17-مايو-2022
نساء جزائريات يتظاهرن تنديدًا بالإرهاب (تصوير: تصوير جورج ميريلون/Getty)

منذ استقلال الجزائر سنة 1962 وتأسيس كيان الدولة الوطنية، عاشت الجزائر فترات من الصراعات والخلافات السياسية، وما من  شك أن الولادة القيصرية للدولة الوطنية لم تصل إلى مرحلة دولة مؤسسات مستقرة وقوية، حيث نتج عن هذا العجز احتقان شعبي دائم، دفع بمكونات النظام السياسي إلى ترسيخ ممارسة وتقليد دائمين في البحث عن التوافق السياسي، وسبل الإجماع الوطني، وتحقيق المصالحة الوطنية وإطلاق مبادرات "لم الشمل".

في هذا التقرير نقف عند أهم المحطات السياسية التي عرفتها الجزائر ما بين 1963 إلى غاية دستور 1989

هذه الصراعات، كانت بدايتها أزمة صائفة 1962، حيث أبرزت الفجوة بين عناصر الولايات الثورية التاريخية، والهيئة التنفيذية وقيادة الأركان العسكرية، وهي الأزمة التي أسّست لممارسات سياسية قائمة على القوة والعلاقات الفردية والجهوية والفئوية والزبائنية على حساب المؤسّسات الشرعية والتمثيلية.

 أثمر هذا التأسيس على وجود مؤسّسات هشة، سعت السلطة بشكل دوري إلى إيجاد حلول ظرفية لها، كلما شعر النظام بوجود تهديد يمس أركانه أو احتقان مجتمعي، إذ يَعمد إلى بحث عن حلول توافقية، تجمع بين الرفقاء والفرقاء، أو إيجاد صيغ تحقق الحد الأدنى من التوزان بين الاعتبارات الجهوية والأيديولوجية عانت من التهميش، ومهما تعددت مصطلحات التسويات السياسية، فهل أفضت إلى بناء ديمقراطي مؤسساتي، أما كانت تهدف إلى إعادة ترتيب بيت النظام السياسي وتنظيم صفوفه؟

 في هذا التقرير نقف عند أهم المحطات السياسية التي عرفتها الجزائر ما بين 1963 إلى غاية دستور 1989.

حرب تندوف تجمع الفرقاء  

 في هذا السياق، أفضى الصراع القائم بين الولايات الثورية التاريخية، والهيئة التنفيذية المؤقتة إلى سيطرة ما سمّي آنذاك بـ "جماعة وجدة" على الحكم وهم مجموعة من الضباط العسكريين والسياسيين أقاموا في المغرب خلال ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962).

بعد  عقد تحالف بين أحمد بن بلة وقيادة الأركان بزعامة هواري بومدين، وعُيّن  أحمد بن بلة كأول رئيس للدولة الجزائرية، حيث تَفرد نظام أحمد بن بلة بالحكم والسلطة ودفع مجاهدي وقيادي الولاية الثالثة بقيادة آيت أحمد إلى حمل السلاح، وإعلان التمرد والعصيان العسكري.

في تشرين الأوّل/أكتوبر 1963 يُعلن المغرب الحرب على الجزائر، والقوات الملكية المغربية تجتاح منطقة تندوف جنوبي غرب الجزائر، خاطب بن بلة الشعب الجزائري وأعلن أمام الحشود كلمته المشهورة "حقرونا".

 يقول بن بلة في مذاكراته إن تلك الكلمة جعلت الشعب يلتفت إلى من حوله، و"كان اعتداء المغرب على الجزائر فرصة ومناسبة جمعت الأصدقاء والخصوم، حيث أوقف القائد التاريخي محند أولحاج التمرّد المسلّح، وتوجه رفقة مجاهدي الولاية الثالثة إلى جبهة القتال لمواجهة القوات المغربية في تندوف".

بن بلة وصراعه مع قيادة الأركان   

بعدها اشتدّ الصراع والخلاف بين أحمد بن بلة والقيادة العسكرية على رأسها هواري بومدين، وقد تباينت وجهات النظر حول أسباب الصراع وطبيعته.وفي إطار البحث عن توازن القوى وإيجاد مخرج سياسي، سعى بن بلة إلى عقد تحالفات مع بعض الخصوم السياسيين، فقام بتوثيق اتفاق سياسي مع حسين آيت أحمد المسجون والمحكوم عليه بالإعدام، والتقرب من السياسي المخضرم محمد خيضر، والتَوافق مع بعض قيادات من جمعية العلماء المسلمين.

كما حاول بن بلة، التكتل مع رفقاء من حزب الشيوعي الجزائري، غير أن عقارب الساعة كانت تدقّ لصالح وزير دفاعه، هواري بومدين، الذي تمكن من إحكم قواعد اللعبة السياسية، وقبضته الحديدية على المؤسسة العسكرية ونفذ انقلاب 19 حزيران/جوان 1965، سمّي بعدها بـ "التصحيح الثوري".

