بَعيدًا عن النص السردي والخيالي الذي كتبه الروائي أمين الزاوي في رواية " آخر يهود تمنطيط"، غير أن بعض النقاد ٍيعتقدون أن إدخال الشخصية اليهودية في الرواية الجزائرية الحديثة، يحمل دلالة ثقافية وخلفية فكرية، تتمثل في وجود علاقة حميمية بين اليهود والجزائر، ومحاولة تبني فكرة "التعايش التاريخي"ـ فعبر القصة الرومانسية، حاول الزاوي رسم معالم التعايش الثقافي والاجتماعي الذي كان في المجتمع الجزائري ومنطقة تمنطيط تحديدًا، قبل أن يتعرّض هذا التعايش إلى التفكيك والتخريب بسبب الاعتقادات الدينية أو العنف المقدس.
لاحظ المغيلي تراجع أوضاع المسلمين الاقتصادية والمالية في تمنطيط نتيجة الاستغلال المالي للطائفة اليهوديةوسعيهم لإقامة كيان سياسي داخل مجتمع قائم أصلًا، عبر استقطاب المزيد من المهاجرين اليهود ودفع المسلمين للهجرة
لكن في مقابل ذلك، ما هي القصة الحقيقية لـ يهود تمنطيط، وهل حاولوا فعلًا تأسيس دولة في المنطقة نتيجة نفوذهم الاقتصادي والتجاري، ومن هو عبد الكريم المغيلي الذي أخرج اليهود في واحات توات؟ وما هي المبررات والدوافع؟
مدينة تمنطيط
تَقع منطقة تمنطيط جنوب غرب مقر ولاية أدرار، وتعود تسميتها إلى اسم بربري مركب من كلمتين "أتما" وتعني النهاية و"تيط"، وتعني العين، أي نهاية العين، وتعتبر مدينة تمنطيط من أقدم المدن التجارية بالصحراء الكبرى، وكانت مركزًا اقتصاديًا وتجاريًا يربط إقليم توات "تمنطيط" والمدن التجارية الشمالية كوهران وتلمسان وبجاية إلى غاية مدينة تامبكتو في مالي وأرض السودان والسينغال وأعماق الصحراء الجنوبية وغربها.
أوضاع واحات تمنطيط
وقد شكل الموقع الاستراتيجي لـ مدينة تمنطيط، سبب لهجرة العديد من الساكنة كالبربر والعرب في الشمال واليهود من مدينتي فاس وتلمسان وبعض الزنوج من العمق الأفريقي، إلى إقليم توات، وقد اشتهرت المنطقة بتجارة الذهب والفضّة، وتوفر مختلف السلع والبضائع كالتمور والشاي والأسلحة والبهائم والأغنام والمنتجات الفلاحية.
ونظرًا إلى ازدهارها اقتصاديًا، تشكّلت هناك معالم مدينة على النمط الإسلامي والعمق الأفريقي، وإثر نفوذها الاقتصادي والتجاري، استقطبت علماء الدين وبُنيت المساجد ودور العبادة للطائفة اليهودية.
هجرة اليهود إلى تمنطيط
وكانت أوضاع أقاليم توات التي تضم مدينة تمنطيط، مزدهرة اقتصاديًا ومستقرًا سياسيًا، كما أن الطرق التجارية كانت جد آمنة، مما أثار شهية وأطماع التجار من الجالية اليهودية، والتي هجرت بعد اضطهادات المسحيين في الاندلس، واستقرت قبلها في شمال افريقيا ثم هجرت إلى منطقة تمنطيط.
وتذكر المصادر التاريخية أن بمدينة تمنطيط لوحدها، كان يوجد بها أكثر من 350 تاجرًا وصانعًا يهوديًا، يحتكرون بعض الأنشطة الصناعية والتجارية كالذهب والفضة وصناعة الجلود وغيرها.
ارتباك وخلل
وتشير المصادر التاريخية أن احتكار الطائفة اليهودية لبعض النشاطات الاقتصادية والتجارية، كان وراء فوضى وارتباك في النسيج المجتمعي وأحدث خلل في التوازن بين المسلمين واليهود والمسيحيين، والذي كان قائم على التنوع في الخدمات، والتبادل التجاري والسلعي بين المكونات المجتمعية، وقد سمحت سلسلة التبادل والتعاون على وجود انسجام وتعايش داخل المجتمع متنوع الأعراق والدين.
غير أن جشع الطائفة اليهودية، بحسب الكتب التاريخية، وتمردهم على الحكام الشرعيين والدسائس السياسية نتيجة نفوذهم المالي والاقتصادي، لفت انتباه الإمام والعالم عبد الكريم المغيلي.
من هو عبد الكريم المغيلي؟
ينتسب محمد عبد الكريم المغيلي إلى قبيلة مغلية بمنطقة تلمسان، إذ ولد في مطلع القرنيين التاسع الهجري والخامس عشر ميلاي وذلك استنادًا إلى تاريخ وفاته، حفظ القرآن الكريم في صغره، تم اعتكف على دراسة العلوم الشرعية واللغة العربية وأخذ العلم عن أهل التصوف وكان من بين مشايخه: الشيخ عبد الرحمان الثعالبي ويحي بن يدير، وعاش في فترة كانت فيه مدينة تلمسان تعرف اضطرابات سياسية وتقلبات ومشاكل داخلية، فضلًا عن تكالب القوى الاستعمارية الأوروبية على المدن الساحلية الجزائرية.
سافر من تلمسان واستقر بعض الوقت لدى عشيرة أولاد يعقوب في واحة تمنطيط، وأسس مدرسة لتعليم وحفظ القرآن في واحد بوعلي الهني في إقليم توات.
