استقالة مفاجئة، صراخ وأصوات عالية دوت في جنبات قاعة المؤتمرات بفندق الأوراسي بأعالي العاصمة الجزائرية، أعضاء اللجنة المركزية في حزب جبهة التحرير الوطني، صاحب الأغلبية البرلمانية، يرفضون "تنحي" أو "استقالة" الأمين العام للحزب عمار سعداني، بينما الرجل أصر وبقوة وبعبارات مقتضبة، "قررت الاستقالة لدواعي صحية".
تأتي استقالة سعداني لتضع الخلافات الداخلية لحزب السلطة إلى العلن مجددًا
قرار لم يكن في حسبان أحد على الساحة الجزائرية، كل شيء تغير ما بين جلسات الصباح والمساء، لأن الأغلبية داخل القاعة وفي محيطها وحتى خارجها، توقعت أن يبقى الرجل في منصبه، خاصة بعد تزكيته مجددًا كأمين عام من قبل أعضاء اللجنة المركزية للحزب، وأهم من ذلك فإن الحزب التاريخي يخوض في قضايا سياسية "صادمة للرأي العام الجزائري"، كما أن الظرف السياسي في الجزائر لا يسمح بالتغيير في موقع الرأس الثاني للحزب، وأن المرحلة السياسية القادمة هامة وملغمة برأي المتتبعين، بخاصة مع اقتراب الانتخابات التشريعية التي ينتظر تنظيمها في النصف الأول من السنة المقبلة، وهو ما يعني أن حزب جبهة التحرير يسعى إلى الحفاظ على أوجه ومكانته السياسية في مختلف دواليب السلطة والقرار، خصوصًا داخل غرفتي البرلمان، المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة.
اقرأ/ي أيضًا: تجارب فرنسا النووية.. جرح الجزائر الغائر
على الأرض، استقالة سعداني لم تكن متوقعة في أوساط رفاقه الحزبيين، بدليل أن القواعد بدأت في التحضيرات الحثيثة، بأوامر منه، لمسابقة الزمن لجمع الصفوف ورصها بهدف تهيئة طريق الحزب نحو الانتخابات، مما يطرح التساؤلات عن أسباب الاستقالة أو كما يراها البعض بأنها "تنحٍّ بأوامر فوقية"، أو أقرب لكونها "إقالة" من طرف الرأس الأول والرئيس الشرفي للحزب، أي رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة.
كل من يعارض بوتفليقة يخرج من الحلبة السياسية، هذه إحدى الإشارات وراء إقالة سعداني
يرى المتتبعون للشأن السياسي في الجزائر بأن مغادرة سعداني لبيت الـ(F.L.N) ومن الباب الضيق، يعكسه الخطاب السياسي الذي أطلقه خلال المؤتمر الأخير والذي كان عبارة عن "مهادنة ومداهنة كبيرة" بحسب المتابع لملف جبهة التحرير الوطني الإعلامي حمزة بكاي، إذ خالف سعداني العرف، أو ما كان متعارف عليه لدى الإعلام والساحة السياسية بتصريحاته النارية، مضيفا لـ"ألترا صوت" أن سعداني عود العام والخاص بـ"خرجات مفاجئة وجريئة"، وهو ما يوحي حسب المتحدث بأن "أصحاب القرار في السلطة قد اتفقوا على رحيل سعداني عن طريق تقديم استقالته.
وكان سعداني قد أحرج السلطة فعلًا في خرجاته المتتالية أهمها في ندوة صحفية عقدها في 5 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أين بلغ الأمر ذروته عندما خون أهم وأقوى رجالات الرئيس بوتفليقة، إلى وقت قريب، الجنرال المخابراتي المتقاعد محمد مدين، المدعو توفيق، وحمل هذا الأخير وزر العديد من المشكلات والأزمات التي حصلت في البلاد في السنوات الأخيرة أهمها أحداث غرداية وما يطلق عليها بصراع الفتنة بين العرب والأمازيغ في تلك المنطقة المسالمة، وأحداث الجنوب وإضرابات الغاز الصخري وغيرها من الأحداث التي وقعت وحركها الجنرال توفيق حسب مزاعم سعداني، عندما كان الجنرال توفيق الرأس الكبرى لجناح رئيس الجمهورية يحسب له ألف حساب، ولقب على مر ربع قرن بصانع الرؤساء في الجزائر، قبل إحالته على التقاعد من طرف الرئيس بوتفليقة في أيلول/سبتمبر 2015.
اقرأ/ي أيضًا: صفحة الجيل التاريخي في الجزائر تطوى
سعداني أحرج الجميع، بل وأكثر من ذلك أخرج الكثير من الحقائق إن سميت كذلك، خصوصًا ما يتعلق برجالات الرئيس الذين اشتغلوا مع بوتفليقة منذ مجيئه إلى سدة الحكم في سنة 1999، وهو ما جعل التوقعات تشير بأن تنحيته ستتم من أمانة الحزب عقب تلك التصريحات.
شكلت استقالة سعداني مفاجأة من العيار الثقيل، ربما لمجمل السياسة الجزائرية، مشيرةً إلى اتفاق كبير حصل في أعلى هرم السلطة
اللافت أن سعداني وهو يودع أعضاء اللجنة المركزية للحزب وبعض أعضائه قال إن "المصلحة العليا للبلاد ومصلحة الحزب تقتضي رمي المنشفة والاستقالة من الأمانة العامة للحزب". جملة تؤكد برأي الكثيرين أن استقالته كانت بقرار فوقي ولا غبار على أنه كان مطمئن بالتفاف زملائه الحزبيين حول بقائه إلى نهاية عهدته في سنة 2020، لكن تجري الرياح بما لا تشتهيه سفينة سعداني، فالقرار بحسب أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر محمد العربي ينون "جاء تحت ضغوطات كبيرة بالرغم من أنه أعلن في العديد من المرات بأنه يساند برنامج الرئيس بوتفليقة وأن الرئيس خط أحمر".
وتأتي تزكية وزير التضامن السابق والعضو في اللجنة المركزية جمال ولد عباس، المقرب من محيط وعائلة الرئيس بوتفليقة لخلافة سعداني بما يؤشر بعمق على حقيقة ما جرى مع سعداني، لناحية خروج الأمر من يده وفرض "الإقالة" عليه.
جدير بالإشارة إلى أن سعداني هو بترتيب الراحل رقم 11 عن أمانة حزب جبهة التحرير، إذ شهدت الجزائر منذ الاستقلال 10 قبله، وهم على التوالي: محمد خيضر من 1962-1963، وأحمد بن بلة 1963-1965، ثم شريف بلقاسم 1965-1967، ثم قايد أحمد 1967-1972، ومحمد الصالح يحياوي 1973-1980، يليه محمد الشريف مساعدية 1980-1988، ثم عبد الحميد مهري 1988-1996، ثم بوعلام بن حمودة ما بين 1996-2001، وعلي بن فليس 2001-2004، ليلحق به عبد العزيز بلخادم 2004-2013، وأخيرًا سعداني 2013 إلى غاية 22 تشرين الأول/أكتوبر 2016.
اقرأ/ي أيضًا:
الحكومة والمعارضة في الجزائر.. إخوة في الرضاعة