31-أكتوبر-2024
الرعاة

كان الرعاة بمثابة جهاز اتصال للمجاهدين (الصورة: أ.ف.ب)

في حرب التحرير غير المتكافئة القوى بين البندقية والدبابة، لم تغفل قيادات الثورة الميدانية سلاح الاتصال والإعلام، ويبدو ذلك جليا في التقسيمات الأولية، فكان هناك الجندي المقاتل في الميدان، و"المسبّل" الذي يتولى توفير المأكل والمشرب، و " الشوف" المكلف بالحراسة من المراقب الجبلية.

 كان ثمة دائما عنصر يسمى " الاتصال" ووظيفة هذا عنصرالمسمى باللهجة المحلية " التِّصَال"، كما تنطق، لا تقل أهمية عن وظائف القتال المعقدة، فهو حلقة مفصلية في السلسلة المترابطة في نسق الجهاز الثوري

 كان ثمة دائما عنصر يسمى " الاتصال" ووظيفة هذا العنصر المسمى باللهجة المحلية " التِّصَال"، كما تنطق، لا تقل أهمية عن وظائف القتال المعقدة، فهو حلقة مفصلية في السلسلة المترابطة في نسق الجهاز الثوري، الذي طوعته الثورة لمواجهة الكيان الاستعماري، بيد أن العبقرية الشعبية ستتجلى أكثر عبر سلاح الأغنية الشفوية التي ستصبح أشد فتكا من سلاحي المورس والإشارة، من حيث الدعاية والإشادة وإحباط مخططات الجيش الفرنسي.

بن زلماط و الجرموني

لعبت الأغنية المتوّلدة من رحم معاناة الجزائريين دورا بارزا في التأريخ للظروف المعيشية الصعبة التي فرضها عليهم النظام الاستعماري، وفي تخليد الحركات المقاومة للظلم والاجتثاث من الجذور الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى هذا النحو ستبدع الذاكرة الشعبية في تسريد بعض الأحداث بأكثر الوسائل بدائية في التعبير، ومع أنها كانت أقل مرتبة من التدوين الكتابي، فإنها تولت مهمة " الحفظ التوثيقي" في مواجهة النسيان والاندثار.

فقبل الثورة الكبرى بعقود خلد أسطورة الأغنية الأوراسية، عيسى الجرموني، مآثر المتمرد مسعود أوزلماط، راعي الماعز الذي ثار بين أعوام 1917 و1921 ضدالظلم الاستعماري المتفاقم مع سياسة التجنيد الإجبارية، ثم بالتعسف القانوني عقب إيداع شقيقه الحبس عن تهمة سرقة حمار دون أدلة، قبل أن يعثر عليه مقتولا في دار مهجورة عقب فراره من المعتقل.

في تلك الأغنية الشهيرة " أكردو أنوڨير" وتعني" انهض لنسير" يمجد الجرموني الثائر من جهة، ويحقر سياسة التجنيد الإجباري بكناية لافتة من جهة أخرى، إذ يغني:

الفُوشي نُومسمار / البندقية ذات المسمار

جَارَان ظّار/ المتدليةعند القدم

وِينين مسعود أوزلماظ/ ذلكم مسعود بن زلماط

ثاورقيت نْ لمَّاصة / ورقة تبغ الماصة

أُوثوسيد سي فرنسا / التي جاءت من فرنسا

شبّه ورقة التجنيد الفرنسي للجزائريين بورقة الماصة اللافة لتبغ السعوط أو "الشمّة" التي تدس في الأفواه قبل أن ترمى أرضا لقذارتها.

ملحمة ڨاڨا

واصلت الذاكرة الشعبية الشفوية النسج على المنوال أثناء ثورة التحرير، فعُرفت أغنيات شهيرة مثل "الطيارة الصفراء" و"جينا من عين مليلة سبع أيام على رجلينا"،بيد أن بعض المواويل المنسية ستكون مرجعا إنسانيا عاطفيا هائلا يشبه إلى حد ما بعض صور الملاحم الإغريقية، فتماما كما كان ثمة موقف في حرب طروادة بين الأم ثيتيس وأبنها المحارب البطل الأول لتلك المعركة " أخيل"، لن تعدم يوميات الثورة الجزائرية قصصا نبيلة ذات تفاصيل تراجيدية لا تخلو من رومانسية إنسانية وثورية.

