04-يناير-2024
قلاع الأوراس

(تركيب: الترا جزائر)

إلى جنوب إقليم الأوراس، شرق الجزائر، تنتشر ومنذ قرون طويلة قلاع كثيرة، شيَّدها الأسلاف من وحي عبقريتهم الخاصة، تلك التي اعتمدت على فكرة عمرانية ذات أهداف متعددة، أولها الحفاظ على هوية المجموعات الإثنية الشاوية، والاكتفاء بالذات إزاء الأغراب والغُزاة، بتنظيم الشؤون العامة الأمنية والاقتصادية في آن واحد.

أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة باتنة طارق مباركي لـ "ألترا جزائر": الهندسة المعمارية لقلاع الأوراس مندمجة تمامًا مع الطبيعة، وهذا الاندماج يعود دون شك إلى التاريخ، ولا علاقة لها بخط الليمس الروماني

وأُسّست تلك القلاع في الشواهق الوعرة، والمنحدرات المخفيّة، القريبة من منابع المياه، واعتمادًا على مواد أولية متوافرة، من حجارة وطين وخشب الأشجار وجذوع النخيل.

عبقرية البدائيين وصدمة تيريز ريفيير

بلا ريب، شعر العلماء الأنثروبولوجيون الذين تقاطروا، في ثلاثينيات القرن الماضي على المنطقة، وأبرزهم، جرمان تيون وتيريز ريفيير، بالصدمة العمرانية عندما اكتشفتا أن تلك الأقوام "البدائية"، كانت قد بنت وبدهور سبقت قيام الجمهورية الفرنسية، وخلال القرون الوسطى، دُورًا وقِلاعًا تناغي بعضها عنان السماء بسبعة وإثني عشر طابقًا.

تشير إحصائيات إلى أن عدد "ثيقليعين"، اللفظة الشاوية للقلاع، كانت بلغت في مجملها 113 قلعة، وهي تُبنى في العادة بتقنية ومواد محلية، بالحجارة والطين والأغصان، ما يمنحها طابع الاندماج في التضاريس والتموّه من فوق هضبة مهيمنة، في الطبيعة بالطبيعة، كما لو أنها أبراجُ مراقبة.

وأما بيوت القرى فتتمدّد على قاعدة لتشرع في الارتفاع عبر أزقة ودروب لتشكّل في الأخير نِظامًا هلاليًا يحتوي فضاءً عامًا مشتركًا عبر الأفنية والساحات الصغيرة.

يشرح الدكتور طارق مباركي، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة باتنة لـ "ألترا جزائر" هذه النقطة، قائلًا: "الهندسة المعمارية مندمجة تمامًا مع الطبيعة، على حد تعبير المدارس العصرية وهذا الاندماج يعود دون شك إلى التاريخ، فالقرى الأوراسية لا تُرى إلاّ في بعض ساعات النهار أو بعبارة أخرى لا تظهر للعيان إلاَّ عند طلوع الشمس وغروبها، أما في منتصف النهار فهي لا تميز من الجبال والصخور أو الرمال فلا تكاد تفرق بين المنازل المصطفة طولا والصخور التي بنيت منها، كما لو أن تلك القرى هي جبال من سلسلة الأوراس الإمبريالية."

حبال من حلفاء وأقفال من طين

تضمُّ كلّ قلعة عوائل أو قبيلة مشتركة، وقد يرتفع إلى كنفدرالية قبائل، بحسب المكونات المتنوعة للقبيلة الواحدة. وهي ثلاثة أنواع، "قلاع دفاعية" وتسمى بالشاوية "أهنشير"، وتُبنى في الغالب على أنقاض موقع قديم، ولا يمكن الوصول إليها بسهولة ذلك أن لها ممرات سرية تشبه الأنفاق، وتُتخذ بالأساس مخبأ لمواجهة هجمات الأعداء الخارجيين، من قبائل متحرشة.

ثمّة، أيضًا، نمطان آخران هما "القلاع السكنية"، التي تُبنى قرب العيون وتضم أفراد القبيلة الواحدة لضمان عيشها المشترك، أما النمط الثالث الأكثر تميّزًا لاختصاص منطقة الأوراس به، فهي قِلاع التخزين الجماعي أو ما يطلق عليه "إِيغَرْمَانْ" أو "إِيمَخْزَانْ"، وتُشيّد في قمة هرم القرية كما لو أنها "بنك شعبي"، يجمع فيه الأهالي مخزونهم الإستراتيجي من محاصيل زراعية كالحبوب والتمور والعسل والحلي الثمينة، وحتى العنز والماشية.

