18-يوليو-2022
ناصر الدين دينيه

ناصر الدين دينيه/فرنسا

ظلّت القرية الجزائريّة في صدارة الفضاءات التّي تتجلّى فيها ملامح الهوّيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة والحضاريّة للجزائريّين، فلا يُحيل بعضها إلّا عليهم، فيما يشتركون في بعضها مع مجتمعات عربية وأفريقية ومتوسّطيّة، غير أن هناك طقوسًا من المخيال الشعبي تجمع بين "الغرابة" والقداسة في المجتمعات الجزائرية.

تخرج النّساء اللّواتي بلغن الحيض بعيدًا عن الرّجال والأطفال فينظفن القمح، في إشارة من المخيال الشّعبي إلى انعدام الفرق بين الأرض والمرأة التّي بلغت سنّ الرّشد في الخصوبة

لكنّ تحوّلات كثيرةً حصلت، على مدار سنوات الاستقلال الوطني، جعلت بعض الطّقوس والعادات والتّقاليد القرويّة إمّا ينحسر أو يندثر، مع الإشارة إلى تفاوت المناطق في التّمسّك بها والتّخلّي عنها.

طقوس الحصاد والدّرس.. سنابلُ يتيمة

رأيت طفلتين تعتليان بيدر القمح قبل درسه، أثناء إقامتي القرويّة هذه الأيام، وهو سلوك مرفوض في العرف القرويّ؛ إذ يُعامل المحصول بقداسة، فلا يُداس ولا يُقال في حضرته كلام بذيء أمّا سبّ الدِّين، فأمر جالب للضّرب لأنه مُذهِب للبركة.

يُسمّى القمح القليل المحصود "قلّوزة". ويُسمى كثيره "نادر". وتسمّى القبضة منه "غمُر". يُربط بالحلفاء أو بنبات الدّيس؛ وهو أحرشُ الحواف، فيجرح اليد التّي تقبض عليه.

يُربط "الغمر" حتّى لا تتوزّع سنابله، فيستعصي تناولها للدّرس، سواء بالآلة الحاصدة أو باستعمال البغال أو الأحمرة أو الثيران التّي تُربط إلى عمود في وسط قاعة الدّرس تُسمّى "المرنونة"، وتتحرّك بشكل دائريّ، حتّى تفصل بحوافرها القمح السّنابل.

تلي عمليةَ الدّرس عمليةُ التّذرية؛ حيث يُرفع الحَبُّ قمحًا كان أم شعيرًا إلى الأعلى، مخلوطًا بالتّبن، بآلة تسمّى "المدرة" في المرحلة الأولى، وتسمى "اللّوح" في مرحلة لاحقة يصبح فيها الحَبّ أقوى من التّبن، فتعمل الرّيح الخفيفة على فصلهما. وتسمّى تلك الريح "العون"؛ وينهى المخيال القرويّ عن التّذرية إذا لم يتوفّر العون. ويعتبر ذلك مخلًّا بآداب التّعامل مع المحصول الذّي يسمّى "البَرَكة" لأنّ الحَبّ سيطلع مخلوطًا؛ فيؤثّر ذلك على صفائه. وتنقص كمّيته عند الكيل للبيع والزّكاة التّي تسمّى "العشور" من العشُر الواجب في زكاة الحبوب.

بعد التّذرية الجيّدة؛ يبقى في قاعة الدّرس شيئ من القمح المدغول. أو المسوّس بسبب سواد يصيب السّنبلة من جفاف يسمّى "الكُحَّايل"، ويسمّى هذا النّوع من الحَبّ "الكَرفة"؛ عادةً ما يوجّه علفًا للأنعام.

بعد أن تنتهي عملية الدّرس تمامًا؛ في قاعة الدّرس، يذهب الحَب إلى "المخزن"، والتّبن إلى "القربي"، وتخرج النّساء اللّواتي بلغن الحيض؛ بعيدًا عن الرّجال والأطفال، فينظفنها وهن يرددن أهازيجَ هي مزيج من شكر الله والصّلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم؛ في إشارة من المخيال الشعبي، إلى انعدام الفرق بين الأرض والمرأة التّي بلغت سنّ الرّشد في الخصوبة.

طقوس النّسيج.. خيوط مفكّكة

وجدت في إقامتي القرويّة زربيّة نسجتها أمّي الحاجّة نجمة عام 1986. أي عندما كان عمري تسعًا.

يُسمى مكان النّسيج المنسج؛ وهو الاسم الذّي يُطلق أيضًا على الشّيء المنسوج أثناء نسجه: زربية: وسادة لحمل الرّأس أثناء النّوم؛ فإذا زاد طولها قليلًا سمّيت مسندًا. حايك أو الحنبل: ويسمّى أيضًا الحولي؛ وهو الاسم الذّي يطلق أيضًا على ذكر الماعز البالغ عامًا، أي من الحول. وأنثاه حوليّة.

برنوس: (بشطريه المتكوّنين من الجناحين والجزء الذّي يوضع فوق الرّأس) ويسمّى "القرمونة".

قشّابيّة" وتلّيس: وهو ما تُحمل فيه الأغراض على الحمير والبغال، وشبيهه في الوظيفة "السماط"، غير أنّ هذا الأخير يصنع كلّه من الصّوف بينما التلّيس هو خليط من الصّوف والشَّعر.

العمارة: وتستعمل لعلف الخيل، فتوضع في مقدّمة رؤوسها مباشرةً، كما يستعملها الرّعاة والحطّابون والمتسوّقون والمسافرون لوضع الزّاد. بوشلّيق: وينسج من مُزق الثّياب. الحصير: وتنسج من الحلفاء.

بعد جزّ الأغنام، يقسم كبير العائلة أصوافها بالتّساوي على نسائها، وتسمّى صوف الشّاة الواحدة "جزّة"، تغسل المرأة الصّوف ممّا علق بها من وسخ. ويسمّى "الوذح"، ثمّ تفركها بأصابعها حتّى تصبح مفروزة. وتسمّى العملية "البشيم"، ثم تَصنع منها رقائقَ بآلة تسمّى "القرداش"، ثمّ تغزلها بالمغزل، فتسمّى الخيوط الناتجة "اللّحمة"، ثمّ تُرسل إلى الصّبّاغ، مرفوقةً بخيوط ملوّنة ليلوِّن كلّ كمّيّة منها بلون الخيط الذّي تحمله.

يتكوّن المنسج من خشبتين طويلتين تتوازيان في الأسفل والأعلى ومن ثلاث قصبات، أكثرها وظيفيّة الوسطى، ومن خيوط دقيقة مربوطة إلى الخشبتين تسمى "الڨيام".

توضع خيوط اللّحمة بين خيوط "الڨيام"، حسب اللّون المطلوب؛ وتدكّ بآلة تسمّى "اليزيلة" (من تأثيرات القاموس الأمازيغيّ) أو "الخلّالة" لأنّها تتخلّل الخيوط؛ فإذا كان المنسوج "حايك"، فتُستعمل الخيوط بطولها؛ أمّا إذا كان "زربية"؛ فتُقصّ في الموضع؛ ويسمّى "النّفدة". ويسمّى تغيير الألوان "الرّقيم".

تسمّى العمليّة ككلّ "الڨليع"؛ لذلك تسمّى المرأة النسّاجة "ڨلعة"؛ وهي مرادف كلمة حرّة، جمعُها حراير. وكانت المرأة غير البارعة في الڨليع لا تُخطب، وإذا تزوّجت من النّادر أن تبقى في بيت الزّوجيّة.

من الأهازيج التّي كانت مصاحبة لعملية النسيج:

ڨلعة يا ڨلعة

يا بنت بوجمعة

ويلا طاح اللّيل

أشعلي شمعة

في المخيال الشعبي، يُمنع على المرأة النسّاجة أن تتفوّه بكلام بذيء، أثناء تواجدها في المنسج، أو تنزع المحرمة أو الملحفة (غطاء الرّأس)، أو تدعو بشرٍّ على طفل، أو تأكل هناك أو تمضغ العلكة، ويُرفع عنها الملام إذا قصّرت في شغل آخر، إذ ما إن ينتصب المنسج حتّى تصبح الأولويّة لديها/ لدى العائلة أن تنهي نسيجها الذّي يوضع أسبوعًا في "دارالضياف" ليراه الضّيوف

أعضاء محرّمة في الدّجاج.. حيل النّساء

ثمة أعضاء في الدّجاج يصنّفها المخيال القروي في خانة (ما هو زين) للأطفال، أي لا تصلح لهم، وأغلب الظّنّ أن ذلك كان ثمرةً لتحايل المرأة القرويّة لاستبقاء شيئ لها، إذ كانت لا تأكل قبل أن يأكل الرّجال.

الكنزة (الحويصلة): بحجّة أنّها تحتوي على تكميشاتٍ يُخشى أن تظهر في وجه الطّفل حين يكبر.

القلب والكبد: بحجّة أنّهما يورثان الخوف في قلب الطّفل؛ ذلك أنّ القرويّين يربطون الدّجاج بالخوف.

يمنع الأطفال من أكل أجزاء من الدجاج بحجة أنه لا يصلح لهم لأسباب مرتبطة بالمعتقدات والتقاليد الشعبية 

وفي الأغنام: الرأس: بحجة حماية الطفل من الشقيقة، الصداع. العينان: بحجة أن أكلهما يورث ضعف الرؤية في الليل، ويُسمّى "التزرقين". الرجْلان: بحجّة أنّ أكل الطّفل لهما يؤخر مشيَه.