نصح الفنّان سعد بن خليف عام 2013 تمثال المرأة العارية المعروفة بـ"عين الفوّارة" في قلب مدينة سطيف، 300 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، بمغادرة الجزائر بسبب "تراجع منسوب الانفتاح"، حسب تعبيره، خوفًا عليه من المتطرّفين الجدد، بعد أن تمّ تفجيره على يد إرهابيين عام 1997 وتمّ ترميمه من جديد على يد السّلطات.
أقدم شاب في الجزائر على تحطيم منحوتة امرأة عارية لها تاريخ تليد وهو ما أثار استهجان الكثيرين
كما سبق للرّوائي والقاصّ محمّد علّاوة حاجّي أن فعل الأمر نفسه تقريبًا، في مقال نشره عام 2015 ورد فيه: "هل بإمكان الفاتنة أن تستمرّ واقفةً في أمان؟ كم هي مخيفة تلك الصّور القادمة من سوريا والعراق، وكم هي مؤسفة تلك الأصوات التي يتعالى بعضها، دون حياء، عبر الشّبكات الاجتماعية لإزالتها، بحجّة أنها صنم وأنها عارية".
اقرأ/ي أيضًا: عين الفوارة... عادوني يا ماليا
ذاكرة التمثال
طلب حاكم مدينة سطيف المعروفة بـ"عاصمة الهضاب العليا"، من النّحات المعروف فرانسيس دو سانت فيدال أن ينحت له تمثال امرأة عارية. والخلفية كانت تنفير قاصدي المسجد العتيق الذين يزعجونه عند صلاة الفجر.
وصلت المنحوتة إلى ميناء مدينة سكيكدة في السّاحل الشّرقي للجزائر، ونقل منه عام 1898 إلى مدينة سطيف في عربة تجرّها الخيول. وكان يوم نصبه في مكان به نافورة ماء على خطوات من المسجد مشهودًا. غير أن السكّان الجزائريين تعاملوا مع التمثال بصفته تحفة فنّية في البداية، ثمّ بصفته رمزًا لمدينتهم، حتى أنها باتت تعرف بمدينة عين الفوّارة، مخيّبين ظنّ الحاكم الفرنسي، حيث صار المسجد والتّمثال معًا من رموزهم.
قداسة التمثال
تحوّل تمثال عين الفوّارة، في المخيال الشّعبي العام، من امرأة عارية إلى قدّيسة مباركة. إذ بات شائعًا أن الذي يشرب من الماء المتدفّق من تحت قدميها الرّخاميتين سيعود إلى المدينة حتمًا. وبات التقاط صور معها من طرف العائلة والأصدقاء من الطقوس السّارية لدى سكّان المدينة وزائريها من المحافظات الثماني والأربعين.
يقول الرّوائي الخيّر شوّار لـ"الترا صوت" إنها مفارقة جديرة بالبحث والدّراسة، "كيف استطاع تمثال المرأة العارية أن يكون استثناء في الفضاء الجزائري المحافظ؟ إذ لم يجد الجزائري حرجًا من الوقوف أمامه مع أمّه وأخواته وقريباته وأهله، رغم أن دقّة تصوير تفاصيل الجسد الأنثوي واضحة بشكل مثير".
تجلّى تعلّق سكّان المدينة بتمثالهم الرّمز واضحًا، من خلال خروجهم على بكرة أبيهم، حين تمّ استهدافه من طرف جماعة مسلّحة عام 1997، حيث ضغطوا على السّلطات كي تعيد ترميمه، وهو ما سارعت إليه، فاستعادت المرأة الفاتنة ملامحها، بما عُدّ واحدًا من مظاهر مقاومة قيم العنف والتطرّف والإرهاب، والتي أدّت إلى انهزام التنظيمات المسلحة في المشهد الجزائري بعد عشر سنوات خلّفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعطوبين والمهجّرين والمفقودين.
اقرأ/ي أيضًا: الجزائريون والتدين.. عودة الاعتدال؟
عودة أبي جهل
كان المكان، أمس الإثنين، ضاجًّا بالزوّار القادمين من مختلف الجهات، وبالمصوّرين الذين يلتقطون صورًا فورية لهم، وباعة التّحف الصّغيرة، في مقدّمتها تماثيل مقلّدة لتمثال عين الفوّارة، وإذا بشابّ ملتحٍ يلبس لباسًا سلفيًا يعتلي القاعدة الرّخامية للتّمثال، حاملًا مطرقة وقضيبًا حديديًا حادًّا ويشرع في تحطيم وجه المنحوتة وثدييها.
أصيب الحاضرون بصدمة منعتهم من التّدخل. فيما كان الفاعل يلوّح بمطرقته في وجه من حاول منعه، قبل أن يتدخل عنصران من الشّرطة ويقبضا عليه ويقتداه إلى المخفر للتّحقيق معه. تعالت أصوات الاستنكار من السّكان الذين تقاطروا على المكان، فقد لعبت الهواتف النّقالة وموقع التّواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا في نشر خبر الحادثة. وهو الغضب الذي حاول محافظ الولاية تخفيفه بالتّأكيد على أن الجاني لن ينجو بفعلته، بالموازاة مع تأكيد بيان سريع لوزارة الثقافة على أن هناك لجنة مختصّة كلّفت بمعاينة الأضرار النّاجمة عن الاعتداء، قصد ترميم التمثال الرّمز وفق المعايير الدّولية.
حديث السّاعة
يتخوف الجزائريون من طغيان التطرف الديني على المجتمع الجزائري خاصة بعد استحسان البعض لحادثة تحطيم المنحوتة
تصدّرت الحادثة بسرعة البرق المجالس الواقعية والافتراضية في الجزائر، بين مستهجن ومستحسن لها. وهو المعطى المستجدّ الذي لم يكن موجودًا في الاعتداء الأوّل قبل عشرين عامًا إذ كان الاستنكار غالبًا. يقول الفنان إبراهيم حدرباش لـ"الترا صوت" إنه لا ينبغي تفويت الإشارات التي تتضمنها استحسانات البعض للفعلة، من زاوية أن التطرف ليس تنظيمًا فقط مثلما يحصل مع داعش، بل هو تفكير أيضًا. يضيف: "لقد تبيّن أن المكان كان ضاجًّا بالعشرات وكان البعض قادرين على منعه عوض التفرغ لتصويره، بل إننا سمعنا في الفيديوهات من كان يستنكر على الشّرطة إلقاء القبض عليه".
ويرى قطاع واسع من المثقفين الذين تحدث "الترا صوت" إليهم أن الجزائر تعيش مقامًا تخلت فيه جميع المنظومات عن أداء واجبها في حماية قيم التنوير والحداثة والانفتاح وتكريسها في الشّارع والأسرة والإعلام. يقول المصور أيمن بودواني: "كان ممثلو هذا الفكر قادرين على أن ينظموا تجمعًا أمام التمثال ويطالبوا السلطات بإزالته، فيكون ذلك حقًّا من حقوقهم أما أن يحطموه بمبادرة منهم، فهذا يعني أن هناك خللًا لدى المواطن والدّولة معًا".
اقرأ/ي أيضًا: