11-أكتوبر-2023
مدينة ميلا العتيقة (الصورة: فيسبوك)

مدينة ميلا العتيقة (الصورة: فيسبوك)

قبل عدة أشهر تداول رواد التواصل الاجتماعي الكثير من التدوينات حول تسمية اللاعب الجزائري رياض محرز ابنته ميلا، وذهب بعض المتابعين  إلى تفسير أو تأويل ما أشيع أنه تصريحات منسوبة إلى زوجة محرز مفادها أنها "سعيدة بأن تحمل ابنتها اسم مدينة جزائرية".

كشفت حفريات باشرتها الجهات الرسمية في سنة 1968 عن كنيسة رومانية مسيحية تحت أنقاض أقواس الجامع

يخطئ من يظن أنّ سبب اندهاش الكثيرين هو جهلهم بوجود مدينة جزائرية اسمها ميلة، فهناك من يعرفها جيّدًا؛ فلكل مدينة جزائرية تاريخ ضارب في في تاريخ الحضارات المتعاقبة، وبما أن الحديث عن أي مكان هو في الحقيقة رحلة سفر تغرقنا في التفاصيل، ولن تكون الزيارة له عابرة أو خاطفة، خاصة وأن "مِيلاَفْ" أو " مِيلْ أُفْ" تضم عدة حضارات تعاقبت عليها، وأنجبت العديد من الشخصيات والأسماء قليل ما يذكرون.

جمهور " قلعة الكؤوس"

نعود إلى اللاعب الجزائري رياض محرز، الذي كثيرًا ما يصنع ضجة إعلامية ويصنع فرحة الجزائريين ومحبين وجمهوره أيضًا، منذ أن كان في نادي مانشستر سِيتي الإنجليزي، وذاع صيته بمهاراته في البساط الأخضر، وأحدث انتقاله الاحترافي من المنافسة الأوروبية إلى الدوري السعودي للمحترفين من بوابة نادي "الأهلي".

أداء محزر البارز في كتيبة المنتخب الجزائري الأول لكرة القدم، كان مفتاحًا لعشاقه للدخول إلى حياته الخاصة والبحث عن تفاصيل حياته بالإضافة إلى مراوغاته في الميدان في النادي "المَلَكِي" أو" قلعة الكؤوس" كما يلقب نادي الأهلي التي شجعت كثيرين للسؤال عن هوية ومعنى اسم ابنته المرتبط فعلًا باسم منطقة جزائرية.

اسم وتاريخ

بين مدينتي قسنطينة وسطيف شرق الجزائر، تقع مدينة ميلة؛ وهي التسمية الحالية للمدينة، التي تبعد عن العاصمة الجزائرية بـ 490 كيلومترًا تحدُّها كل من مدينة جيجل وباتنة وأم البواقي وأيضًا خنشلة، إلا أنها تتوسط حدود جبال الأوراس وجبال البابور، في تخوم أطراف المساحات الخضراء الفاصلة بين شرق ووسط البلاد.

الحديث عن مِيلَا كما ينطِقها السكان، يقودنا للحديث عن تعاقب عدة حضارات عليها: من الوندال والبيزنطيين والرومان والأمازيغ إلى غاية الفتوحات الإسلامية وما تلاها من محاولات الاحتلال الفرنسي لطمس معالم تاريخية تحتفظ بها الذاكرة الجزائرية إلى اليوم.

مدينة تجمع شمل عدة مناطق شرقية للجزائر بفضل سد بني هارون الذي يعتبر أكبر سد في الجزائر وفي أفريقيا، ويموّن خمس ولايات بالمياه، كما اشتهرت بالأراضي الفلاحية، وبساتين التفاح والعنب، والزّراعة الغذائية كالقمح والشعير والزيتون.

تتفق الأبحاث التي اطلعت عليها " الترا جزائر" أن ميلة، حظيت باسم " عاصمة المياه في الجزائر"، لأنها تحوز على منابع ماء كثيرة، وهو ما جعلها تأخذ تسمية "مِيلاَفْ" أو " مِيلْ أُفْ" وهي تسمية رومانية تعني " ألف منبع ومنبع"، إذ يشير الباحث كريم بو حبل، أصيل المدينة في تصريح لـ" الترا جزائر" بأن الرومان عادة ما ارتبطوا بالماء، فقد كان الماء متوفرًا في جوف أراضيها، انطلاقًا من جبل مارشو، وهو أيضًا سمي لذلك بسبب غزارة مياهه وعذوبتها كمصدر طبيعي للماء.

