02-مايو-2024
حسنة البشارية

(الصورة: تويتر)

تشيّع الجزائر، اليوم الخميس، جثمان الفنانة حسنة البشارية أيقونة فن "القناوي" وملكة "القمبري"، التي رحلت عن عمر ناهز 74 عامًا بعد صراع مع المرض، وبعد مسيرة حافلة بالعطاء في الفن بدأتها من الصحراء وأنهتها بالغناء في كبرى مسارح العالم. فكان لرحيل حسنة البشارية واسمها الحقيقي "حسنية" وقع كبير وحزن خيّم على منصات التواصل التي توشحت بالسواد.

"شيخة الديوان الأولى"، كما لقّبها الروائي سعيد خطيبي، تُعدُّ أول امرأة مغاربية تعزف على آلة القمبري أمام الجمهور

جاء نعيها ووداعها من قبل مثقفين وفنانين بارزين، إضافة إلى مواطنين ونشطاء بعبارات مؤثرة وشهادات إنسانية ومواقف مثيرة تعكس بساطة وتواضع هذه الفنانة التي تربّت وكبرت في الصحراء ونقلت الفن الجزائري إلى العالمية.

صوت حمل عبق الصحراء إلى العالم

وفي رحيلها استذكر وزير الثقافة الأسبق، الشاعر والروائي عزالدين ميهوبي بعض المواقف مع الراحلة البشارية وكتب عبر حسابه بفيسبوك: "وداعًا حسنة، وداعًا جوهرة السّاورة والصحراء حسنة البشاريّة الفنانة الأصيلة التي صدحت برائعتها "الجزائر جوهرة" بإيقاعها الجميل..".

ميهوبي أضاف: "وداعا للصوت الذي حمل عبق الصحراء في كل العالم، وهي تعزف على "القمبري" الذي ارتبط باسمها"، واستطرد قوله: "تعرفت على حسنة، وحضرت عديد حفلاتها، وكنتُ إلى جانبها كلما ألّمت بها وعكة صحية، مثلما ساهمت في تكريمها مرات عديدة.. وكانت، رغم ظروفها الصحية، تشارك في الفعاليات التي تُدعى إليها.. حيث يحتفي بها جمهورها الواسع، ويردد معها أغانيها، ويتفاعل مع "الجزائر جوهرة" التي جعلت منها أيقونة في التنوع الفني الجزائري.."

هذا هو أبي.. كيف كسرت حسنة البشارية عصا الرجل؟

من جهته، عاد الروائي سعيد خطيبي إلى المسيرة الثرية والمثيرة للراحلة، وقدم معلومات مهمة، وكتب بإحساس كبير: "تمسك حسنة البشّارية آلة القمبري، بين يديها، تصمت قليلاً، ثمّ تُشير إليها وتهمس: "هذا هو أبي"، وأضاف: "آلة القمبري الطّربية بأوتارها الثّلاثة، التي تصنع من جلد الماعز المُجفّف، هي التي أنقذتها من الحاجة، ملأت بطنها وبطون أمّها وأبنائها، سحبتها من الظلّ إلى النوّر، وجعلت منها امرأة تمشي بقدمين حافيتين ورأس مرفوع، تعزف نوتات، متقطّعة، يرتفع معها صوتها في مديح أولياء الله الصّالحين."

وشبّه خطيبي مشوار حسنة برحلة المستشرقة السويسرية إيزابيل إيبهارت التي عاشت في صحراء الجزائر، وعبر قائلا: "قضت حسنة أكثر من 30 عاماً، وهي تجوب بلاد الرّمال، كما فعلت قبلها إيزابيل إيبرهارت، تقطع الوديان والواحات والبلدات المنسيّة، تغني في خيّام الوبر، أو على الإسمنت البارد، وتحثّ بنات جيلها على الاستمساك بعروة الفرح وكسر عصا الرّجل. ثم راحت تطوف بين مدن أوروبية، في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال، كي تعلّم النّاس، وساكنة الشّمال، موسيقى الدّيوان، التي حملها المستعبَدون الزّنج، في طريقهم من الصّحراء الكبرى إلى شمال أفريقيا، وأرادوها نشيداً لثورتهم الخامدة."