ت

في العام 1950 التحق ڨرين بلقاسم المكنى ڨاڨا بمجموعة الخارجين عن القانون، من أولئك الذين تصفهم الأدبيات الفرنسية بوسم " لصوص الشرف"، وهم كوكبة من 16 فردا بينهم الشهيد الصادق شبشوب المكنى ڨوزير وزوجته عيدة فاطمة لوصيف وبزعامة الشهيد حسين برحّايل، ليعلنوا حالة تمرد ضد الإدارة الاستعمارية وأعوانها، استمرت ما بين أعوام 1947 و 1954،  قبل أن تفلح الثورة في دمجهم في مشروعها التحرري، وقد لعب لخضر بن طوبال مثلما يروي في مذكراته الأخيرة، دورا في إلحاق ڨرين بلقاسم،بمعترك القضية الوطنية، ليصبح ذو العينان الزرقاوان،أحد روّاد ليلة الفاتح من نوفمبر،قبل أن  يسقط شهيدايوم 29 من نوفمبر 1954 في معركة حامية الوطيس قرب جبل شيليا.

والمثير في قصة ڨاڨا هي علاقته الروحية العميقة بأمه نّا مبروكة تاوليليت، التي دأبت طوال سنوات غيابه الطويلة على ترقب عبوره بين رتل لصوص الشرف من بعيد كي تحييه وتلقي عليه نظرة حنان الأمومة، وقد واصلت على تلك الطريقة خلال الأسابيع الأولى الثورة، لكنها ستفجع لأيام عندما لن تشاهده بين تلك الأفواج العابرة بحثا عن مؤونة أو تأهبا لمعركة، لا بل إنها ستنزوي قرب صخرة للبكاء.

سألها راع كان يعبر بشياهه بالقرب منها،فأخبرته بأن حدس أمومتها يشير إلى استشهاده، وقد حاول الراعي الذي هاله وضعها أن يدفع عنها تلك الهواجس فردت موقنة: " رأيت رشاشه على كتف جندي آخر".

اشتهر ڨاقا بسلاحه وهو رشّاش من صنف رافال الفرنسي، الذي كان لا يفارق منكبه لسنوات، وانطلاقا من تلك اللحظة، سيروي الراعي تلك القصة للناس، ثم ترتقي إلى أغنية شعبية رائجة،وهذا مطلعها.

أشّاأڨاڨا أو عمي / أه يا قاقا يا ابن عمي

الرفال أنّك مَانيِ/ أين هو رفالك

هاثا ثعَّدى الكُونفة إِيظَّلي/ لقد عبر رتل الجنود أمس

أو يمّاك ثييلاأو ثمناي / وأمك تنوح وتترجى

دونت الأغنية لحالة إنسانية أفلتت من التاريخ الرسمي الذي يركز على السرد الفنطازي بدل الاعتناء بالتفاصيل الرومانسية، ذات القيم الخالدة،ففي خلال تسعينيات القرن الماضي قدمها الفنان عميروش بعنوان " الرافال" محافظا على مطلعها التقليدي المعروف، مضيفا لها كلمات وألحان راهنة.

عوَاجلُ الرُعاةِ

يقول الكاتب والشاعر والفنان محمد أونيسي المتخصص في تدوين الأغاني التراثية وأغاني الثورة لـ " الترا جزائر": " إن كل الأغاني الثورية في الأوراس مارست وظيفة كتابة التاريخ، بيد أن عددا كبيرا منها  كان في الحقيقة برقيات مشفرة، تولت وظيفة إخبار الثوار بالمستجدات، واطلاعهم بالمعلومات السرية التي تستوجب الاحتياط، مثل أغنية "يا الحاج لخضر مول الشاش لصفر،ما تعقبش على المعذر العسكر راهو مسركل"،التي تعد تنبيها من عيون الثورة وجواسيسها لجنود الكتائب وقادتها، ليتجنبوا المرور بمدينة المعذر لأنه كان وقتها محاصرا من قبل الجيوش الفرنسية التي نصبت كمائن بناء على معلومات استخباراتية فرنسية توقعت عبور كتائب الشلعلع في أيام"

ة

تفكيكا لكيفية اشتغال تلك الآلية الإخبارية يضيف المتحدث لـ " الترا جزائر:" "تروى تلك المعلومة لعناصر الاتصال، ليقوم هؤلاء بنقلها للرعاة لتأديتها بطريقة غنائية صرفه قد تكون موافقة للسجع أو حتى من حيث القافية".

