10-مايو-2020

الشربة من الأطباق الرئيسية لدى كثير من العائلات الجزائرية في رمضان (تصوير: سعيد خطيب/أ.ف.ب)

قد تكون الشربة أبرز مكونٍ على طاولة الإفطار لدى الجزائريين، إذ لا تخلو مائدة إفطار عائلة جزائرية من هذا الطبق، قد تتغيّر طريقة تحضيرها من منطقة إلى أخرى، وقد تتغيّر التسمية أيضًا باختلاف اللهجات الجزائرية، لكن المؤكد في كل هذا أنّ أوّل ما يتناوله الصائم بعد فراغه من صلاة المغرب طبق شربة معدّ بعناية فائقة.

 شربة "الفريك"، هي أكثر أنواع الشربة رواجًا في مناطق جزائرية عديدة خاصة في شرق وجنوب الجزائر

ولعلّ شربة "الفريك"، هي أكثر أنواع الشربة رواجًا في مناطق جزائرية عديدة خاصة في شرق وجنوب الجزائر، فيما يفضّل أهل الغرب طبق الحريرة، لذلك تسعى ربّات البيوت أيامًا قبل حلول رمضان، لتوفير أجود أنواع "الفريك"، ويبقى ذلك المعّد في البيوت بطريقة تقليدية هو أفضل أنواعه، وهو ما يجعل رائحة الشربة التي تصنع منه تعبّق في المنازل في هذا الشهر. ذلك "الفريك" الذي خاضت حبيباته رحلة طويلة قبل أن تستقرّ في طبق شهي يُضفي على البيوت نكهة رمضان.

سنابل كريمة

رغم توفّر "الفريك" و"المرمز" في المحلّات، نظرًا للاستهلاك الواسع لهما، حيث يتم تحضيرهما بطريقة صناعية ويعلّبان في أكياس بلاستيكية، إلا أن الكثير من العائلات لا زالت تحافظ على عادة صنع "الفريك" بطريقة تقليدية في المنازل والمخصّص حصرًا لشربة رمضان، إذ تخصّص تلك العائلات قطعة أرض تزرعها قمحًا أو شعيرًا لتحصده وتحوّله إلى "فريك" و"مرمز". إنها قصّة سنابل كريمة، وعرق فلاح يُنتج أجود أنواع القمح والشعير، تزرعه وتحصده الأنامل، لتشمه الأنوف وتستسيغه الألسن.

في شهر أيّار/ماي، وحين تبدأ سنابل القمح بفقدان خضرتها تدريجيًا وتميل نحو الاصفرار، تقصد الجدّة مسعودة رفقة عائلتها حقلًا مجاورًا للبيت. قطعة أرض من نصف هكتار أو أقل، تخصّصها العائلة كل عام لحصاد القمح الموجّه لصنع "الفريك" المنزلي ذو اللون الأخضر الطبيعي، أي قبل نضج سنابل القمح تمامًا. إذ أن عائلة الجدة مسعودة لا تسعى لربح مادي، بل تحصد القمح وتصنع منه "الفريك" والشعير لتصنع منه "المرمز" وتوزعّه على أبنائها وبناتها الذين يشاركونها في حصاده.

مراحل صنع "الفريك"

مع طلوع الفجر، ينتشر الفلاحون في حقولهم مصحوبين بمناجلهم المسنّنة، فيختارون أجود السنابل ويعالجونها بحركة خفيفة من أدواتهم، حيث يتشارك في ذلك الرجال والنساء، بل وفي الكثير من الأحيان تكون النسوة أكثر خفّة من الرجال في عملية الحصاد، إذ في الكثير من المناطق الجزائرية تتكفّل النسوة بأشغال البستان المجاور للمنزل، فيما يتكفل الرجل بغير ذلك من أمور خارجه.

شربة الفريك

حين تُحصد سنابل القمح والشعير، تُضمّ بعضها إلى بعض بواسطة سيقانها في شكل باقات، وهنا يُستحب ألا تُقطع السنابل من جذورها، بل يترك جزء منها في الأرض، ذلك الجزء سيصبح كلأً للماشية ومرعىً لها فيما بعد، وحين تجمّع باقات السنابل يتم نقلها لمكان آخر حيث يتم تجميعها على شكل كومة قش، لتنتقل للمرحلة الثانية.

 في هذه المرحلة تقوم النسوة بدرسها عن طريق ضربها بعصا خشبية مخصّصة لذلك، أو عن طريق حك السنابل بحركات خفيفة بأيديهن بغية فصل الحبوب عن القشور، أما لصنع "الفريك" فتحرق سنابل القمح الخضراء حرقًا خفيفًا وهي العملية التي تسمى بالتشواط، لتُفرز حبّات القمح وتُفصل عن القشور التي توضع جانبًا لتكون علفا للماشية.

شربة الفريك

 بعد ذلك تقوم  النسوة بغربلة تلك الحبوب بطريقة تقليدية حيث تُنثر في اتجاه الرياح لأخذ حبات القمح لوحدها، ومن ثم تُغسل بالمياه وتصفى جيدًا ثم توضع في "الكسكاس" لتفور على ماء يغلى، لتوضع بعد ذلك في لحافات على الأرض وتجفف تحت الشمس، قبل أن تُطحن بواسطة مطحنة تقليدية مصنوعة من الحجر وتغربل بعد ذلك فينتج عنها  "الفريك" أو "المرمز" إذا تعلّق الأمر بطحن الشعير، وما يستخلص من قشور يسمّى النخالة.

بين الأمس واليوم

وهي منهمكة رفقة ابنها في قطف سنابل الشعير، تروي الجدة مسعودة في حديث إلى "الترا جزائر" ذكرياتها مع الحصاد، حيث "كان موسم الحصاد احتفالًا في القرى. كان الرجال يمضون إلى مناجلهم فيسنّون أسنانها، ويشكلون فرقا تحصد محاصيل القرية أو ما يسمى بالتويزة، فلا أحد كان يحصد محصوله بنفسه".

الجدّة مسعودة: كان الرجال يدندنون أناشيد خاصة بالحصاد، وكانت النسوة يستقبلن موسم الحصاد بالزغاريد

تستطرد الجدة قائلة: "كان الرجال يدندنون أناشيد خاصة بالحصاد، وكانت النسوة يستقبلن موسم الحصاد بالزغاريد، كنا نعلم أن الخير يأتي مع القمح، كان ذلك في زمن الخير والبركة، كنا نستعجل الخروج إلى حقولنا، وقد حضّرنا ما نأكله بعد يوم عمل شاق، كنا لا نبيع ولا نشتري"، وتختم الجدّة كلامها بنبرة تحمل الكثير من الحسرة "تغيّر الأمر فبعض أولادي الأن صاروا يرفضون الخروج للحصاد، يقولون أن الآلات متوفّرة فلم الشقاء، يا ليتهم يعلمون لذّة ما أقطفه وأطحنه بيدي".