ولكونها مُخصّصة للجماعة المحلية فيضمُّ بعضها ثلاثمائة غرفة، وتتراوح مساحة الغرفة الواحدة بين مترين عرضًا إلى أربعة وسبعة أمتار طولًا. وتملك كل عائلة غرفة على عاتقها، فتتولاها بالترميم والصيانة وتحوز مفاتيحها. أما إيداع المدخرات من أملاك غذائية وغيرها فيخضع لطريقة خاصة تشبه الرقم السري وشيفرة التأمين، فقبل استخدام الأقفال والسلاسل الحديدية، لجأ السكان الراغبون في استيداع حوائجهم إلى تشميع تلك الغرف بحبل منسوج من مادة الحلفاء المطلية بالطين، قبل أن يُعلم عليها برمز خاص قبل جفافه، ويمنح هذا قدرة التعرف عليها، والتأكد من عدم تعرضها للفتح من قبل الأغراب.

نظام عرفي صارم من 17 قانونًا

توفّر القلعة نظامًا صارمًا لحراسة "المدَّخرات"، عبر قانون عرفي، فيُعيَّن لها حارس مستقيم بنزاهته، يتولى السكن فيها على مدار العام، ويمكنه الاستعانة بحارسين آخرين في فترات الحروب والنزاعات الخطيرة.

يقول الدكتور لونيسي عبد الحميد مؤلِّف "القلاع في الأوراس دراسة تاريخية وتراثية" لـ "ألترا جزائر" إنّه "في واقع الحال فهذه القلاع بنوك ومتاجر قديمة ابتدعها السكان الأمازيغ قبل قرون طويلة، أولًا لتأمين حاجاتهم السنوية، الفردية والجماعية، والتي قد يُلجأ إليها وقت الأزمات والحروب والجوائح، أو حتى التحصُّن داخلها."

وتابع الدكتور لونيسي بأنّ "الباحث الفرنسي جون موريزو، ذكر، في كتاباته أنّ هذه القِلاع تضمُّ فناءً أو عدة ساحات داخلية لتجميع السكان والماشية في فترات الفوضى وعدم الاستقرار. وهي تخضع لأكثر من 17 قانونًا عرفيًا يتضمن من بين ما يتضمن طرق التأجير والكراء وحقوق الحارس وواجباته، وطرق دفع أجرته."

الكاتب لونيسي عبد الحميد لـ "الترا جزائر": القلاع جعل منها الأهالي الأمازيغ بنوكًا ومتاجرًا قديمة لتأمين حاجاتهم السنوية، الفردية والجماعية، وملجأ في وقت الأزمات والحروب والجوائح للتحصّن

ليكمل: "فهي إذن تنطوي على هندسة معمارية متينة تخضع لطرق بناء ذات تِقانة وتضمر فكرة اجتماعية، وهي ذات بعد اقتصادي واضح. لذا صنعت هذه القلاع دهشة الإِناسيين الذين تهافتوا لدراسة أقوام كانوا يعتقدون أنهم يعيشون بطرق فوضوية ليكتشفوا نمط حضارة تقليدي."

كمّا خلف ذلك دهشة الكولونيل دولاتريغ، الذي اعتبرها ذات طبيعة إستراتيجية تضمن سهولة الدفاع عنها لوقوعها في مرتفعات شديدة الانحدار عصية على السيطرة، يروي الكاتب الدكتور عبد الحميد لونيسي.

ووظف الباحث جون موريزو مصطلح الجمهوريات في توصيف القرى ذات القلاع، وهذا يعني أنها ذات معنى اجتماعي واقتصادي يملك روح الشرائع ومبدأ الجماعة، أي نفس أسس المدن الحديثة.

تبدو هذه البنايات الحربائية المتلبسة بلون طبيعتها الصخرية الغضارية والأرجوانية غير مرئية، فقلعة ثابندوت الواقعة في جبل أحمر خدو قرب سيدي المصمودي ببسكرة، مشيّدة في علو جبلي لا يمكن الولوج إليها سوى عبر معبر خشبي أو جسر معلق يربطها بجبل مقابل، وحسبما رواه سكان المنطقة لـ"الترا جزائر"، فإن الأهالي كانوا فيما مضى ينقلون مؤونتهم إليها عبر "حصان أعور"، كي يبقى مركزا بتلك العين الوحيدة في مساره الدقيق، وكي يتحاشى السقوط من علٍ في حال كانت عينه الثانية سليمة تفتح له زاوية النظر الواسعة باتجاه الأسفل، ثم يسحب الحارس الجسر ليغدو بابًا مغلقًا، في وجه الزمن.

أمّا قلعة ثاجمينت المشيدة في جبل صخري بمنطقة مزيرعة ولاية بسكرة، المسماة ملجأ الكاهنة فلا يمكن دخولها سوى بحبال تأخذ شكل السلالم الخشبية غير المرئية، أو عبر أدراج حجرية طبيعية.