ومما ورد في منشور خطيبي حول حسنة البشارية، أن "والدها كان يرفض أن تختلط ابنته بالرجال، لكنها "تمردّت" وكان تحمل "القمبري" (آلة موسيقية) وتعزف"، كما أشار إلى أنّها "ترّبت بمحاذاة زاوية سيدي بن أبي زيّان، الولي الصّالح والمتعبّد الزّاهد، صاحب الطّريقة الصّوفية "الزّيانية"، وأسّست عام 1972 فرقة نسائية للدّيوان. والتي تعدّ أوّل فرقة نسائية في هذا اللون الموسيقي، الذي لطالما كان حكراً على الرّجال."

ووفق خطيبي "بدأت حسنة بالغناء في الأعراس ثم وصلت إلى المسارح، وكانت تغني كي تحصل على مال وتشتري الدواء لأمّها، لكن لم تحصل على مال وفير في حياتها، لـأنّها كانت تتقاسمه مع المحتاجين."

وصف خطيبي الراحلة بـ"شيخة الديوان الأولى"، ورمز من رموز تحرر المرأة من عنق الزجاجة الذكورية، بحيث استطاعت تأنيث موسيقى الديوان التي ارتبطت لقرون بـ"المْعلّم"، أو المقدّم، وهي كلمة تُطلق على عازف القمبري، وقائد الفرقة، وكان لا بدّ أن يكون رجلاً، وأوجدت لها نظيراً: المعلمة، أضافت لغة أنثوية، على موسيقى ذكورية خشنة."، ولفت في منشوره إلى أنّ "حسنة بقيت وفية لروحها الأصلية، زاهدة في الحديث عن نفسها، لا تُبالغ في الثّناء عما فعلت."

سخية مع المحتاجين.. ولا تُبالي بالتكريمات

بدوره، الكاتب احميدة العياشي، ودعها بعبارات تحمل في طياتها إنسانية كبيرةكانت تتمتع بها الراحلة، واستذكر مواقف ومحطات من حياتها، كما وصفها بـ"صوت الحب الإنساني يحلق في سماء الرب".

ذاكرة العياشي عادت إلى 2017، وكتب قائلا: "في كانون الثاني/جانفي 2017، كنت في عيادة إلى مشفى مصطفى باشا بعد إجرائي لعلمية جراحية عندما انتبهت زوجتي التي كانت ترافقني إلى الفنانة العظيمة حسنة البشارية، كانت حسنة في المشفى ولم يكن مر عليها إلا أيام قلائل، في ذلك المساء انتقلت زوجتي إلى المشفى وهي تحمل لها حساء كانت بحاجة إليه، وتوطدت علاقتهما بشكل لافت، وعادت حسنة التي كانت تعاني العزلة جزء من العائلة، وإلى جانب زياراتنا اليومية لها، كانت الرئيسة الحالية مهدية بلغالية وزميلتها في بلدية سيدي امحمد زبيدة مهتمتين بالفنانة حسنة، وهكذا وجدت حسنة نفسها في وسط حميمي أزال عنها الأسى الذي غمرها في الأيام الأولى وهي طريحة الفراش."

وتحدث احميدة العياشي عن استضافته لها في برنامج ثقافي رمضاني كان يُنشِّطه، حيث تطرقت إلى الظروف الصعبة التي تعيشها، وآنذاك دعا وزير الثقافة الأسبق عزالدين ميهوبي إلى منحها شقة سكنية تأويها، لكن أكدّ أنّ الراحلة "لم تكن من أولئك الذين يجعلون من ظروفهم الاجتماعية مأساة بل كانت تحمل ذلك الفرح الصبياني الجميل الذي يسخر من العقبات والصعوبات، تتحدث بحب عن كل من وقفوا بجنبها لتخرج من النسيان والعزلة، كما كانت متسامحة مع بعض الذين كانوا يمتصون عرقها ويتحايلون عليها."

وأشار المتحدث إلى أن "المال الذي كانت تحصل عليها تمنحه إلى من هم بحاجة إليه، كانت سخية ومتواضعة وأصيلة وصاحبة حكايات، كما أنّها كانت لا تبالي بالمرض ولا بالتكريمات."