ويضيف بوحبل أن المدينة، تحوز على عيون كثيرة، منها ما بقي جاريًا ومنها من انقطع، وهو ما جعل العديد من مناطقها تحمل تسميات مرتبطة بعيون الماء مثل عين التين وعين الكبيرة، وعين مارشو، وعين سيدي خليفة، وعين وادي النجاء، وعين البْلد التي تستوطن قلب المدينة القديمة.

لقد حظيت ميلة كما تكتب في الإدارات الرسميةن بالعديد من الأسماء التي تعكس مختلف الحضارات التي مرت عليها، كما يقول الباحث بوحبل، يمكن أن نذكر منها: "أمْلُو" وهي كلمة أمازيغية تعني الظلّ، ويعتبر هذا الاسم لصيقًا بمكونات المدينة الطبيعية، ويفسره وفرة الظلال في عدة مساحاتها لكثرة الأشجار والبساتين التي تحيط بها، فضلًا عن تنوع الغلال والفواكه التي تنتجها أراضيها الزراعية.

كما حملت تسمية "مِيلْيُوسْ" لدى البيزنطيين لتتحول إلى "مِلُوفِيثَانَا" في فترة الوندال وكلاهما تعني "مدينة الجمال"، ثم أطلق عليها الرومان اسم "مِيلاَفْ" وتعني مدينة الألف منبع لأنها كثيرة المياه العذبة، بينما فضل الفاتحون تسميتها "مِلَاحْ" لجمال روابيها وجبالها وهواءها النقي، لتستقر التسمية على مِيلَة إلى يومنا هذا.

من تلمسان إلى مِلَاحْ

كما فعلت ابنة محرز التي أعادت إحياء اسم مدينة، بالرغم من أن والدها رياض الذي ينحدر من قرية آيت سنوس بولاية تلمسان غرب الجزائر، جمعت "مِلَاحْ" أثناء الحضارات إلى غاية الفتوحات الإسلامية شمل الجزائريين في مختلف حواضر وقرى وجبال المناطق الشرقية للجزائر، إذ تظلّ معالمها التاريخية شاهدة على ذلك.

فعلى مسافة الـ 1200 مترًا، يمتد السّور الروماني، الذي يحيط بالمدينة العتيقة والسوق الشعبي وبيوتها العتيقة، إذ كان حصنًا منيعًا تحتمي به الجيوش من الغزاة في مراحل من مراحل التاريخ الجزائري، بالإضافة إلى جامع سيدي غانم الذي يؤرخ لمرحلة مهمة في تاريخ الجزائر، ولازال لليوم عنوان الحضارة الإسلامية، ومعلمًا يصارع الانهيار رغم الترميمات التي باشرتها مديرية الثقافة على مستوى الفضاء العتيق للمدينة ومنها الجامع والآثار المترامية في المساحة المحيطة به.

أخذت "مِيلاَفْ" صيتها من أول مسجد بني في الجزائر خلال غزوة الصحابي عقبة بن نافع للشرق الجزائري لنشر الدين الإسلامي، فشيّد الصحابي أبو المهاجر دينار مسجد سيدي غانم بالمدينة العتيقة في عام 59 للهجرة الموافق سنة 678 ميلادية، إذ أقام الأخير سنتين بالمدينة.

إلى هنا، يشدد السعيد بن عبد الرحمان القاطن بالمدينة العتيقة ليومنا أن تسمية سيدي غانم مرتبطة أساسًا بأحد الأولياء الصالحين من شيوخ المنطقة ومن رجالات العلم والمعرفة، على حدّ قوله.

كما فعلت في ربوع الجزائر، أقدمت جيوش الاحتلال الفرنسي على تدمير منارة الجامع في سنة 1839، وبقيت أقواسه فقط إذ تشير الوثائق المتوفر بأن "المنارة كانت من أعظم المنارات ببلاد المغرب وفي شمال أفريقيا، وكان لها 365 درجة (سلالم) التي ترمز إلى عدد أيام السنة وعند صعود الزائر لها تلك الدرجات لآخرها تظهر له أبواب مدينة" قسنطينة" عاصمة الشرق الجزائري".