في مواجهة خط الليمس الروماني

تنتصب هذه البنايات الحصينة ذات الأدوار، جنوب شرق ولاية باتنة، مثل بالول وإِيڨلفن ببلدية تيغرغار دائرة منعة، وأيث منصور في أدّار نتاسليث، كاف العروس، ببلدية غسيرة، وفي مناطق أخرى من ولاية خنشلة مثل قلعتي تيزقريرين وخيران، وفي ولاية بسكرة كقلاع ثوخريبت ببانيان وجمينة قرب مزيرعة، وثابندوت بسيدي مصمودي.

تموضعها الجغرافي على تُخُوم بلاد الصحراء والجنوب جعلها في تماسٍ قريب مع خط الليمس الذي أنشأه الرومان في القرن الثاني الميلادي، لصدّ هجمات القبائل البربرية المتمردة على الاحتلال الروماني وسياسة الرومنة، وهو خط ممتد جنوب شمال أفريقيا، من ليبيا حتى المغرب الأقصى مرورًا بالأوراس وباقي المناطق شرقًا وغربًا.

الرومان

ودفع هذا النظام كثيرًا من المؤرخين إلى الاعتقاد بأنها من نتاج خط الحرب الروماني غير أن الدكتور لونيسي عبد الحميد يعقّب في إفادته لـ"ألترا جزائر"، مفندًا ذلك: "بعض التحليلات تُشير إلى ذلك بالنظر لوقوعها في تماس مع خط الليمس الروماني، وهو طرح يبدو لي غير مستقيم مع التاريخ، فهذه القلاع أمازيغية صرفة، لأنّ هذه الربوع لم تخضع بالمطلق لسيطرة الرومان الذين جابهوا هنا حروبًا ضروسًا من قبائل النوميد المحلية."

ويعتقد محدّثنا أنّ "أغلب الأعراش القاطنة في هذه المناطق المتاخمة للصحراء هي نصف مهاجرة، فهي تعرف رحلة الشتاء الذي تمضيه في الصحراء، وعودة الصيف الذي تقضيه بالقلاع، وبما أنه كان يصعب عليها نقل كل الممتلكات خلال فصول البرد، فهي تدخر الفائض منها، لتستعمله في موسم الحر الشديد".

ناقوس الخطر في بالول وإِيڨلقن

تُنسب بعض القلاع لأصل سكانها، من خلال لفظة "أيث" أو "أث" والتي تعني "بَنُو"، فقلعة كباش تنسب لأيث عبد الرحمان كبَاش، نواحي مشونش ببسكرة، وقلعة أيث منصور الواقعة بكاف لعروس بلدية غسيرة التي تضم 112 غرفة و6 أفنية صغيرة وتعلو بعض أجنحتها بارتفاع أربعة طوابق. أما أشهر هذه الهياكل الحجرية فهما قلعتا إِيڨلفن وبالول ببلدية تيغرغار دائرة منعة، ولاية باتنة، واللتان صنفتا العام 2005 موقعين محميين من طرف وزارة الثقافة، إذ يبلغ عمر الأولى 300 سنة حسب تقدير تيريز ريفيير، وتتكون من 57 غرفة، مساحة كل واحدة 2 متر، وتعلو على طول 7 طوابق. وتشتمل الثانية 11 جناحا، وهي بنيت منذ 400 وكانت تطاول السماء بـ 12 طابقا قبل أن ينهار بعض منها خلال العشرية السوداء.

على الرغم من القيمة التاريخية والعمرانية لهذه الشواهد الحضارية، الموغلة في القدم، فإن أغلب هذه الشوامخ الهندسية أضحت آثارًا بعد عين، وأما الباقي منها فمُهدّد بالانهيار والاندثار، بعد أن تهاوت بعض طوابقها وعشش فيها الشوك والشيح ونبات الحرمل، ما حتم على نشطاء وحركات جمعوية تنظيم رحلات ميدانية، قبل عدة أشهر، أُتبعت بندوات أكاديمية طالبت اعتماد برامج استعجالية لأنقاد قلعتي بالول وإيڨلفن.

والأهم من ذلك استرجاع مهارات بناء الأسلاف وإعادة استنساخ تلك التقنية الضاربة في القدم والناجعة في مقاومة عوامل الطبيعة، إذ أن أقدم تلك القلاع لم تندثر سوى بعد قرابة الألف عام. يتأتى ذلك عبر البحث الجامعي في معاهد الهندسة المعمارية، كي لا تمحى تلك المعارف من الذاكرة نهائيا. وبين هذا وذاك أمر عاجل، هو إطلاق برامج صيانة وترميم حفاظا على البقاء العمراني لناطحات الجبال ثم تحويلها إلى مواقع سياحية تساهم في اقتصاد ساكنة القرى الواقعة بالجوار.