الفنان محمد أونيسي  لـ " الترا جزائر": "  كل الأغاني الثورية في الأوراس مارست وظيفة كتابة التاريخ، بيد أن عددا كبيرا منها  كان في الحقيقة برقيات مشفرة، تولت وظيفة إخبار الثوار بالمستجدات، واطلاعهم بالمعلومات السرية التي تستوجب الاحتياط

يقوم الرعاة الموظفون بالصدح بها خلال رعيهم الماشية في الوديان والجبال والبراري، حتى تصل مضامينها لعناصر الاتصال الذين ينقلونها كما جاءت للقادة الذين يعكفون على فك رسائلها المبطنة، ثم استخلاص السلوك الحربي أو الوقائي الواجب اتخاذه على ضوئها، وطبعا تضمن هذه الطريقة البدائية والعفوية توصيل البرقية العاجلة بطريقة مؤمنة لا تثير ريبة الفرنسيين الذين يظنون أنها أهازيج عفوية،تشبه إلى حد ما ظاهرة غناء "التروبادور"، أي ذلك النمط من الفنانين الجوالين الشائعين في أوروبا خلال القرون السابقة".

بَرقيّاتٌ مُشفًّرةٌ

إلى حد ما، تشبه هذه الطريقة الصوتية المتكئة على تراث تقليدي دارج أسلوبا تقليديا اعتمدته المافيا الإيطالية الصقيلية طريقة تواصل لتحاشي ملاحقة الشرطة السرية الإيطالية، بلجوئها لكتابة رسائل عبر قصاصات ورقية صغيرة تسمى "البيزيني"، وقد أبقت هذه الطريقة طائفة " الكوزانوسترا" بمعزل عن مراقبة السلطات الإيطالية على مدار عقود طويلة، لا بل إنها سمحت لخليفة طوطو رينا، روبرتو بروفنزانو بتسيير مقاليد العصابة مدة أربعين عاما من خلف الظلال.وتتشابه الطريقتان في كونهما وسيلتا تواصل واتصال معروفة في نطاق توافقي محدود، غير معلوم لبقية المخاطبين وبالتحديد لدى الخصوم المباشرين، كما لو أنها لغة خاصة عير متاحة للجميع، فإلى تخوم جبل الرفاعة في منطقة مروانة بالأوراس الغربي، شاعت هذه الأغنية الثورية التي تقول:

علاش علاش يا مروانة... في التلفون لا تكلمني

الطوموبيل راهي تجري...  وإن شاء الله يفرج ربي

وفحوى الإشعار تنبيه للثوار بتجنب المراسلات عبر استعمال الهواتف الموضوعة تحت تنصت السلطات الاستعمارية، والبديل هو توصيل الوثائق بواسطة السيارات لإنهاء خطر الرقابة على المكالمات.

ت

وتفكيك الرسالة يتطلب هنا تركيزا دقيقا من طرف قادة الكتائب لاستنباط الرسالة، المتوارية بين الكلمات غير المباشرة، كما لو أنها برقية تحتاج لمفككي الشيفرة على طريقة قارئي رسائل المورس التي عوضت الحروف بعدد دقات ذبذبات الجهاز.

أما في جنوب الأوراس، حيث كان العقيد أحمد بن عبد الرزاق المكنى سي الحواس يخوض المعارك فقد شاعت أغنية دارجة تقول:

راني حواس راني حواس

لخبار مشات على سي الحواس

في الكارني يجرد و يماركي في الناس

الكونفة لي جات والقرطاس نحاس

فهذه الأغنية المرتجلة إخبار للعقيد سي الحواس بوجوب توخي الحذر من أرتال عسكرية مسلحة حد العظم، تحركت للقضاء عليه بناء على معلومات جمعها مخبروه في كناشات خاصة تلت عمليات استنطاق للأهالي خلال حملة تفتيش ومداهمة.

