31-أكتوبر-2024

لازالت مادة التاريخ ثانوية في نظر الكثير من الطلبة

مع حلول كل مناسبة وطنية، يعود النقاش في الجزائر حول الأهمية التي تعطى لمادة التاريخ في المنظومة التربوية بهدف ترسيخ الروح الوطنية والحفاظ على الذاكرة لدى الأجيال الجديدة، للتصدي لمحاولات تشويه الماضي المجيد للبلاد في مسيرة التحرر ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم الذي يرفض حتى اليوم الاعتراف بجرائمه الشنيعة وحرب الإبادة التي نفذها طيلة 132 سنة، خاصة وأن التاريخ يعد من مواد الهوية حسب التربويين الذين يدعون لإعطائها اهتماما خاصا في النظام التعليمي الجزائري.

رغم الإصلاحات التربوية التي نفذت بداية الألفية الحالية، إلا أن الاهتمام بمادة التاريخ لم يكن حسب باحثين في المستوى المطلوب، بالنظر إلى أنها ما تزال مادة غير  مهمة في التخصصات العلمية

ورغم الإصلاحات التربوية التي نفذت بداية الألفية الحالية، إلا أن الاهتمام بمادة التاريخ لم يكن حسب باحثين في المستوى المطلوب، بالنظر إلى أنها ما تزال مادة غير  مهمة في التخصصات العلمية، وهو ما يجعل البعض يطالب بمراجعة طريقة تدريسها لارتباطها بالذاكرة الوطنية للبلاد.

واقع

لا ينكر أستاذ التعليم الابتدائي محمد كرميش أن المقررات الدراسية  أعطت اهتماما بمادة التاريخ في الطور الأول من التعليم، لكنه يعتقد أنه غير مدروس، حيث يرى أن تعليمها ابتداء من السنة الثالثة ابتدائي غير محبذ، لأن فهمها في هذا العمر لا يتوافق مع القدرات الإدراكية للتلميذ، وفق ما قاله لـ"الترا جزائر".

وأوضح أستاذ التاريخ الوسيط بجامعة خنشلة الدكتور عبد القادر رحمون الذي يدير مخبر الدراسات والبحوث التاريخية في التراث والحضارة في حديثه مع "الترا جزائر" أن "التلميذ في السنة الثالثة ابتدائي يكون في عمر تسع سنوات، وهو سن لا يمكّنه من إدراك البعد الزمني وتمثّله، لأن هذا الأمر يتطلب خيالا وتصورا لا يمكن اكتسابه في تلك المرحلة لذا وجب إعادة النظر في السن المناسبة لتلقي المعلومة التاريخية وترتيبها على سلم الزمن"

أستاذ التعليم الابتدائي محمد كرميش لـ "الترا جزائر": تعليم مادة التاريخ  ابتداءً من السنة الثالثة ابتدائي غير محبذ، لأن فهمها في هذا العمر لا يتوافق مع القدرات الإدراكية للتلميذ

وأضاف رحمون أن " الانطلاق من مصادر مرحلة ما قبل التاريخ يعتبر من أسوأ ما قد تمت برمجته في المنهاج التربوي، لأن التلميذ لا يفهم التاريخ  حتى يفهم زمن ما قبل التاريخ، حيث كان الأجدر أن تكون نقطة الانطلاق من أحداث قريبة من التلميذ ليكون تصوره وخياله قادرا على استيعابها خاصة إذا تعلقت بحياته وشخصه".

وجاء في مقال للأستاذ خيري الرزقي في نشره في المجلة التاريخية الجزائرية أن "تدريس التاريخ في المدرسة الجزائرية بأطوارها الثلاثة لا يستهدف الحقيقة التاريخية غاية في حد ذاتها، إنما يستهدف تثقيف الناشئة  وإعدادهم للمواطنة السليمة في مجتمعهم الذي يعيشون فيه مع مراعاة قدرات التلاميذ الذين تقرر عليهم هذه المادة وميولهم ومستوياتهم"، مبينا أن "أهداف تدريس التاريخ لا تتحقق في جميع مراحل التعلم بدرجة واحدة إنما تتماشى واستعدادات المتعلمين وقدراتهم وأطوار نموهم ومراحل تعليمهم المختلفة".

