من أكثر المشاهد خطورة وسخرية ودلالة على تلاشي هيبة الدولة والحكومة والتربية والتعليم والامتحانات والوزارة المشرفة على هذا كله في الجزائر التي تتفاخر بأن عدد طلبتها الجامعيين يساوي أو يفوق عدد سكان سبعين دولة في العالم، ضحك ممتحنو شهادة البكالوريا هذه الأيام، وهم يسمعون حراس الامتحان يقولون لهم عند فتحهم أظرفة الأسئلة: "لاحظوا.. إنها مغلقة"، كانوا يضحكون لأنهم يعلمون مسبقًا بفحوى الأسئلة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
أثبت فيسبوك في الجزائر أنه يملك سلطة أقوى من سلطة الرئاسة والحكومة والوزارة
لقد أثبت فيسبوك في الجزائر أنه يملك سلطة أقوى من سلطة الرئاسة والحكومة والوزارة، ويبدو أن هذه المؤسسات الثلاث كانت ولا زالت تجهل هذه السلطة الخفية الموازية، لأنها تجهل طبيعة الجيل الجديد الذي أفرزته مرحلة ما بعد الإرهاب، وهو الجيل الذي يساوي عمرُه تمامًا عمرَ العهدات الأربع للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فالتلميذ الذي خاض امتحان شهادة البكالوريا هذه السنة، هو نفسه المولود عام 1999 الذي شهد وصول الرجل إلى قصر المرادية.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا ابتعد الأكراد عن الرقة؟
اعتراف وزيرة التربية السيدة نورية بن غبريت بوجود غش جزئي في البكالوريا التي تحظى باحتفاء شعبي عام، وتفسير مدير "الديوان الوطني للمسابقات والامتحانات" التسريب الحاصل على أنه مؤامرة على ديوانه وعلى الوزارة، يدل على أن القائمين على الشؤون العامة في الجزائر يفهمون كل حركة أو تحول أو مسعى أو هزة أو طرح أو فكرة أو معارضة في إطار ثقافة المؤامرة التي تربوا عليها في تسيير البلاد والعباد، والتي مكّنتهم من الوصول إلى الحكم والبقاء فيه، على حساب كل الرهانات الوطنية المرتبطة بمستقبل الأجيال الجديدة.
سواء تعلق أمر تسريب أسئلة البكالوريا بإهمال رسمي أو بشطارة جيل التكنولوجيات الحديثة، فإنه يدين في الحالتين المنظومة القائمة ويضعها أمام سؤال حقيقي عليها أن تتعاطى معه بجدية حقيقية: متى يتمُّ إدراكُ أن مرور ستين عامًا على الاستقلال الوطني أصبح كافيًا لتجاوز مرحلة "جبهة التحرير أعطيناك عهدًا؟".
إن وقوف شباب عند مداخل مراكز الامتحانات لبيع أسئلة البكالوريا، بغض النظر عن كونها الأسئلة المقررة فعلًا أم لا، لا يمكن فهمه إلا من زاوية أن هناك جيلًا جديدًا تجاوز من يحكمه، وهو يطالبه بحقه في ممارسة الغش، تمامًا كما وصل هذا الحاكم إلى الحكم وبقي فيه بالغش.
اقرأ/ي أيضًا: ساندرز: كيف تجرأ ابن مهاجر فقير على الحلم بالرئاسة
تكتمل سلطة الغش في البلاد، ويصبح السؤال الكبير الذي يعطي شرعية جديدة للسلطة الحاكمة
لقد شهدت الدورات الثلاث السابقة للبكالوريا حدثًا ذا رمزية عالية وخطيرة، هو خروج التلاميذ الذين ضُبطوا متلبسين بالغش، في مظاهرات طالبوا فيها بـ"إنصافهم" بعدم إقصائهم من النجاح رغم اعترافهم بالغش، وما أرادوا قولَه هو "لماذا نُخَصُّ بتطبيق العدالة من بين كل الغشاشين الموجودين في البلاد؟". فالقاضي الذي حاكمهم وصل إلى منصبه، بحسبهم، عن طريق الغش، وكذلك الأستاذ الذي درّسهم والمدير الذي أدار مؤسستهم إلى آخر الرؤوس الظاهرة والخفية.
وما يؤسف له أن هذا الحدث مرّ في صمت من طرف كل المنظومات المعنية بإعلاء الصوت في مقاربة منطلقاته ومآلاته، تمامًا كما مرّ في صمت حدثُ ضبط نسبة كبيرة من الأساتذة يغشون في مسابقة التأهيل قبل أسابيع، مما دفع بأحد مسؤولي التربية والتعليم إلى اقتراح أن يُؤتى بالتلاميذ لحراسة الأساتذة، وبهذا تكتمل سلطة الغش في البلاد، ليصبح السؤال الكبير الذي يعطي شرعية جديدة للسلطة الحاكمة، بعد ترهل شرعيتها التاريخية قائمًا: من يُحاسب من؟
اقرأ/ي أيضًا: