عائشة، وتعتمد الطريقة على قليل من مادة النحو وكثير من التواصل والتحادث لتوصيل الأفكار، إذ يضيف الأستاذ بلخضر لـ"ألترا جزائر" أنّه "بالنسبة للأطفال لا أحبّذ دروس النحو بل أتركهم يتحدثون، أما بالنسبة للكبار فقليل من النحو يكفي للفهم، والكثير من المحادثة المستعملة في اليوميات."

ليكمل: "فأنت عندما تحادث سائحًا، فالأهم أن يفهمك وتفهمه، لا أن يجادلك في أخطاء تتعلق في استخدامات "الباست سيمبل" أو "الفيوتر كونتنيوز"، أمّا الإجادة فتتطلب في مرحلة أخرى السماع بمشاهدة الأفلام وسماع الأغاني وقراءة القصص والروايات، بخاصة أن المكتبات صارت تتوفر عليها تماشيا مع الانتقال اللغوي نحو الإنجليزية الذي تعمل عليه البلاد منذ سنوات".

مطبخ في القسم ومدرسة في الجبل

استوجبت التجربة أن يحضّر الطلبة بأنفسهم سلطة فواكه في القسم، وطبعًا فإن ذلك يشكل استتباعًا تطبيقيًا، لدرس متعلق بأسماء الفواكه والخضار واللحوم والبقوليات والأفعال الإنجليزية المستعملة في العملية ويتيح ذلك للطالب وصف العملية واسترجاع الأسماء والمسميات والأفعال بسهولة.

وهنا تقول سارة وهي طالبة جامعية فضلت الدراسة بالأكاديمية إنّ "طريقة تحضير سلطة الفواكه تطبيقيًا في القسم مكنتني من ترسيخها في الذهن. يشبه الأمر كما لو أنك تجالس طباخًا فيروي لك طريقة الإعداد، فتتحدث باللسان وتسمع بالأذن وتشاهد بالصورة، وأظن أن ذلك سيركز الطريقة في الذهن إلى الأبد."

قرّرت إدارة الأكاديمية وفي خطوة فريدة تنظيم شبه مخيم يومي، بحظيرة بلزمة لولاية باتنة، التي تبلغ مساحتها أزيد من 26.000 هكتار، بينها قرابة 6000 هكتار من الأرز الأطلسي النادر، والتي تحصي قِممًا جبلية شاهقة منها سلسلة جبال الشلعلع وقمة ثوقر 1094 متر، وقِمم تيشاو وبرجم، وفي هذا الصدد يشرح، رابح شافعي، مدير المدرسة المتخصصة في دورات تكوين في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وفق مناهج أوروبية معتمدة، لـ "ألترا جزائر" أنّه "في كل مرة ننقل طلبتنا خارج أسوار القسم، كسرًا للروتين وتجديدًا للطاقة."

ويعتبر شافعي أنّ "البيئة المفتوحة تُساعِد على نجاعة التلقين، فمثلا عندما يكون الدرس حول السياحة والأسفار فإننا نُقِيم درسًا تطبيقيًا في جولة بمدينة تيمقاد، أمّا إذا كان متعلقًا بالتسوق فإننا ننظم رحلة لمُول تجاري كبير، أمّا إذا كان الأمر متعلقًا بالأكل والطعام فقد قرّرنا أن ندرس في غابة الأرز بحظيرة بلزمة الوطنية، أكبر غابات باتنة التي تتوزع بين 7 بلديات بينها مدينة باتنة".

الطريق للدرس جنّة خلابة

فرصة مرافقة الطلبة والطالبات لحضور الدرس كشفت لنا أن المكان لم يُخْتَر عبثًا، يمكنك استشفاف ذلك من عيون أولئك الذين يزورونه لأوّل مرة، فعلى ارتفاع جبلي بتيزي نتڨنطيست – ثنية الڨنطس- يمنحك ذلك نظرة بانورامية تشمل طريق مرخا الملتوي بين الجبال كالثعبان، وأفقي جبلي تيشاو والرفاعة، قبل أن تجد نفسك في درب ترابي عمرت فوقه بقايا ثلوج متجمدة عبر نفق طبيعي تتخلله أشجار الأرز الأطلسي الباسقات، وزقزقة طيور القرقف.

يوفر هذا المناخ الطبيعي طاقة هائلة تُساعِد على انشراح الصدر وسط الخضرة المتلألئة تحت عواميد الشمس، وهو إلى جانب ذلك فرصة للسياحة والرياضة بما أن المسار نصف ساعة مشي لبلوغ القسم المفتوح بالقرب من منزل حارس الغابة المهجور.

يتناول الطلبة الكلمة فرادى لتحديد غاية الرحلة ووصف المناظر والأشجار باللغة الإنجليزية، ويتدخل الأستاذ حمزة بلخضر، للإشادة تارة وللتصحيح تارة أخرى، محذّرًا في أخرى "نو.. أرابيك بليز" (لا كلمات عربية من فضلكم)؛ تتكرر محادثات الطلبة خمس عشرة مرة، فيصيح الطالب ناصر وهو صحفي "إن السماع المتكرر لتدخلات الطلبة بالإنجليزية، يساهم في دمغ الكلمات والأفعال في الذاكرة بصفة أبدية، ففي الإعادة إفادة."