ولاحظ الرزقي اعتماد معامل ضعيف لمادة التاريخ في المنوظمة التربوية الجزائرية، وبالخصوص للشعب العلمية في الطور الثانوي، وهو ما جعلها تبدو في نظر التلاميذ أنها مادة ثانوية لا أساسية، إضافة إلى الحجم الساعي القليل واقتصاره على 4 ساعات على الأكثر أسبوعيا للشعب الأدبية، فيما ينزل هذا الحجم إلى ساعة واحدة عند بعض الشعب، معيبا في الوقت ذاته تدريسها في الغالب في الفترة المسائية التي يكون فيها المتعلم مرهقا.

وحسب أستاذ التاريخ بجامعة سطيف 2 محمد بن ساعو، فإن "مناهج التاريخ حاولت تقديم التاريخ الجزائري بصورة بسيطة ومُتسلسلة كرنولوجيًا خاصة في الجيل الثاني من برامج المقاربة بالكفاءات، لكن الواقع يُشير إلى أنّ التاريخ في المدرسة الجزائرية مسّهُ الكثير من الضيم، ذلك أنّه ظلّ مجرّد مادة ثانوية لا تلقى اِهتمام التلميذ ولا الجماعة التربوية بصفةٍ عامة، فقد اُعتبِر مادة هامشية، وما يعكس ذلك هو المُعامل المُتدني لهذه المادة، وما عمّق الصور النمطية السلبية حولها أكثر هو طُرق التدريس الكلاسيكية التي ظلّت لصيقة بالتاريخ، رغم ما تسوّق له الجهات الوصية من محاولة إحداث ثورة في إطار تحديث المنظومة التربوية وطرائق التدريس"، وفق ما قاله لصحيفة النصر الحكومية.

فصل؟

وبالنسبة للأستاذ محمد كرميش، فإن ما يعاب على تدريس التاريخ في الجزائر هو إلحاقها بالجغرافيا، حيث يرى أنه من الأفضل أن تكون مادة مستقلة عنها كليا، على عكس ما هو موجود اليوم حيث يتم الجمع بينهما ضمن مادة "الاجتماعيات".

أستاذ التاريخ بجامعة سطيف 2 محمد بن ساعو: مناهج التاريخ حاولت تقديم التاريخ الجزائري بصورة بسيطة ومُتسلسلة كرنولوجيًا خاصة في الجيل الثاني من برامج المقاربة بالكفاءات

ويدعو كرميش إلى رفع الحجم الساعي لمادة التاريخ في الطور الابتدائي إلى حصتين في الأسبوع  بمدة تصل إلى ساعة ونصف مخصصة لهذه المادة فقط  بعيدا عن حصة الجغرافيا.

لكن أستاذ التاريخ الوسيط بجامعة خنشلة الدكتور عبد القادر رحمون لا يوافق هذا الرأي، قائلا في هذا الإطار لـ"الترا جزائر" إن"الجغرافيا تنمّي الخيال الحسي للتلميذ ومداركه في هذا المجال، بالنظر إلى أنها وثيقة الارتباط بالتاريخ لذا  فان بقاء الجغرافيا مع التاريخ لا يشكل مشكلة بل العكس هي مكملة له".

رهان

بالنسبة لبلد مثل الجزائر، فإن تدريس مادة التاريخ لا يتعلق بتلقين أحد العلوم الاجتماعية فقط، إنما يتصل بالأساس بالعمل على صيانة وترسيخ الذاكرة الوطنية لدى النشء الجديد من الجزائريين، وبالخصوص في ظل الهجمات الفرنسية التي تحاول تزييف مسار أجدادهم النضالي للتنصل من جرمها الاستعماري.

