تُعد مذكرات المجاهد الراحل لخضر بن طوبال من بين الشهادات التاريخية النادرة والمميزة، إذ نجد في شهاداته التي جمعها المؤرخ دحو جربال في جزئين، إجابات مفصّلة على عدة أسئلة واستفهامات ظلت عالقة ومسكوت عنها.
يَذكر بن طوبال أنه قبيل أحداث 20 آب/أوت سنة 1955، كان الوضع الميداني هادئًا جدًا، وكان السكون يُخيم على الجبال
تتوفر مُذكرات بن طوبال على قيمة تاريخية قلّمها نجدها في كتب التاريخ التي تناولت الثورة الجزائر، يرسم فيها الكاتب معالم تطور الحركة الوطنية، ويقف على عدة محطات وتفاصيل حساسة خلال الفترة الممتدة ما بين 1954-1962.
ومن بين الشهادات الهامة التي تناولها المؤّلف في كتابه، هجومات الشمال القسنطيني التي جرت في 20 آب/ أوتسنة 1955، شرح فيها بن طوبال السياق السياسي وظروف العمل العسكري والميداني لثورة التحرير، كشاهد وفاعل أساسي في أحداث الهجوم القسنطيني، كما أشار إلى الدور المحوري للشهيد زيغود يوسف في إنجاز الهجوم، مع رصد الغاية والهدف من وراء التحضير للعمليات في هذا التاريخ.
الوضع الميداني للثورة
في البداية يَستحضر لخضر بن طوبال في مذكراته التاريخية، الوضع الميداني للثورة وحالة الثوار بعد مرور سنة قريبًا من اندلاع ثورة التحرير في الفاتح نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1954، ويقدّم صورة قاتمة عن الوضع الميداني والعسكري للثورة المسلحة، ويُبدي آنذاك تخوفه وقلقه على مسار الثورة، والتساؤل عن مدى إمكانية استمرارها الثورة.
يَذكر بن طوبال أنه قبيل أحداث 20 آب/أوت سنة 1955، كان الوضع الميداني هادئًا جدًا، وكان السكون يُخيم على الجبال، بينما كان زيغوت يوسف الذي رفقة الثنائي بن طوبال وقائد الناحية الثانية يَدرس ويحلل الوضع العسكري والميداني للثورة. الرجلان يستخلصان أن كل المؤشرات لا تبشر بالخير، ففي الأوراس الوضع ساكنًا وهادئًا عسكريًا، تراجع الاشتباكات والكمائن وحرب العصابات، والعمليات العسكرية باتت تقتصر على مواقع دفاعية لا هجومية، ورسائل بشير شيحاني تؤكد مخاوف خفتان ثورة التحرير في منطقة الأوراس.
أما عن منطقة القبائل أو المنطقة الثالثة، فقد انقطعت الأخبار عن الوضع هناك. الوضع أيضًا مُشابه ومُماثل في كل من المنطقة الغربية(وهران)، أما عن الجزائر العاصمة فلم تُسجل أيّة عمليات عسكرية أو هجومات مسلحة تذكر، أو تُرسل إشارات وعلامات مشجعة.
وأمام الوضع "الإكلينيكي" للثورة، أمضى بن طوبال رفقة زيغوت يوسف يومين بلياليهما في دراسة الوضع، حينها دعا زيغود إلى ضرورة التحرك عاجلًا وأخذ المبادرة والقيام بعملية عسكرية نوعية، قائلًا "ليس لدينا أي خيار، إذا أبصرنا إلى البعيد سنتمكن من إخراج الجزائر من هذا الانسداد السيئ، وإذا رأينا الأمور بشكل أصغر سيؤول الوضع كما في الثامن أيار/ماي 1945، يستمر لفترة (يقصد التحرك الميداني) ويتبدد التأثير.
هجوم عسكري شامل
وأمام تراجع الفعل الثوري والعمل العسكري والمسلح، تقرر القيام بعمليات هجومية واسعة على شكل أقواس يتردد صداها انطلاقًا من القل وسكيكدة تمتد إلى غاية الجنوب القسنطيني مرورًا بشمال المدينة، أما عن خصوصية الهجوم فتقرّر إقحام كافة الفئات المجتمعية بدل الاعتماد على جنود الكتائب والسرايا.
يُحدد بن طوبال أهداف هجومات 20 آب/أوت سنة 1955، وعلى لسان الشهيد زيغود يوسف، يقول مسؤول الشمال القسنطيني "لا بد من أن تكون عملية الهجوم تتجاوز العمليات العادية، لابد من استرجاع واحتلال الميدان ليلا ونهارً، يَتعين علينا إعادة رفع روح معنويات والأمل للشعب والجنود.