صدام مع اليهود
حل الشيخ المغيلي بإقليم توات على الأرجح ما بين عامي 1477-1478، ووجد، بحسب مصادر تاريخية متطابقة، سيطرة الجالية اليهودية على الأوضاع السياسية والاقتصادية والمالية، نتيجة المعاملات غير الشرعية (وفق المسلمين) كالربا والربح غير المشروع على حساب أوضاع المسلمين، زيادة على احتكارهم للسلع وبعض الممرات التجارية وآبار المياه، وتوسّع نفوذهم السياسي، واعتمدوا على الدسائس والإطاحة برؤوس الخصوم، بل وصل ببعض اليهود إلى انتحال صفة علماء الدين من أجل خدمة أطماع وأغراض الطائفة اليهودية.
في هذا السياق، ورد في كتاب "أفريقيا الغربية الإسلامية من مطلع القرن 16 إلى مطلع القرن 20)، لصاحبه يحيى بوعزيز "وجود يهودي متنكر في زي إمام أمّ المسلمين طيلة أربعين عامًا، وعندما افتضح أمره بواسطة المغيلي جمع حوائجه وحاول أن يفر ًّ فلحقه المغيلي وتولى قتله بنفسه".
بَينما لاحظ المغيلي تراجع أوضاع وأحوال المسلمين الاقتصادية والمالية نتيجة الاستغلال المالي للطائفة اليهودية، ومحاولاتهم إقامة كيان سياسي داخل مجتمع قائم، عبر استقطاب المزيد من اليهود ودفع المسلمين للهجرة، ومما أثار غضب العالم المغيلي هو انتشار دور العبادة للطائفة اليهودية على حساب عدد المساجد، رغم أن الأرض كانت للمسلمين وهو هو ما اعتبر وقتئذٍ استعلاءً على الدين الإسلامي، الذي يعد هو الدين الأصلي لساكنة واحات توات.
لم تكن تلك الخروقات التي أثارت انتباه الشيخ المغيلي اعتباطية ولا ظرفية، بل امتدت على فترات زمانية طويلة، إذ كان يُتابع تلك التحولات الاقتصادية والتغييرات في التركيبة المجتمعية، فعزم على تغيير الوضع القائم مجتهدًا ومحاربًا.
إسقاط صفة أهل الذمة
استقر الرأي الفقهي عند الشيخ عبد الكريم المغيلي على إسقاط صفة أهل الذمة عن الطائفة اليهودية، نظرًا إلى استقواء الجالية اليهودية على المسلمين، وبالتالي قرر إخراجهم ومحاربتهم من إقليم توات ومنطقة تمنطيط اعتبارًا أنها أرض للمسلمين.
أثار قرار وفتوى الشيخ المغيلي حفيظة ومعارضة بعض علماء المنطقة، وعلى رأسهم قاضي توات أبا عبيد الله العصنوني، الذي وقف ضد قرار ترحيل الطائفة اليهودية، وإخراجها من المنطقة ومن بين العلماء أيضًا: القاضي أبو زكريا والمفتي ابن زكري وعبد الله بن سبع وهم من علماء مدينة تلمسان.
إصرار المغيلي
في مقابل ذاك، تلقى عبد الكريم المغيلي تأييد ومناصرة عدد من علماء ومشايخ وسكان المنطقة،وقرر رفقة تلامذته وأهل تمنطيط هدم دور العبادة للطائفة اليهودية وحصل اقتتال بين السكان والطائفة اليهودية، بل وانتقل المغيلي إلى مدن أفريقيا في الصحراء الكبرى ينشر الإسلام وتعالميه ومحذرًا من تَغول الطائفة اليهودية والمسيحية، تحت غطاء الدوافع التجارية والاقتصادية على حساب بلاد المسلمين.
بعد حملته الأولى، وبينما كان الشيخ المغيلي مستقرًا في غرب الساحل الأفريقي، وصله نبأ مقتل ابنه الشيخ عبد الجبار في إقليم توات على يد اليهود، في سنة 1503، حيث عاد إلى توات رفقة جمع من أصحابه وتلامذته عازمًا على مواجهة الطائفة اليهودية، ولكنه لم ينج هذه المرة بسبب تواطئ الدولة الوطاسية في المغرب، فأقام زاوية بواحة بوعلي داعيًا إلى الإسلام ومحذرًا من مخاطر تهويد المنطقة إلى غاية وفاته سنة 1504 ميلادي.
أسقط المغيلي سيناريو تهويد الساحل والغرب الأفريقي وتهجير المسلمين من أراضيهم
أثر المغيلي
كان نشاط المغيلي يمتد من شمال إلى غاية العمق الأفريقي، جنوبًا وغربًا وشمالًا، وما تزال أثره الفكرية والدينية وتدخلاته السياسية لها واقع في المجتمعات الأفريقية على غرار السنغال ومالي والسودان والنيجر وغيرها، وما يزال أثره ومعالمه بحاجة إلى دراسة وبحوث واشتغال، بحسب متتبعين، وقد ترك وراه مخطوطات غزيرة في المجال الفقهي والعقائدي وعلم الأصول، ويعتقد اليوم أنّه استشرف منذ عقود طويلة محاولات"تَغول" الطائفة اليهودية ماديًا واقتصاديًا على حساب المسلمين، كما أسقط سيناريو تهويد الساحل والغرب الأفريقي وتهجير المسلمين من أراضيهم، وهو نفس السيناريو القائم اليوم في فلسطين منذ سنة 1948.