24-مارس-2024
اليامين زروال

رئيس الجمهورية الأسبق اليامين زروال

في الحادي عشر من شهر سبتمبر/ أيلول 1998، فاجأ اليامين زروال الجزائريين حين أعلن عن تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة في شهر أفريل 1999، مبديا نيته في تقليص عهدته مع عدم الترشح لعهدة أخرى، بعد إدارته رئاسة البلاد في فترة أمنية عصيبة انتهت بهزيمة الإرهاب.

بعد الانتخابات الرئاسية التي حملت بوتفليقة رئيسا للبلاد قرر زروال، بعد إنهاء مراسيم تداول السلطة، العودة للاستقرار في مدينته باتنة، التي لم يغادرها منذ تلك الرحلة

حاول كثيرون ثنيه عن القرار خلال اجتماع مجلس الحكومة الذي سبق الإعلان الرسمي، لكنه رفض قائلا:" انتهت مهمتي".

بعد الانتخابات الرئاسية التي حملت بوتفليقة رئيسا للبلاد قرر زروال، بعد إنهاء مراسيم تداول السلطة، العودة للاستقرار في مدينته باتنة، التي لم يغادرها منذ تلك الرحلة، مفضلا تمضية حياة رتيبة، يظهر فيها أحيانا مرتديا سراويل "الجينز"، وبدلات "البلوتشنغاي".

عادة يومية

لا يبدو للناس هنا، بأن اليامين زروال كان في يوم من الأيام رئيسًا للجمهورية، فهو لا يقطن في قصر معزول عن الناس، بل في منزل، أو إن شئتم فيلاّ، لكنها فيلا عادية، ليست أفخم من سكنات جيرانه، على أية حال.

يقع منزله في حي "'بوزوران" في الحدود الفاصلة مع حي "الباطوار"، غير بعيد عن ملعب أول نوفمبر الأولمبي، وهو يقابل شارع عمومي يقطعه المارة والسيارات بشكل عادي، لذا يحدث كثيرا أن يُرى قرب منزله ممارسا رياضته المفضلة، سواء المتعلقة بالمشي البطيء أو مشي الهرولة، يقطع الرصيف ذهابا وإيابا، مع تحريك يديه بين الفترة والأخرى، لإنعاش دورة جسمه الدموية.

اليامين زروال

وهذا الطقس الرياضي يتكرر دائما، أحيانا في الصباح الباكر، ومرات خلال المساء، ما بعد العصر ببرهة، أما في رمضان فيكون قبل آذان المغرب بقليل.

وهذه العادة التي لم ينقطع عنها رئيس الجمهورية السابق حتى يومنا هذا، كما لو أنها ركن يومي من طقوسه دفعت الكثيرين من أبناء المدينة للقول بأن شعيرته اليومية اللازمة التي تشبه شكلا شعيرة الصفا والمروي، وللتدليل أيضا على أن بيته تحول لمحج للمحتجين من كل القطاعات الذين يطلبون تدخله عند السلطات بما يحوزه من واجهة أخلاقية أعقبت زهده في السلطة.

في واقع الحال، لا يمارس زروال الرياضة من أجل الرياضة، بل من أجل الصحة، وبنصائح من الأطباء الذين يتردد عليهم في مدينة باتنة، منذ معاناته من عرق النسا ومن أمراض أخرى تتوافق مع سنه المتقدمة، فهو من مواليد 1941، ويدنو من عامه الثالث والثمانين.

أيضا، وبنصائح من أطباء، داوم "سي لامين" كما يسميه جيرانه على حصص سباحة خاصة في مسبح ملعب أول نوفمبر الواقع على بعد مئات الأمتار عن مسكنه، وقد كان يتنقل من حين إلى آخر بسيارته، أو راجلا مرات. حابته السلطات الولائية آنذاك بأشغال ترميم كبرى للمسبح نصف الأولمبي، ثم انقطع تماما عن المركب بعدما جهز مسبحا خاصا بمنزله أغناه عن قطع تلك المسافة اليسيرة.

ابن الإسكافي 

يحظى زروال برتبة واستحقاق وظيفة رئيس جمهورية، لذا فإنه يعيش ترتيبات أمنية خاصة. يشرف على حراسته في بيته فريق أمني متخصص، يضم أحد أقاربه، وتصاحبه تلك الترتيبات الأمنية الخفيفة في حله وترحاله، رغم أنه لا يشارك في أية تظاهرة رسمية، ويرفض دعوات الجمعيات والمنظمات التي تدعوه للحضور، باستثناء حضوره لدعوة إحدى جمعيات أولياء تلاميذ لتوزيع جوائز على متفوقين.

يروي مدير تنفيذي عمل بولاية باتنة في قطاع الرياضة وتحفظ عن كشف هويته، لـ "الترا جزائر" قائلا: " كنت ذات مرة في المسبح الأولمبي وتصادف أن قابلت زروال جالسا في كرسي قبل بدء حصته، رأيته وهو يحدثني يستشيط غضبا من أحد حراسه، فطلب منه الرئيس الابتعاد عن مجال رؤيته والاختباء كي لا يراه، لأنه يكره الشعور بالمراقبة".

اليامين زروال

سبق لي شخصيا وأن رأيته قبل أشهر بحي الأمير عبد القادر، فقد كان في سيارة مع حرسه، لقد طلب منهم التوقف راغبا في تناول كوب شاي، فنزل قريبه مقتنيا له ما أراد، قبل أن يصادف زروال أحد معارفه القدامى منخرطا معه في حديث دام قرابة النصف ساعة.

التصرفات العفوية لليامين زروال ليست أمرا متكلفا، فهي واضحة، وتنم عن أصله الاجتماعي لا على مكتسبه السياسي أو العسكري، فهو يتصرف بصفته " ملولي" أي سليل عرش أيث ملول الشاوي الواقع في تخوم جبل شيليا، ولا يتصرف بكونه رئيس جمهورية سابق أو جنرالا.

كما أن والده كان رجلا بسيطا، فقد عمل إسكافيا في حومة الفوّالة وسكن "ديار لاكومين" بحي شيخي، وهذا يعني اكتسابه الفطري للذهنية الشعبية، فهو يقتني اللبن بنفسه من محل مجاور لبيته، ويتوقف حينما يطلب منه المارة أخذ صور تذكارية عادية، كما لا يجد حرجا في التقاط صور السيلفي، كما قد يرى وهو يتبادل أطراف الحديث مع العجائز.

يتوقف الرئيس السابق حينما يطلب منه المارة أخذ صور تذكارية عادية، كما لا يجد حرجا في التقاط صور السيلفي، كما قد يرى وهو يتبادل أطراف الحديث مع العجائز

وعندما يمل أن يقود به السائق السيارة يتولى هو قيادتها بنفسه سواء في الجولات الروتينية بالمدينة أو لزيارة أقارب أو لتفقد صناديق النحل التي أقامها ذات أعوام لتربية العسل بين فسديس والمعذر.

لا ينسى أصدقاءه

يتردد الرجل منذ سنوات طويلة على عيادتين، هما عيادة سعد العود، وعيادة ابن رشد، لصاحبها حليس، فيما أجرى عملية جراحية تخص شفط ماء العيون (الكاتارات) عند الطبيب الراحل إسماعيل سمايلي. يتذكر سكان المدينة تلك القصة المؤثرة عندما دخل زروال على طبيب عيونه سمايلي ووجده في حالة مزرية نتيجة معاناته من مرض عضال، فقرر أن يتدخل على أعلى مستوى ويوفده للعلاج ببلد أوروبي. ويوم مات ذلك الطبيب كان الرئيس زروال حاضرا في جنازته.

وكما لو أن زروال لا ينسى أصدقاءه أبدا، فقد تكررت ذات القصة مع الكومندان موسى حليس، غداة مرض هذا الأخير، لقد غضب زروال أشد الغضب من تجاهل إدارة المستشفى الجامعي بباتنة لحالة موسى حليس الصحية، وعدم الاعتناء به، لا بل إنه زاره في بيته وقرر أن يرسله للعلاج بمستشفى عين النعجة العسكري، عرفانا بفضله عليه خلال الثورة.

اليامين زروال

روى لي الكومندان الراحل موسى حليس المكنى تشي غيفارا الأوراس قصة تجنيده لزروال في سن السادسة عشرة من عمره قائلا: " جنّدته واقنعته بالالتحاق بالثورة فالتحق بنا بالشلعلع مقدما صكين ماليين استولى عليهما من مكتب المحامي اليهودي سوفران علوش، أحدهما بمليون فرنك، والآخر بمليونين ونصف.

تحفظ الحاج لخضر عليه لفترة بسبب عمله لدى ذلك اليهودي الفرنسي فقد توجس من الأمر، لكن مع مرور الوقت تم تحويله إلى تونس ومن هناك أرسل لدراسة العسكرية وتحديدا سلاح المدفعية بالشرق الأوسط. عندما أنهى تكوينه شارك بصفته ضابطا في جيش الحدود في قصف مدفعي ضد مواقع فرنسية قرب جبل الكويف".   

خط مباشر

يتلقى زروال بين فترة إلى أخرى زيارة مسؤولين أو حتى مواطنين، وخلال الأعوام الماضية رفض عدة دعوات للترشح، وجهت له من أقطاب بعض فصائل الأسرة الثورية، كما لم يشارك في أي نشاط رسمي خلال مرحلة عبد العزيز بوتفليقة، وروى لي ابنه عبد الكريم أنه رفض فيلا فاخرة وسيارة فارهة عندما رغب عبد العزيز بوتفليقة أن يجعلها من بين تقاليد تكريم رؤساء الجزائر، بعد انتخابه رئيسا شهر أفريل 1999، فقبل الهدية الرئاسية كل من بن بلة وعلي كافي والشاذلي، فيما رفضها زروال، الذي لم تعجبه تصريحات خلفه الذي وصف جميع رؤساء الجزائر، عدا بومدين- بالمتربصين، ما اعتبر تعريضا بالإساءة ضد الآخرين.

فرد عليه زروال خلال رحلة علاج من إصابة في اليد بمستشفى الجامعي بباتنة، قائلا  لطبيب أمره الجلوس فوق كرسي لتلقي الحقنة": ليس من عادتي التداوي و أنا جالس، يمكنك أن تفعل ذلك وقوفا"، بلا ريب كانت هذه الجملة تعريضا على الوضع السيء للبلاد أشهرا قليلة قبل ميلاد الحراك الوطني.

بخلاف بوتفليقة تربط زروال بالرئيس الحالي عبد المجيد تبون علاقات وطيدة، الراجح أنها تكون نشأت خلال تولي عبد المجيد تبون مهاما إدارية على مستوى ولاية باتنة خلال بداية مساره المهني بين سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أي في الوقت الذي تولى فيه زروال مهام عسكرية رفيعة بباتنة وقسنطينة.

 لقد خصه عبد المجيد تبون باستقبال خاص بقصر المرادية بعد انتخابه رئيسا للجمهورية، كما يتبادل الصديقان المكالمات الدورية، التي توحي أنهما على علاقة واتصال دائمين.

قبل سنوات راجت أخبار عن عزم الرئيس الأسبق نشر مذكرات شخصية، يروي فيها الرجل سيرته الذاتية والعسكرية والسياسية، ويكشف للرأي العام أسرار انسحابه الكبير من رئاسة البلاد، بيد أن المشروع تعطل لأسباب مجهولة، لعل أبرزها عزوفه المزمن عن الخوض في المياه الراكدة، ورغبته في قضاء حياته في سكينة وبلا ضوضاء، وإداراتها بطريقة تشبه حياة الزهّاد والنسّاك. وطبعا لم يعفه ذلك من المشاركة شهر أكتوبر الماضي في مظاهرة حاشدة، متقدما صفوف الجماهير، تضامنا مع سكان غزة وتنديدا بالعدوان الإسرائيلي الوحشي ضد المدنيين في فلسطين.