رسالة إلى المناطق العسكرية
ومن بين أهداف هجومات الشمال القسنطيني هي إرسال رسالة إلى باقي المناطق الثورية والعسكرية، وضرورة توسيع العمليات الثورية مباشرة على مراكز القوات الاستعمارية، ويتعين على قادة المناطق اشراك كافة أطراف الشعب الجزائري في العمل المسلح وتوسيع القاعدة الثورية.
اختيار الخامس من شهر آب/ أوت لم يكن اعتباطيًا، فقد أراده زيعود يوسف تاريخًا يَحمل رمزيًا إشارة إلى التضامن المغاربي، وهو التاريخ نَفي الملك المغربي محمد الخامس من طرف الإدارة الاستعمارية، تاريخ هجومات الشمال القسنطيني هي رسالة قوية إلى الشعب المغربي أننا نكافح من أجل قضية واحدة عادلة.
تدويل القضية الجزائرية
أراد زيغود يوسف من القيام بعملية عسكرية شاملة وواسعة، ترمي إلى تدويل القضية الجزائرية في المحافل الدولية، وإسماع صوت الجزائر عاليًا، كان يَرى أن محلية العمليات العسكرية من شأنه خنق وتقويض الثورة الجزائرية، وأدرك باكرًا أن تدويل القضية الجزائرية يعتبر مخرجًا رئيسيًا في مسار نجاح هذه الثورة، خصوصًا بعد الخطوة الناجحة والمشاركة الفاعلة للوفد الخارجي في المؤتمر الأسيوي-الأفريقي بباندونغ، ما بين 18 و24 من شهر نيسان/أفريل عام 1955، كما ترافقت عمليات الهجوم القسنطيني مع قرب موعد انعقاد اجتماعات وجلسات الأمم المتحدة.
نحو راديكالية الثورة
في السياق ذاته، كان على القادة المنطقة الثانية التوجه إلى المزيد من عسكرة العمل الثوري، والسير نحو مزيد من راديكالية مطالب الثورة لقطع أيّة مبادرة سياسية من طرف الإدارة الاستعمارية، التي حاولت امتصاص الغضب الشعبي وفك الروابط بين الجناح الثوري والجناح السياسي للحركة الوطنية.
قبيل الهجومات 20 آب/أوت ينقل لنا بن طوبال حديث أجراه مع زيعوت يوسف، قائلًا له "لا بد من أن تكون عملية نوعية، تَصدم العدو والخصم، لا بدّ أن نرمي بكل ثقلنا في العملية، سيشارك في العملية كافة الجنود والقادة على مستوى واحد ونوسع المشارك مع باقي شرائح الشعب الجزائري".
التضحية
أشار بن طوبال في مذكراته أنه عندما اطلع القادة والجنود على خطة الهجوم قبيل يوم واحد من العملية الكبيرة، كانت ردة الفعل الأولية الرفض والاحتجاج من طرف القاعدة على أن يشارك بن طوبال وزيغود يوسف شخصيًا على رأس فيالق تقود اقتحام مراكز العدو بوسط المدينة.
لكن بن طوبال وزيغود يوسف أصرّا على المشاركة الشخصية وقيادة العمليات، بَكى خلالها الجنود وقادة السرايا، وكانت العملية تفرض التضحية من أجل إنجاح واستمرار الثورة، وفك العزلة على المناطق المحاصرة وتدويل القضية الجزائرية وقطع سبل المخادعة الفرنسية ووعود جاك سوستال بـ "الجزائر الجديدة" وقص الحوار مع بعض قادة الحركة الوطنية.
كانت المخاطرة كبيرة وهائلة، وأطلق عليها بن طوبال "بالعملية الانتحارية" لكن هناك اعتقاد راسخ بنجاح المهمة، مع وجود من يستخلف القيادة إذا قدر الله أن يستشهدا.
الأراضي المحررة ومؤتمر قسنطينة
التفاصيل حول مجريات وخطط هجوم الشمال القسنطيني والدروس المستنتجة تحتاج لوحدها إلى دراسة وتحليل، كانت كلمات زيغود يوسف بعد الهجمات " لقد انتصرنا، الثورة اليوم أعظم وأكبر وقد حققنا أهدافنا".
كانت المخاطرة كبيرة وهائلة، وأطلق عليها بن طوبال "بالعملية الانتحارية"
قال بن طوبال في هذا الصدد، "لقد استرجعنا المبادرة وأعدنا الروح المعنوية للشعب عاليًا، حررنا مناطق عديدة، اختفت قواعد عسكرية كانت متمركزة في الجبال"، بعدها قرر قادة الناحية الثانية بضرورة عقد مؤتمر من أجل الاحتفال بالذكرى السنوية لأول لنوفمبر، فضلًا عن وضع وإجراء تقييم للأهداف التي حققتها هجومات 20 آب/ أوت سنة 1955.