وقال الدكتور عبد القادر رحمون إن " الهدف الأساسي للمناهج التربوية في مادة التاريخ هو ترسيخ الذاكرة الوطنية، لذا فان التركيز على التاريخ الوطني بكل حقبه وأبعاده ومحاوره من شأنه أن يعزز الشعور بالانتماء، وتحقيق الهوية التاريخية، وبالتالي روح المواطنة والوطنية والمناهج الجزائرية اليوم وإن كان هدفها هذا إلا أنها لم تفلح إلا بشكل محدود في هذه المهمة".

ويرى رحمون أن تحقيق ذلك ينطلق أولا من تحسين تدريس مادة التاريخ، بحيث تكون البداية من "الفهم الدقيق لنفسية الطفل ومعرفة قدراته الإدراكية، فالمعرفة التاريخية ليست في مراحلها الأولى بنائية بقدر ما هي تراكمية، لذا رفع السن يعتبر ضرورة ولا يشكل عائقا أمام تحصيل المواد الأخرى، بل العكس من ذلك يفسح المجال لتحصيل المواد البنائية كالحساب واللغة وغيرها"

ويشدد رحمون على ضرورة " تحقيق العدالة في تخصيص الحصص للحقب التاريخية لترسيخ العمق التاريخي والحضاري، والتركيز على الانجازات الحضارية والمحطات المشرقة لتعيز الشعور بالانتماء والافتخار وتأخير محطات الانتكاس والضعف، وربط المعرفة التاريخية بالمعرفة الجغرافية لتكون علاقة تكامل، وإعادة صياغة وإصدار المقررات بحيث لا يجد الأستاذ المنفذ للمنهاج صعوبة في التنفيذ، وإعطاء مهمة صياغة المقررات لأساتذة جامعيين متخصصين".

وبدوره، يرى أستاذ التعليم الابتدائي محمد كرميش أن جعل مادة التاريخ تساهم في الحفاظ على الذاكرة الوطنية يتطلب تأخير تدريس مادة التاريخ إلى السنة الخامسة، ليكون التلميذ أكثر استعداد لذلك، واختيارمواضيع عن الشخصيات التاريخية للوطن والتواريخ والأحداث المهمة خاصة القريبة منها.

يدعو المختصون إلى ضرورة إعداد دليل خاص بتدريس مادة التاريخ يتضمن أساليب مبتكرة من شأنها تبسيط الأحداث التاريخية خاصة بالنسبة لتلاميذ الطور الابتدائي

ويطالب مختصون بضرورة القيام بـ "مراجعة شاملة " لطرق تدريس تاريخ الجزائر لضمان الحفاظ على الذاكرة الوطنية، فقد نقلت وكالة الأنباء الجزائرية عن أستاذة التاريخ بجامعة الجزائر 2  صليحة علامة قولها إن هذه المراجعة ترمي إلى توظيف تكنولوجيات الإعلام و الاتصال في تدريس هذه التاريخ، وذلك بانتهاج أساليب متطورة في التعليم على مستوى كل الأطوار التعليمية، وتجاوز مرحلة سرد الأحداث التاريخية والاعتماد على الحفظ و الاسترجاع في تقييم التلاميذ والطلبة.

ويدعو المختصون إلى ضرورة "إعداد دليل خاص بتدريس مادة التاريخ يتضمن أساليب مبتكرة من شأنها تبسيط الأحداث التاريخية خاصة بالنسبة لتلاميذ الطور الابتدائي, وتنظيم زيارات ميدانية للتلاميذ والطلبة للمواقع التاريخية الشاهدة على الأحداث الوطنية و كذا المتاحف الوطنية، والتفكير في صياغة منهج وطني في كتابة التاريخ الوطني، لضبط المصطلحات والمفاهيم سيما منها التي وظفها المستعمر الفرنسي والتي عادة ما تؤثر على طبيعة الحقائق التاريخية".