تدرك أن من بين الأسباب العميقة التي دفعت المختصين في علم الإجرام إلى إنشاء مؤسسات عقابية مفتوحة تسمى البيئة المفتوحة هي منح السجناء القدرة على اتقان أعمالهم بسخاء، والظاهر أن الفكرة التعليمية الجديدة ترمي أيضًا كي لا يتحول القسم جراء الروتين إلى سجن، وحتى الهندسة المعمارية توصي بتوخي الأشكال الهندسية الدائرية في تشييد الملاعب بدل المعمار المربع والمستطيل المغلقين، لتخفيف حدة التوتر لدى المتفرج الذي يرتاح للمدى المفتوح ويقرف من الأفق المغلق.

التلقين اللذيذ لأفعال الطهي

يلتفُّ الطلبة في شكل حلقة بعد نصبِ الأغراض والمؤون المجلوبة، ويبدؤون في عرض أفكارهم بالإنجليزية ترتيبًا، حول مختلف المراحل اللازمة، وتنطلق من تجميع الحطب وتحضير الجمر، وإيقاد النار، ثم استعراض أسماء المعدات اللازمة لطهي طيق "عجة بالمرڨاز"، وما تتطلبه من نقانق وثوم وفلافل حارة وحلوة وملح وزيت زيتون، ثم تُعِدُّ طالبات سلطة فواكه مشكلة من موز وتفاح وتمور وبرتقال وياغورت.

مرقاز

وعلى كل طالب أن يُسمِي كل تلك المسميات بالإنجليزية، قبل أن ينتقل الأمر إلى استخدام الأفعال اللازمة مثل الغسل والقطع والسحق والتليين والعصر والخلط والتحريك، والخفق، وحذار من استعمال الدارجة أو العربية، فكل خطأ من هذا القبيل يكلف صاحبه نقطة ناقصة في التقييم النهائي للاختبار، وفق ما وقف عليه "الترا جزائر".

أما الجزء الأول من الورشة فيشمل منافسة بين فريقين، يقوم الأستاذ بعرض صورة على عضو من الفريق الأول بطريقة سرية، مثل صورة قرد وعليه أن يصفه بكلمات إنجليزية لزملائه بلا حركات وإيحاءات وعلى زملائه إيجاد الإجابة للحصول على نقطة في ظرف محسوب بثلاثين ثانية، وقال أحد الطلبة: "حيوان مولع بالموز" بالإنجليزي فأجابت إحداهن "مونكي" أي قرد، لتكسب نقطة.

بلزمة

أمّا إذا تعذّر الجواب فمن حق الفريق الخصم أن يُجيب للاستيلاء على نقطة إضافية، وهكذا دواليك قبل أن تدب قهقهات بعد ارتكاب أحدهم لخطأ في النطق حين أراد وصف صورة "همبرغر" لزملائه مستخدما عبارة "ليتل بيرد" فشرع زملاؤه بالإجابة "ببغاء"، قبل أن ينفجر الأستاذ ضاحكًا: "هل هناك خبز يطير؟" مُصوِّبًا الهفوة "براد" هو الخبز و"بارد" طير. إن حركة نطق خاطئة في حرف تفسد المعنى".

أما القسم الثاني من اللعبة فيتمثل في قراءة الأستاذ لألغاز بالإنجليزية منتظرًا إجابة أحد الفريقين المتنافسين، في جو يشبه السجال المحموم، مؤكدًا أن هذه الطريقة تساعد على تطوير القدرة على السماع وتطوير إحدى مهارات اللغة الأكثر استعمالا في العالم.

شهية لغوية طيبة

بعد تناول الوليمة وكانت "عجة بالمرڨاز" وشرائح صدر دجاج مشوية على الجمر وسلطة فواكه، يلخّص كل طالب حجم تلك الاستفادة بلغة إنجليزية، وقالت الأستاذة شفيقة سعادي وهي طالبة دكتوراه في الإعلام والاتصال بجامعة باتنة: "هي حقًا تجربة مثيرة بالنسبة لي، أولاً لاستكشاف جمال الطبيعة الخلاب والمناظر الطبيعية الساحرة التي تحولت إلى لوحات فنية بين أضواء الشمس وظلال الجبال، وكانت فرصة لاختبار مدى تقدمي والفريق ككل في تعلم اللغة الإنجليزية من خلال توظيف أفعال الطبخ والحوارات التي دارت بيننا وحل الألغاز والألعاب الفكرية."

باتنة

وتضيف: "أشعر أن تلك الدروس ترسخت في ذهني إلى الأبد، وكل هذه الأجواء منحتني طاقة جدّ إيجابية وروحًا جديدة لمواصلة تعلم لغة شكسبير، التي رافقتنا على مدار يوم كامل بغابات بلزمة التاريخية".

في طريق العودة التي تستغرق رياضة مشي لنصف ساعة يتمنى الطلبة العودة لزيارة غابات أخرى، تطبيقا للتعلمات المكتسبة، وفي شبه اعتراف أكد أحدهم بالدارجة: "كانت الوجبة الدراسية أشهى من الوليمة الحقيقية، إنها تمنح الجرأة على التكلم، وهذا أهم ما في هذه التجربة التي تفتح شهية التعلم على مصراعيها". فرد الأستاذ "نو أرابيك. أونلي إنجليش" (لا عربية.. فقط إنجليزية).