01-ديسمبر-2023
 (الصورة: Getty) ساحة المسجذ الأقصى

(الصورة: Getty) ساحة المسجذ الأقصى

تَقع حارة المغاربة غرب المسجد الأقصى ملاصقة بحائط البراق، وتعد الحارة من بين الأحياء الأثرية والتاريخية في القدس القديمة، وسمّيت بهذا الاسم نسبه إلى مشاركة مقاتلين من شمال أفريقيا، جاؤوا من أجل دحر الصلبيين وفتح بيت المقدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام 1193م.

خرج أبو مدين شعيب على رأس ألف فارس من مدن مغربية وجزائرية انطلاقًا من مدينة بجاية نحو فلسطين لتحرير القدس من الصليبيين

وقد أبلى طُلاب العلم وحُجّاج وعُلماء من أهل الجزائر وتونس والمغرب بلاءً شديدًا في تحرير بيت المقدس، فأغلب من شارك في الجهاد أثناء صد الحملات الصلبية كانوا من العلماء والمتصوفة وطلّاب العلم ومن حجاج البيت الحرام، وبعد تحرير بيت المقدس استقر كثير منهم في القدس، وقد تولى صلاح الدين رعايتهم وإيواءهم، فأوقف في سبيلهم المساكن المحيطة بحائط البراق، ومنذ ذلك الحين عرف الحي من مدينة القدس باسم "حارة المغاربة".

جزائريون مرابطون

شَكل مقاتلون من شمال أفريقيا ضمن كتائب جيش صلاح الدين الأيوبي، حسب روايات تارخية، أكثر  من ربع جيش المسلمين، وعرفوا بشجاعة وصمود لا مثيل لهما، فطلب صلاح الدين منهم الاستقرار والرباط في سبيل الله من أجل الدفاع والحفاظ على بيت المقدس، وأنشأ لهم مساكن وبنى جامعًا وأسس لهم مدرسة.

وكان من بين العلماء الذين شاركوا في صفوف كتائب وسرايا جيش صلاح الدينّ، العالم الفقيه المتصوف بومدين الغوث،  العالم الديني المعروف في الجزائر بإسهاماته في نشر العلم والفقه على المذهب المالكي واستقطاب طلبة العلم والحجاج والعلماء من شمال أفريقيا.

من هو بومدين الغوث؟

ينحدر الشيخ بومدين شعيب بن الحسين الأنصاري من مدينة إشبيليا بالأندلس، ولد عام 1115، وفي صباه حُرم من التعليم والتلقين، فهاجر إلى مدينة فاس المغربية مرورًا بمدينتي سبتة ومراكش.

في القرن الثالث عشر الميلادي كانت مدينة فاس منارة العلم ومقصدًا للطلبة والعلماء، حيث كانت المدينة تعجّ بالحركية الاقتصادية والتجارية فازدهر فيها العمران والبنيان.

هناك لازم بومدين مجالس الذكر والعلم، وتتلمذ على شيوخ التصوف، وقد نهل من علوم الباطن وفن التصوف والزهد، وتأثر كثيرًا بالإمام الغزالي وابن يعزى وابن حرزهم وابن غالب وأبي عبد الله الدقاق، وورث عنهم علوم التصوف.

الانتقال إلى المشرق

بعد إقامة طويلة في مدينة فاس، نال بومدين بركة وتزكية علمائه ومشايخه، وتاقت نفسه لزيارة بيت الله الحرام والمدينة المنورة وقبر رسول الله، وكله إرادة وعزيمة في التواصل مع العلماء والمشايخ هناك.

بحسب مصادر تاريخية فإنه في عام ،1160 وصل إلى بلاد الحجاز مرورًا بالجزائر وتونس وليبيا ومصر، وحينها التقى بالعالم المتصوف عبد القادر الجيلاني، ولازمه فترة تلقى فيها على يده دروسًا في علم الحديث، وأصول الفقه، وعلم التصوف وأسرار طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني، وقد تأثر أبو بومدين بالعالم عبد القادر الجيلاني تأثرًا بالغًا.

العودة إلى بجاية 

أمضى أبو مدين عقدين من الزمن في المشرق العربي، بعدها قرر العودة إلى المنطقة المغاربية، وعند مروره بمدينة بجاية عزم على الاستقرار بالمنطقة، ونشر وتدريس ما تعلمه من علوم في أصول الدين.

كانت مدينة بجاية في القرن السادس الهجري تعج بالنشاط الاقتصادي والتجاري، وشهدت الفترة ازدهار فكري وديني، وكانت قطبًا للمعرفة والعلم يرتحل إليها العلماء وطلبة العلم.

قضى أبو مدين شعيب أكثر من عقد ونصف في مدينة بجاية، مدرسًا ومعلمًا وواعظًا ومرشدًا، حيث تخرج على يده عدد من العلماء والمشايخ والفضلاء وانتشرت تعاليمه كل أنحاء بلدن شمال أفريقيا وغربها وجنوبها.

تجاوزت سمعة أبو مدين شعيب حدود مدينة بجاية وارتحل طلبة العلم إليه من مدن في المغرب وتونس ومالي وغرب وجنوب أفريقيا، ولأسباب سياسية تتعلق بكثرة مريدي وزوار أبو مدين شعيب قرر الانتقال وشد الرحال إلى مدينة تلمسان حيث استقر بها إلى غاية وفاته سنة 1197 ميلادي.

معركة حطين

قبل ذلك، وفي عام 1187 استنفر صلاح الدين الأيوبي كافة المسلمين من أجل تحرير الأراضي الإسلامية وعلى رأسها القدس الشريفة التي احتلها الصليبيون.ومما روي عن أبو مدين شعيب، أن خرج على رأس ألف فارس من مدن مغربية وجزائرية انطلاقًا من مدينة بجاية، وألفي رجل من المشاة، إلى أن بلغ فلسطين، فحارب هناك وبترت يده في معارك تحرير القدس.

جمع أبو مدين شعيب بين العلم والجهاد في سبيل الله، حيث استجاب أبو مدين رفقة طلبة العلم ومريديه لدعوة الجهاد والالتحاق بأرض الرباط الفلسطينية، وشارك جل أتباعه من طلبة المدارس القرآنية بمدينة بجاية وضواحيها، ممن انضموا إلى جيش صلاح الدين الأيوبي الذي قاد انتصارًا سياسيًا وعسكريًا ضدّ القوة العسكرية الصليبية.

بعد عودته إلى الجزائر، يقال إن سيدي بومدين أقام في بجاية لفترة طويلة قبر أن يقرر الانتقال إلى تلمسان ويتوفى في طريقه إليها، ومنهم من يقول إنه مكث مدّة يدرّس فيها طلبة العلم إلى غاية وفاته بمدينة تلمسان في أقصى غرب البلاد.

حاليًا، يوجد ضريح سيدي بومدين بمدينة تلمسان، بجانب مسجد بني تكريمًا للعالم المتصوف أبو مدين الغوث في زمن الدولة المرينية سنة 1339، ويعرف أيضًا بمسجد سيدي بومدين أو مسجد العباد.

هذا المسجد العريق، بني على الطراز الأندلسي، ويعتبر تحفة معمارية تاريخية بتصميمه وزخارفه وهندسته، ومجمعًا إسلاميًا يضم مدرسة وضريحًا وحمّامًا.ويحظى ضريح سيدي بومدين في الجزائر إلى اليوم، بتقدير خاص حيث أصبح مزارًا لكثيرين من كل ولايات الوطن، ومقامًا يقصده الناس والطلاب والسياح.

استجاب أبو مدين رفقة طلبة العلم ومريديه لدعوة الجهاد والالتحاق بأرض الرباط الفلسطينية

هذا السرد التاريخي، يؤكد مدى ارتباط الجزائر بالأراضي الفلسطينية، وهذا الارتباط العاطفي والديني والإنساني ما يزال يتدفق في وجدان الجزائريين تجاه القضية الفلسطينية، فلا يكاد يُذكر اسم أبو مدين شعيب، إلا واستحضرت القضية الفلسطينية وقصة باب المغاربة وبطولات الجزائريين في تحرير القدس.