بومدين والقبضة الحديدية

 مرت سنوات حكم هواري بومدين في سياق محلّي ودولي، مَكنت الرجل أن يكون "زعيمًا وطنيًا"، رغم حكمه الفردي والشمولي، غير أن بومدين استفاد كثيرًا من أخطاء القيادات الثورية، إذ لم يتورّط بشكل شخصي في اغتيالات مسّت قيادات ثورية خلال العمل المسلّح، كما لم يتحمل المسؤولية السياسية في إعدام العقيد شعباني إبان حكم بن بلة، واعتمد بومدين على ضباط من الصف الثاني، إذ لم تكن لديهم طموحات قيادية أو سياسية، وعُرف عنهم الانضباط والالتزام.

في مقابل ذلك، لم يعف هذا تاريخيًا من أن هواري بومدين أو نظامه اعتمدا على العنف المادي كجزءٍ من الخيارات السياسية والأمنية المتّبعة آنذاك.

من 1978-1988 بوادر سياسية جديدة

في سياق متصل، بعد وفاة هواري بومدين، وتولي الشاذلي بن جديد الرئاسة الجمهورية بعد توافق أصحاب القرار، ظهرت بوادر سياسية توافقية من الرئيس الجديد، تمثّلت في إطلاق سراح الرئيس السابق أحمد بن بلة، ورفع الإقامة الجبرية على يوسف بن خدة، وحسين لحول والشيخ خير الدين وفرحات عباس، وسمح لمعارضي النظام العودة إلى أوطانهم.

كما تولى الشاذلي نقل رفاه الشهدين العقيد عميروش وسي الحواس من قبو ثكنة الدرك الوطني بباب جديد إلى مقبرة الشهداء بالعالية، وفي إطار المصالحة التاريخية أعاد الاعتبار وإطلاق تسمية "الشهيد" على كل من العقيد شعباني، ومجاهدين أعدموا خلال الثورة التحريرية ضحية حسابات وأخطاء قيادات الثورة.

فضلا عن إبعاد شخصيات كانت مقربة من الرئيس السابق الهواري بومدين، في الشق السياسي، حاول الشاذلي إعادة التوازن بين الجهاز السياسي المتمثل في جبهة التحرير الوطني والمؤسسة العسكرية، وعرفت المرحلة انفتاحا اقتصاديا عبر تراجع التدريجي في احتكار الدولة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي.

أكتوبر 1988-1989 التعددية السياسية

 في السياق ذاته، عرفت فترة الثمانينات هزات اقتصادية واجتماعية نتيجة إفلاس خزينة الدولة وانخفاض أسعار النفط سنة1986، وظهرت على إثرها تيارات مناهضة للسلطة، كان أهمّها الحركة الإسلامية وكذلك الحركة الثقافية البربرية والتيارات الشيوعية، وازدادت المواجهة والمعالجة الأمنية بين السلطة ومختلف التنظيمات السرّية، وأفضت إلى تنظيم مظاهرات مناهضة للنظام يوم 05 تشرين الأوّل/أكتوبر 1988.

وقصد احتواء الوضع واستقرار النظام والحكم، أصدرت رئاسة الجمهورية نهاية شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 1988 جملة من الإصلاحات السياسية وأقرت التعددية الحزبية، عبر تعديل جزئي للدستور.

وتم إبعاد الوجوه السياسية والحزبية التي رافقت النظام السياسي ما بعد 1978، كشريف مساعدية،  من الأمانة العامة للحزب، وتعيين عبد الحميد مهري مكلف بتنظيم مؤتمر الحزب، والذي أثمر عن تحول حزب جبهة التحرير الوطني من جهاز داخل الدولة إلى حزب سياسي، وكذا انسحاب ضباط المؤسسة العسكرية من اللجنة المركزية للحزب ومن الحياة السياسية.

وكرّس دستور 1989 الفصل بين السلطات والتعددية الحزبية، واستبدال الشرعية الثورية بالانتخابات والاقتراع، وكذلك ضبط العلاقة بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية، وفتح المجال أمام حرية الصحافة والإعلام.

وبموجب دستور 1989، شرعت قيادات سياسية مقيمة بالخارج إلى العودة إلى الوطن، واستٍئناف الممارسة السياسية، على غرار جبهة القوى الاشتراكية بقيادة حسين آيت أحمد، والحركة من أجل الديمقراطية الذي أسسها أحمد بن بلة، والجبهة الإسلامية للإنقاذ، ووصل عدد الجمعيات ذات الطابع السياسي إلى 60 جمعية في ذلك الوقت. 

كرّس دستور 1989 الفصل بين السلطات والتعددية الحزبية واستبدال الشرعية الثورية بالانتخابات

أفرزت أول انتخابات بعد هذا الدستور في الـ 12 حزيران/جوان 1990 فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لتفتح بعدها صفحة جديدة من بوادر الأزمة والمواجهة ومراحل الحكم الانتقالي والمصالحة الوطنية.