بالموقع الأثري بالمدينة، يجد الزائر لوحة فنية للمنارة رسمها الفنّان الفرنسي دو لامار في سنة 1842، الذي يعد من بين الفنّانين الفرنسيين الذين تمّ إرسالهم إلى الجزائر لرسم الآثار الرومانية في مختلف مدن الجزائر، بهدف تبرير احتلال الجزائر على اعتبار أنها امتداد جغرافي لأوروبا.

كما تُفيد معلومات التي حازت عليها "الترا جزائر"، بأن المنارة في ميلة بنيت على أنقاض صومعة لدار عبادة مسيحية، وبعد تهديمها ثم استخدمت حجارتها لبناء كنيسة في فترة الاستعمار الفرنسي بهدف طمس الهوية الجزائرية الإسلامية.

وخلال فترة ما بعد الاستقلال، كشفت الحفريات التي باشرتها الجهات الرسمية في سنة 1968 عن كنيسة رومانية مسيحية تحت أنقاض أقواس الجامع.

ظلت المدينة تصارع الزمن رغم وعود الترميم التي أطلقها المسؤولون المتعاقبون على وزارة الثقافة خلال السنوات الماضية، ليحظى المعلم التاريخي اليوم بعملية ترميم ويكون قبلة سياحية للزوار وشاهدًا على حقبة تاريخية وصفحة من صفحات المدينة العتيقة.

ثمن باهض للسياسة

ارتبط اسم مدينة ميلة بعديد الشيوخ الذين أثروا مدارسها بتعلم القرآن الكريم واللغة العربية فترة الاستعمار الفرنسي من بينهم: الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ مبارك الميلي والشيخ محمد البشري الإبراهيمي وغيرهم من رجالات العلم والمعرفة الذي قادتهم رحلته الفكرية للمدينة، كما أن تاريخ المدينة ارتبط بالثورة التحريرية من خلال العشرات من الأسماء من الثّوريين والشهداء، منهم: مؤسس المخابرات الجزائرية عبد الحفيظ بوصوف المدعو في الثورة التحريرية "سي مبروك" الذي توفي في ديسمبر 1980.

وأيضًا اسم الراحل سليمان بن طوبال المعروف في الثورة التحريرية باسم " لخضر"، وأحد الذين شاركوا في تأسيس المخابرات الجزائرية، إلا أن السياسة فشلت في المهمة السابقة الذكر، الذين تفرقت آراؤهم ومشاربهم السياسية خلال فترة حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إذ تذكُر التقارير الإعلامية أن الرئيس الراحل لم يزر المدينة في خرجاته الرسمية التي نقلته إلى معظم الولايات الجزائرية لإطلاق ومعاينة المشاريع، وذلك لأسباب تاريخية ربطته بماضيه الثوري بالمدينة.

دفع سكانها الثّمن غاليًا، إذ لم تحظ المدينة بالتنمية كغيرها من المدن المحيطة بها، إلى غاية السنوات الأخيرة وإن أبدى سكانها تفاؤلًا بالتسيير الإداري للولاية، فلأن  المسؤول الأول عليها فرض "منطق فتح ملفات تعود إلى ثلاثين سنة كاملة" وإشرافه ميدانيًا على إطلاق المشاريع ومعاينته اليومية على إنجازها، منها تعبيد الطرقات الرابطة بين عاصمة الولاية والمدن المتاخِمة لها.

لم تحظ المدينة بالتنمية كغيرها من المدن المحيطة بها، إلى غاية السنوات الأخيرة

يضاف إلى كل هذا يجري فتح مشاريع  تربطها عبمدينة جيجل، باعتبارها مدينة تستقطب الآلاف من الزوار في الفترة الصيفية، وتكون ميلة حلقة ربط تيسر تنقل الملايين من المواطنين من ساكنة ولايات خنشلة وباتنة وأما البواقي ومسيلة في موسم الاصطياف، والتنقل أيضا نحو عديد المصانع والمنشآت الصناعية، فضلا عن مباشرته لعدة مشاريع سكنية وخدماتية يستبشر سكانها بعودة الحياة للمدينة واستعادتها الروح النابضة، كيف لا وهي عاصمة المياه بامتياز والماء هو إكسير الحياة؟.