إعلام نسوي

في بعض الحالات أيضا تسهم النساء الماكثات في البيوت عبر الأغاني في وصف الحالة العامة في الدوار أو الدشرة وتحتمل رسالة الوصف تلك نسخة للأعلام موجهة لقادة المناطق من الثوار المعروفين، ففي وادي الماء الواقعة في جبال الشلعلع شاعت هذه الأغنية:

آ عمي قَاسَا / يا عمي قاسا

آ يَا فيدايْ أروَاح / يا أيها الفدائي تعالَ

آيكَيْنِيغ أوَال/ سأخبرك بأمر

سُوث نْلفيلاَج / نساء القرية

خْسَنتْالحَرْكىَ/ يرغبن الزواج من الحركى

الصالح معطار / الصالح معطار

يتشَّاثو يتمَرْكَا/ يضرب و يحسب

وتتغنى هذه الأغنية النسوية التي أداها الفنان المعروف علي شيباني الشهير ماسينيسا مع والدته التي شاركت في الثورة واعتقلت في مظاهرات ديسمبر 1961،بالبطل صالح معطار منتقدة سلوك بعض النسوة الراغبات في الاقتران بالحركى طمعا في تحسين وضعهن المعيشي، كما لو أنها تطالب تدخل قيادات الثورة التدخل لإنهاء هذه الزيجات المناهضة لخط الثورة، المرادفة لخيانة القضية الوطنية، ويعقب الفنان عيسى براهيمي حكيم الأغنية الشاوية وأصيل منطقة وادي الماء : " هذه الأغنية إبداع نسوي خالص، أنجع من بريد البرق وجهاز التلكس".

وطبعا فإن " قاسا الفدائي" هي كنية لشخص غير معروف على وجه الدقة، حيث برعت الأسماء الحركية التي ألبستها الثورة للمناضلين في إبقائهم تحت طابع السرية، لا بل إنها أنقذت كثيرين من الاعتقال والتعذيب، مثلما حدث مع صانع الأسلحة " سيسبان" الذي عجزت السلطات الفرنسية عن الوصول إليه ناحية وادي الطاقة لأن اسمه الحقيقي هو محمد، فبدا كما لو أنهم يبحثون عن شخص غير موجود.

وجمعا لشمل الموضوع يلخص البروفيسور يوسف مناصرية، الكاتب والأستاذ الجامعي المتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر لـ " الترا جزائر" قائلا:" استعمل الجزائريون على الدوام الشعر الملحون، لرواية القصص في الأسواق تمتينا لطابع الشعبية، وعلى هذا لا يختلف مغنو الثورة عن ظاهرة مداح الأسواق، فهي الجذر الأول، حيث كانوا يكتبون المعارك صوتيا، ويشحنون الناس للتعاطف معها وتمجيد أبطالها".

 يوسف مناصرية لـ " الترا جزائر" :" استعمل الجزائريون على الدوام الشعر الملحون، لرواية القصص في الأسواق تمتينا لطابع الشعبية، وعلى هذا لا يختلف مغنو الثورة عن ظاهرة مداح الأسواق، فهي الجذر الأول، حيث كانوا يكتبون المعارك صوتيا، ويشحنون الناس للتعاطف معها وتمجيد أبطالها".

ليضيف: " كما كان لهذه الأغنية طابع المراسلة السرية، تماما كما كان يفعل مريدو الزوايا الصوفية، ولذلك فإن بعض أغانيهم ذات شفرات خاصة، و هذا ليس غريبا، فبحسب كتاب فرنسيين فقد لجأ جواسيس الأمير عبد القادر لذلك في مخاطباتهم، وهي طريقة شفوية تعتمد كلمات بسيطة عبر السماع لأنه أكثر انتشارا مقارنة بالكتابة التي واجهت عائق الأمية، ثمة فرق كبير مثلا بين بيان أول نوفمبر الذي جاء سهلا سلسا متاح الفهم للجميع، مقارنة ببيان البشير الإبراهيمي الذي لا يفهمه سوى الجاحظ".