وروى احميدة العياشي ما دار بينهما في لقائهما الأخير قبل أيام بوزارة الثقافة على هامش تكريمها، معتبرا أنّ جانبها الإنساني كان مصدر عبقرية حسنة البشارية الشجاعة والصابرة، مؤكدا أنّها أوصلت فن القناوي إلى مصاف إنساني فني عالمي.

أيقونة القناوي

وفي ورحيلها كتب الفنان محمد محبوب بحسرة: "انتقلت إلى رحمة الله الفنانة القديرة أيقونة القناوة حسنة البشارية عن عمر 74 سنة، أتقدم باسم كل الأسرة الفنية بأخلص التعازي إلى عائلتها وكل محبيها، ونسأل الله أن يغفر لها ويرحمها ويسكنها فسيح جناته."

وأرفق محبوب نعيه الصورة أثناء تكريمها من طرف جمعية الألفية الثالثة رفقت رئيس الجمعية الممثل سيدي علي بن سالم.

أمّا فايزة رياش الباحثة في التراث ومدير المركز الثقافي قصر رياس البحر، فنشرت خبر وفاتها وكتبت وصفتها بـ"أيقونة القناوي والديوان حسنة البشارية في ذمة الله".

وفي الصدد قالت الكاتبة والإطار بوزارة الثقافة سمية مبارك في حق الراحلة حسنة البشارية : "إلى جنة الخلد جوهرة وعميدة الفن الصحراوي الفنانة حسنة البشارية، هذه الفنانة القامة التي حافظت بدورها على الموروث الغنائي الشعبي ورسخت في ذاكرة الفن الوطني رصيدا ثقافيا هاما."

وأردفت قولها: "جمعني بها لقاء طيب بدار الثقافة لولاية بشار في إطار القافلة الثقافية التحسيسية التي أطلقها وزارة الثقافة والفنون  بمرافقة الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة لسنة 2021."

بدورها الناشطة أمينة نور، استذكرت لقاءها مع الراحلة وكتبت: "الفنانة حسنة البشارية صاحبة أغنية الجزائر جوهرة، في ذمة الله، كانت لي فرصة لقائها سنة 2009، كانت إنسانة متواضعة فوق الحد، وطيبة ومرحة جداااا، هذه هي الدنيا كل من عليها فان، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته يارب وألهم ذويها جميل الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون."

أمّا الناشط علي دباغ، وصفها بالأيقونة وكتب: "الفنانة حسنة البشارية في ذمة الله، الأيقونة "حسنة البشارية"." قبل أن يضيف: "عندما تصل فنانة من الجنوب للعالمية، "حسنية حسني" أو حسنة البشارية من خادمة بيوت إلى أيقونة عالمية في موسيقى الـڤناوي، قامة فنية وتاريخ حافل بالإنجازات، ملكة الڨمبري وسفيرة الڨناوي دون منازع ."

المؤسسات الرسمية وعلى رأسها وزارة الثقافة ومختلف المديريات التابعة منها مدريية الثقافة والفنون لولاية بشار، وجهت برقيات تعزية لعائلة الفنانة حسنة البشارية، وأكدّت أنّ الراحلة أيقونة فن القناوي بالجزائر.

وحسنة البشارية، من مواليد بشار في 1950، فنانة رائدة في طبع الديوان، تمتد مسيرتها الفنية لأكثر من 30 سنة، كما أنها أول امرأة مغاربية تعزف على آلة القمبري أمام الجمهور، وقد تركت تأثيرًا كبيرًا في مسار العديد من الفنانين على غرار سعاد عسلة التي أسست في 2015 فرقة "لمة بشارية" ضمت العديد من الفنانات أبرزهن حسنة البشارية.

وشاركت الراحلة في مهرجانات دولية بالجزائر وفرنسا وبلجيكا والمملكة المتحدة ومصر وكندا، وقد أُنتِج مؤخرًا فيلم وثائقي حولها بعنوان "مغنية الروك الصحراوية" لمخرجته الجزائرية-الكندية، سارة ناصر، تكريما لها، كما منحت في 2017 وسام بدرجة "عشير" من مصف الاستحقاق الوطني.